إطلالة على ” حداثة ” السينما الوثائقية المعاصرة. بقلم صلاح هاشم
فيلم ” أمل ”
الى أي حد إستطاعت الأفلام الوثائقية الجديدة، القادمة من أنحاء العالم، من لبنان وفلسطين والسودان وفرنسا واليونان ومصروغيرها،والتي شاهدتها حديثا في بعض مهرجانات السينما الوثائقية الحديثة ،ومن ضمنها مهرجان ” الشاشات الوثائقية ” 22 في باريس، وبعض عروض الفيلم الوثائقي التي حضرتها في مصر
الى أي حد إستطاعت أن تعكس، إتجاهات الفكرالمعاصرللسينما الوثائقية، وتعرض لأبرز تياراته ” الحداثية ” ،ومدارسه الجديدة، وهي تجدد في ” النوع ” الوثائقي، وتطوره، وتتقدم به خطوة الى الأمام. أو ليس وظيقة السينما الأسمي أن تطور، وهي تربطنا بمشاكل عصرنا، وتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية، تطورمن فن السينما ذاته..؟
عرض ” مهرجان الشاشات الوثائقية “في باريس من تنظيم جمعية سينمائية صغيرة، في ضاحية أركوى كاشان، في دورته الأخيرة 22 أكثر من 60 فيلما وثائقيا، توزعت على عدة محاور في المهرجان. محور المسابقة، بمشاركة 8 أفلام، ومحور” السينما هي وطني “، لتكريم بعض السينمائيين الكبار من أمثال الفرنسي ” كريس ماركر ” أحد أبرز المخرجين التسجيليين في العالم، ومحور” العرض الأول ” الذي تعرض فيه بعض الأفلام الوثائقية الجديدة، التي لم تخرج بعد للعرض التجاري.وكان من بين تلك الأفلام التي عرضت في المحور الثالث،وأثارت إنتباهنا بشكل خاص، فيلم AMAL وثائقي طويل 83 دقيقة لمخرج مصري شاب إسمه محمد صيام ،ظل يصور فيلمه لفترة تزيد على 7 سنوات..
ويتميز الفيلم بـ ” حميميته ” الفائقة، التي تشكل في رأيي، أحد إتجاهات ” حداثة ” MODERNITY السينما الوثائقية المعاصرة، والتي تتوزع كما فهمتها وهضمتها، من خلال مشاهداتي في العديد من المهرجانات السينمائية الدولية، وبما في ذلك الأفلام التي عرضها المهرجان، وتتوزع على 3 محاور أو تيارات..
الأفلام صورة مصغرة للكون الكبير
محور أو تيار” الحميمية”، كما أحب أن أطلق عليه،الذي يهتم في السينما الوثائقية الجديدة بالانسان، ويغوص أكث،ر في سيكولوجيا ” الداخل “،فيعرض لما هو أشبه بـ ” السيرة الذاتية “، لشخص أو مواطن ما، لكن على خلفية سياسية واجتماعية، تجعل من الفيلم، في كليته الشمولية، وتكامل عناصره الفنية، أكثر من تأمل في ألم شخص، أو أنثي،أو ” نوع ” سينمائي ما..
بل تأمل في أكثر من ذلك، تأمل في ألم شعب بأكمله، شعب سرقت منه ثورته، وأطاحت بحلمه في التغيير..
ويبرز في هذا المحورالحميمي، عدة أفلام ” رائدة ” – من ضمنها فيلم” أمل” لمحمد صيام – عن جدارة، الذي يصبح مثيرا للشجن والجدل، وأكثر منه فيلم. يصبح ” أداة تفكير ” وتأمل ،تتحقق معهما وظيفة السينما الأساسية، إذ يقدم من خلال الحميمية والألفة، التي تجعلنا نتماهى مع بطلته، كشف حساب لما حدث في مصر، منذ قيام ثورة 25 يناير 2011 ولحد الآن، و الأحداث الكبرى التي عصفت بالبلاد آنذاك، ويشرح ومن دون أن يقصد ،كيف أكلت الثورة أولادها، وهويطرح سؤال ” الهوية ” الضروري في الفيلم،.بدقة وأناة وصبر..
كما ينضم الى هذا المحور ” الحميمي “- عصير إنسانية ؟- فيلمان رائعان هما : فيلم ( القليوبي صديق الحياة ) لسامي محمد على وسيناريو د.ثناء هاشم، وفيلم ” رمسيس راح فين “ لعمرو بيومي..
بوروكو غامض من اليونان
أما المحور الثاني ” الفيلم كتجربة شعورية وحسية”، ويهتم أصحاب هذا التيار، أن يتحول الفيلم كله ، الى” دفقة شعورية وجمالية كبيرة” تهزنا،وتذهب الى ما هو أبعد وأقوي، من قصة الفيلم، وموضوعه، وحبكته..
ويبرز في هذا الإطار، ويمثل هذا التيار الحسي هنا، ضمن الأفلام التي عرضها المهرجان في دورته 22، فيلم ” بوروكو غامض “الرائع للمخرجة اليونانية إيفنجيليا كرانيوتي التي سحرتنا بفيلمها OBSCURO BARROCO الذي يبحث في ” هوية ” الثقافة البرازيلية، المتعددة الاثنيات والأعراق والثقافات، وهوية مدينة ريو دي جانيرو،وكرنفالها الساحر، والغابة الاستوائية الامازونية، ويترك الكلام لفنانة برازيلية مثلية – إمراة في جسد رجل- تحكي ن علاقتها بجسدها،والمدينة البرازيلية العملاقة، ويلتقط الفيلم امتدادات فن الباروك، الذي نشأ في البرتغال،وهو يزرعنا في قلب كرنفال ريو دي جانيرو الصاخب، ليكون الفيلم في شموليته الفنية، أشبه مايكون، بطقس روحاني ، بشريط صوت رائع، يجعلنا نغوص في داخل تلك الثقافة البرازيلية ،التي تلطشنا في ماوراء القناع الخارجي ،بعنفوانها وسحرها..
وحسنا فعل المهرجان، عندما دعا مخرجة الفيلم إيفانجيليا كراليوتي للقاء خاص مع الجمهور، حكت فيه عن تجربتها، وتعدد مواهبهاالابداعية، حيث تشتغل على عدة فنون، مثل السينما والفيديو والفوتوغرافيا، في أن. والشيء المؤكد بعد أن شاهدنا في اللقاء معها، بعض مشاهد بعض الأفلام التي تشتغل عليها،أن هذه الفنانة اليونانية الشابة، التي تعيش كمهاجرة، وتعمل في باريس، سوف يصير لها شأن كبير، في تاريخ وذاكرة، السينما اليونانية المعاصرة..
دعوة لتحرير الخيال من الجاذبية الأرضية
ثم يأتي المحور الثالث وأحب أن أطلق عليه محور “دعنا ننسي الواقع،ونحلم بـعالم افتراضي “.أجل دعونا نصور واقعا افتراضيا ،ونجعله ممكنا ،كما في فيلم “فلسطين بلد من الكلمات” للفرنسي ماتياس بوب، حين يسأل شباب فلسطيني بعضهم البعض: كيف تتخيل فلسطين هذه، التي لم ترها قط من قبل في حياتك ؟ وكيف نصور هذه ” الجنة الموعودة” التي نحلم بها، وماذا لو تحررت فلسطين مثلا، وسمح لنا نحن سكان معسكر شاتيلا في لبنان، من اللاجئين ،بالعودة الى وطننا فلسطين ؟.كيف ستكون فلسطين هذه إذن، التي لم نرها قط في حياتنا؟.هذا ما يأتي على لسان الشباب الفلسطيني ،الذي ولد في الغربة،وداخل المعسكر، في فيلم “وطننا بلد من كلام “
OURS IS A COUNTRY OF WORDS“
للمخرج الفرنسي ماتياس بوب،وهذا التيار، هو دعوة لتحرير الخيال في السينما الوثائقية ، والتخلص إن صح التعبير، من قيود الجاذبية الأرضية، كما في معظم أفلام المخرج الفلسطيني الكبير إليا سليمان ، حين تصبح نواة مشمش – تخيل ؟ – قادرة مثل قنبلة ،على تدمير دبابات العدو الاسرائيلي الصهيوني، في بلد محتل..
حكاية ” أمل ” والثورة التي أكلت عيالها
وعودة هنا الى تيار الحميمية، لنكتشف كيف يبرز فيلم AMAM” أمل ” ببساطته ومصداقيته، وتميزه الفني، حين يروح يحكي لنا ببراءة، حكاية بنت مصرية غريبة، وعفريتة وذكية ،ومتمردة وثورية، ولايتعدى عمرها الـ 13 ربيعا ، ومع ذلك فهي تتصرف بحريتها، فتدخن مثل الكبار البالغين، وتشارك في الاعتصامات و المظاهرات الشعبية ضد نظام مبارك، وتلعب الكرة مع الصبيان في الشارع، وتتعرض للضرب ،وشد شعرها، وجرجرتها من قبل الشرطة في قلب المظاهرات الى أقسام البوليس، ولايعلم أحد لماذا تتصرف هكذا بحريتها، كما لوكانت غلاما ذكرا.أجل هكذا يراها “الفكر السلطوي” الرجعي المحافظ الرجولي المتخلف، الذي يريد إخراس الألسنة..
حيث لايليق بفتاة في مثل عمرها، وجنس النساء عموما في مصر، من منظور الفكر المهيمن السائد، أن يتصرفن بحرية، في مجتمعات ،خلقت أصلا للرجال والهيمنة الذكورية..
لكن أمل تأسرنا بشقاوتها، وخفة دمها،وتوحشها الفطري، وثورتهاعلى أوضاع الخضوع والخنوع، وبمرور الوقت، ونحن نتابع أحدث الفيلم،نرى أمل تكبر حتى تصير شابة عمرها 21 سنة، و تدخل أمل ،ونحن نتابعها سنة وراء سنة،تدخل في عملية تحول، ميتامورفوز – وتصبح بكيمياء الفن المدهشة، وبراعة المخرج محمد صيام، رمزا للحرية، والرغبة.. في التغيير..
تنحاز أمل في الفيلم، الى ” وصية ” الأب، الذي يمثل في الفيلم تيار الحرية، حيث يعي الأب أيضا في الفيلم، أن أمل سوف تستفيد مستقبلا من الأفلام التي يصنعها لها الأب في عيد ميلادها، وتبرز هنا ” قيمة ” السينما، في حياتنا، حين تحافظ تلك الأفلام لأمل على تاريخها وذاكرتها،وتحميهما من الضياع والاندثار، وهل يمكن أن يستشرف المرء المستقبل، إلا من خلال بعث وإستحضارالماضي، في كل لحظة، والتعلم والنهل من دروسه ؟..
في حين تمثل أم أمل ” في الفيلم ” التيار البرجوازي، المحافظ الرجعي،الذي يخاف من مشاركة ابنائه في المظاهرات،بل ولايريد،فليس من مصلحته طبقيا تغيير الأوضاع،واعلان التمرد والحرب ،على الظلم والفساد وجبروت السلطة، وتشجيع الشباب في ثورتهم الشعبية ،على أوضاع البلد المتردية، بعد أكثر من ثلاثين سنة من حكم الرئيس مبارك ، البوليسي العسكري الاستبدادي..
فيلم ” أمل ” ،يقدم نموذجا وثائقيا متقدما للسينما الوثائقية، في علاقتها بالتاريخ والذاكرة، حين يجعل من التحديق في مصيربنت مصرية شابة، فرصة ثمينة، حتى لو لم تكن تخطر على صاحب الفيلم، المخرج ذاته، وبوعي منه أو بدون وعي منه، لتقديم كشف حساب، ربما يجده البعض صادما ومريرا، لثورة 25 يناير المصرية..
لكن يقينا، هو كشف حساب متأمل وذكي، ولاتنقصه ” المصداقية “والتميز والإجادة. كشف حساب يحافظ على ذاكرتنا ،وكل تلك الفضائل العظيمة التي يفاخر بها الإنسان، من الاندثار والضياع، وآفة حارتنا، كما يقول نجيب محفوظ ” النسيان “، ويقربنا أكثر.. من إنسانيتنا..
فيلم ” أمل ” شارك في مهرجان ” الشاشات ” الوثائقية 22 في الفترة من 7 الى 13 نوفمبر 2019، وحضر مخرج الفيلم محمد صيام المهرجان، قادما من تونس،ليبلغنا بالنبأ السعيد ،الا وهو فوز فيلمه بجائزة ” التانيت الذهبي “لأحسن فيلم وثائقي في مسابقة مهرجان قرطاج الأخير في دورة 2019،والتي استحقها فيلمه، وربما ولكل تلك الأسباب التي ذكرناهاأنفا،وجعلته في رأيي،من أفضل انتاجات السينما الوثائقية المصرية في الخمس سنوات الأخيرة..
” القليوبي صديق الحياة”.تحية الى فارس وجيل بأكمله
كتب الشاعر المصري الكبير زين العابدين فؤاد ،يذكّر بمآثر صديقنا المشترك المخرج الكبير محمد كامل قليوبي، كتب زين يقول :
” ..محمد كامل القليوبي مثقف موسوعي نادر مترجم، وناقد وباحث ومخرج، اعاد اكتشاف تاريخ السنما المصرية باكمله، في فيلمه التسجيلي العظيم : محمد بيومي
وفتح ملفات قضية اعدام العاملين : البقري ومصطفي خميس، في فيلمه التسجيلي الاخير، وهو القليوبي أيضا، المناضل الطلابي الذي اعتقل في فبراير 1968 وهو طالب في هندسة عين شمس، ثم اعتقل في يناير 1975 وهو مهندس.
درس القليوبي الهندسة، لكنه عشق السنما،فحصل علي درجة الدكتوراة، واصبح استاذ السيناريو، والمخرج المتميز، وقد سكنا في نفس الشارع في شبرا في الستينات، وعشنا في نفس الزنزانة في سجن طرة عام ،1975 وكان معنا : احمد فؤاد نحم، وابراهيم منصور، ومحمد صالح وعبد الرحمن ابو عوف وصابر زرد ومحمد روميش، وقد غيروا سكنهم ، ورحنا معنا في رحلة نقل جسد عبد الفتاح الجمل ،من القاهرة الي دمياط، في صحبة ابراهيم اصلان ومحمد البساطي، و خرجنا معا في رحلة جسد محمد البساطي الاخيرة، وفي رحلة نبيهة لطفي الاخيرة.. “
وهنا ينتهي كلام زين العابدين فؤاد وأحب أن أضيف هنا من عندي، أن القليوبي كان كل هذه الأشياء لي وأكثر، وبخاصة عند جيل الستينيات، الجيل الذي ننتمي اليه، والذي فتح له عمنا عبد الفتاح الجمل، صفحات جريدة “المساء ” ،لينشر على العالم أشعاره ،وتطلعاته،دراساته وقصصه ،وأحلامه وأفكاره التنويرية ورغبته في التغيير ..
كان القليوبي يجسد لي ، حرص جيل باكمله ،على النهل من المعارف الجديدة،في الثورة والفكر والسينما ،على درب التنوير، والتغييرأيضا، وربما كان ذلك “الفضول المعرفي “، هو الذي جعل حياة الفارس، الذي سقط، و حياتنا ، بمثابة “رحلة ” مستمرة، للتقدم والتطور مع العصر والزمن ،ونقل المعارف الجديدة الى الاجيال الصاعدة، للوعي بزمننا ، وعصرنا،على درب التغيير،. لكن في وداع فارس سقط ، يظل اليقين الواحد : ستظل الرحلة مستمرة ..
في يوم الخميس 26 ديسمبر 2019، أثناء زيارتي لمصر، حرصت على حضورندوة بعنوان ( القليوبي صديق الحياة ) في قصر السينما بجاردن سيتي، وكانت عقدت،بعد عرض فيلم ( القليوبي صديق الحياة ) انتاج المركز القومي للسينما في مصر، ومن اخراج الأستاذ سامي محمد علي،وسيناريو د. ثناء هاشم،أستاذة السينما الوثائقية في المعهد العالي للسينما، وبحضور عدد كبير من أسرة القليوبي، وأساتذة وطلاب المعهد، من ضمنهم د. شوقي محمد علي عميد معهد السينما السابق، وشاعر مصر الكبير زين العابدين فؤاد،الذي يشارك بشهادة في الفيلم.. وكان الفيلم والندوة التي اعقبته، في رأيي، بمثابة تحية وحب وتقدير، ليس فقط لمحمد كامل القليوبي – ” فارس الحرية” كما أحب أن أطلق عليه – والمخرج والمثقف والمفكر السينمائي الموسوعي، بل لجيل الستينات الذي أنتمي اليه بأكمله، وراعي هذا الجيل، الأستاذ عبد الفتاح الجمل العظيم، الذي كان ينشر كما ذكرت، أعمالنا من قصص قصيرة( لابراهيم أصلان ومحد البساطي وجمال الغيطاني وغيرهم ) وشعر بالعامية ( للأبنودي وزين العابدين فؤاد، ونجيب شهاب الدين وغيرهم) ،ودراسات وترجمات فنية وأدبية وفكرية وفلسفية( للقليوبي وسامي خشبة وسيد سعيد وغيرهم) في صفحة المساء أيام الزمن الجميل، وفترة الستينيات العظيمة.زمن محمد كامل القليوبي، وتلك الفترة الثقافية المتوهجة، بالابدعات المصرية الأصيلة ،التي يحكي عنها الفيلم،ليكون- كما رأيته وتمثلته – ،في ” شموليته الفنية ” بمثابة ” رحلة ” في زمن آخر، أكثر جمالا ورقيا من زمننا الحالي، وبلد آخر،كان، ثم اختفي فجأة، والى الأبد من حياتنا، بعد أن إغتالته ريح الخراب والسموم ، وحرّاس الثقافة الرسمية ، وممنوع ” التفكير “وقمع ” الحريات ” ..
وكان أحدهم- روائي وضابط في الجيش – قدم بلاغا للمخابرات المصرية، ضد مجموعة كبيرة من المثقفين المصريين ” التنويريين ” الأحرار، من أمثال محمد كامل القليوبي، وزين العابدين فؤاد، فتم اعتقالهم جميعا..
لكنهم، ابدا لم يستسلموا، بل حولوا عنابر السجن، الى قاعة محاضرات في جامعة، للدرس والتحصيل، ومن تلك القاعة، رغم ذل السجن، والقهر والألم، خرجت أو إنبثقت – كما نوه الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد في مداخلته في الندوة. فكرة البحث عن المخرج محمد بيومي – رائد السينما المصرية- في الاسكندرية، فقد كانت زوجته ا لألمانية، مازالت على قيد الحياة، وكتابة قصة وتاريخ السينما المصرية من جديد. على يد القليوبي..
فيلم سامي محمد علي ( القليوبي صديق الحياة) هو فيلم وثائقي نموذجي شامل جامع، بشهاداته الانسانية الأصيلة، أكثر من 20 شهادة في الفيلم ( مثل شهادة شقيقة القليوبي المؤثرة، وشقيقه، وزوجته الروسية، ورامي إبنه )..
فيلم لبلد كان، ولم يعد، وزمن آخر، كان أكثررقيا وتحضرا، أكثر ثقافة وذكاء وفطنة، من زمننا الحال…
تحية الى سامي محمد على وثناء هاشم، على فيلمهما الانساني البديع، لأحد أصدقاء العمر، والسينما المصرية الجميلة ، تاريخها وذاكرتها، وتراثها السينمائي الرائع، وضميرها الحي..
” رمسيس راح فين” ؟. بوابة الى ” الأبدية “
في مركز الثقافة السينمائية في وسط البلد،القاهرة، شاهدت ايضا خلال زيارتي تلك لمصر، فيلما وثائقيا بديعا بكل المقاييس، فيلم ” رمسيس راح فين” لعمرو بيومي، الذي أعتبره بمثابة ” كنز” سينمائي حقيقي، وبشريط صوت وموسيقى مذهل، و “إضافة” الى إنجازات السينما الوثائقية، وتاريخها في مصر، وليس فيلما..
اعتبره درسا في السينما العظيمة ، وهدية من عمرو بيومي لكل المصريين ، تاريخهم وسينماهم، وتراثهم الروحاني العميق ،وعلاقتهم بكل السلطات. سلطة الأب، وسلطة الحاكم ، وعلاقتهم أيضا بخوفهم من السلطة ،ورغبتهم في الخلاص، والانعتاق ( حطمت قيودي) وبروميثيوس طليقا..
ولذا فهو إذن فيلم عن الحرية، والرغبة في التحرر من كل خوف ، والمصالحة مع الذات عند المخرج عمرو بيومي. حيث يقدم الفيلم الحميمي جدا ، في مايشبه السيرة الذاتية، يقدم حكاية الطفل عمرو بيومي، من مواليد 1960 من حي السكاكيني، بالقرب من ميدان رمسيس وحكايته في نطاق الأسرة البرجوازية التي نشأ فيها ،مع هيمنة و سلطة الأب ،وتحكمه في مصائر افرادها..وجبروته.. ويروح عمرو، عبر شريط الصوت في الفيلم ، يحكي عن علاقته بتمثال رمسيس ،الذي كان يمكن أن يراه من بعيد، من شرفة شقة الأسرة في ذلك الحي المصري العريق..
ويظهر عمروفي اول لقطة من الفيلم، وهو يحمل كاميرا و يصور لقطات للحي، وعلاقة الحي بكل السلطات والحكام، الذين حكموا بلدنا ،من عند سعد زغلول ومرورا بمحمد نجيب، وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، ولكل سلطة من هذه السلطات، حكايتها مع تمثال رمسيس،و علاقتها مع حضارة وادي النيل، واجدادنا ،وكيف وظفوها واستغلوها لمصلحة النظام..
وفي المقابل، يكشف كيف كانت علاقة الشعب المصري مع التمثال ،الذي يمثل امتدادات لتراثنا الروحاني الحي في المكان.انها علاقتهم مع أجدادهم ،مخترعو الأبدية، والضمير الانساني، وليس ابدا مع تمثال من الحجر..
ذاك التمثال الذي مازال يتذكر عمرو، انه كان وهو طفل يشاهد اعلانا عبارة عن فيلم تحريك، يظهر فيه كل الناس في مصر، وهي تسأل أين ذهب رمسيس، ولم اختفى ياتري ؟ عجيب !..
وتتعدد الاجابات في فيلم الكرتون، لتصل في النهاية، الى انه قد ذهب لكي يبحث عن آيس كريم ، من منتجات ألبان خير مصر،، ها ها ها..
ومن خلال حكايته عن تمثال رمسيس، يوثق عمر في فيلمه البديع، وهو يمر بجميع مراحل انتقال- أو بالأحري إقصاء- التمثال ،من ممفيس القديمة في الجيزة ثم الى ميدان رمسيس ( ميدان نهضة مصر سابقا بحضور تمثال المثال المصري العبقري مختار في وسط الميدان آنذاك) والى مكانه أو منفاه الحالي..
يوثق عمرولعدة أشياء، في مغامرة الحياة التي عاشها ، وكل الحروب مادية ونفسانية – عمرو خدم في الجيش- التي خاضها: يوثق أولا علاقته بسلطة الأب، وخوفه من الأب، مع استسلام ورضوخ الأم، ومحاولته عمروالدفاع عنها، وعلاقة رمسيس كحاكم ،وقائد عسكري، بالسلطات التي حكمت البلاد، ولم يكن لرمسيس للأسف، أي محل من الاعراب مع كل سلطة..
ويوثق الفيلم أيضا ، للعلاقة التي تربط بين مصائر البشر، وأقدار تمثال من الحجر، لكن رمسيس ليس اي حجر..
أنه رمز لحضارة مصر القديمة ، في شخص فرعون، الرب والحاكم والاله ، وكل القيم الروحانية العظيمة، التي جسدتها حضارة مصر القديمة ،أم الدنيا ، وتراثها الانساني الرفيع..
فالمصري يعتبر، على عكس كل السلطات، يعتبر أن قدماء المصريين هم أجداده.. وقد ماتوا فقط بأجسادهم، لكن أرواحهم التي تسكن كل مولود مصري جديد، تولد معه من جديد، وتبعث حية..
ويوثق لعلاقة الشعب المصري بسلطة الأب – الحاكم، ونري مثلا في الفيلم الملايين التي خرجت في الشوارع، لوداع الزعيم الأب جمال عبد الناصر،عندما مات..
ويتوهج الفيلم، بكل حكاياته الانسانية الحميمية الآسرة، التي يجدلها عمرو بيومي ببراعة فنان صوفي، وبدفء انساني عميق، ونفس شاعر، أو كاهن مصري قديم من عصر الأسرات، ويجعلنا نشارك المصريين وداعهم لجدهم الأكبر، وحبيبهم رمسيس، في رحلته الى منفاه الجديد، بمصاحبة أهازيج ومواويل، وقصائد غنائية من التراث الشعبي المصري العريق، وهو ينسج من فيلمه الشخصي، قصيدة حب تطهرية، بعد أن يقهر في الفيلم خوفه ، ويتحرر أخيرا من سلطة الأب، وينطلق مثل بروميثيوس حرا
كلا ..كلا.. يصرخ عمرو، حين يشاهد مظاهرات انتفاضة الخبز، في فترة السبعينيات في مصر- على عكس الأب – ويردد: ابدا.. كلا انها ليست ” فوضى ” أنها ” ثورة “، وهو يمنح الأشياء والأحداث أسمائها الحقيقية، ويجعلنا في صحبته وحكاياته، وفيلمه، نتتطهر معه.. من كل ذنوبنا..
فيلم ” رمسيس راح فين ” لعمرو بيومي، الذي حصد جائزة أحسن فيلم في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة في مهرجان الاسماعيلية الدورة ،21 يوثق لذاكرتنا وتاريخنا، بمشاهد وثائقية رائعة، ونادرة، وبعضها بعدسة الفنان المرحوم مجدي يوسف.. فيفتح لنا ايضا ، بوابة الى الأبدية،ويجعلنا نتصالح مع أنفسنا والعالم، وهو يتسامق بانسانيتنا ، وروحانيتنا.. وروحانية.. مصرالعميقة..
صلاح هاشم مصطفى
صلاح هاشم كاتب وناقد ومخرج سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا، ومؤسس ورئيس تحرير موقع ( سينما إيزيس ) عام 2005 في باريس.فرنسا
عن موقع مجلة ( س ) على الرابط المرفق
—