الأناسة الروبوتية وما بعد الإنسان : هل هي نهاية فن التصوير والمصور البارع في عالم الذكاء الصناعي والروبوتات ؟ بقلم نبيل عبد الفتاح
لعب فن التصوير الفوتوغرافي والسينمائي والتلفازي دورا مركزيا في بناء الذاكرة والمخيلة الإنسانية، والعالمية ، وأثر في تشكيل الذائقة الإنسانية للجموع الغفيرة، والأفراد، في تكوين ثقافة العيون، والسعي إلى محو الأمية البصرية، التي تسود بعض الفئات الإجتماعية، لاسيما في المجتمعات، التي ماتزال في دوائر التخلف الإقتصادي، والإجتماعي والثقافي والسياسي في جنوب العالم، على الرغم من تطور فنون التصوير المرئي، وحركيته، مع فن السينما الساحر،، ثم التلفاز ، ثم المنصات الرقمية .
المصور الأمريكي العظيم الفنان إدوارد هوبر
إلا أن ذلك لم يؤدي رغم تقنيات التصوير عبر الزمن، إلى تراجع وضعف التصوير الفوتوغرافي، والسينمائي والرقمي، مع الهاتف المحمول، والألواح الرقمية، وتحول مليارات من البشر الى مصورين، لذوالتهم وللآخرين، والأمكنة والحياة اليومية، والوقائع والأحداث المختلفة،فور وقوعها، وباتت الحياة موضوعا للتصوير، وتحول مليارات من البشر الى مصورين من خلال هواتفهم المحمولة .
توثيق الحياة وتفاصيلها في كل المجتمعات، بات جزءا من حياة الأغلبيات والجموع الإنسانية والرقمية الغفيرة.
التصوير كفن، قام ببنائه وتأسيسه وتطويره مصورين عظام، إستطاعوا بعيونهم وكاميراتهم، إعادة تكوين البشر والأمكنة والأحداث ، من منظور جمالي، عبر زوايا التصوير ، والعلاقات بين المكان والبشر، والحجر والنور والظلال، وتحويل الصورة من حالة الصمت، إلى البوح والنطق، والتعبير من الأبيض والأسود، والظلال فيما بينهما، إلى حالة فنية وبصرية وتعبيرية وجمالية، تضارع التصوير الشكلي والنحت، مع نحو بات كبار الفنانين في كل الثقافات، إستخدام الكاميرا في توثيق الصور الملهمة لهم، التي ستتحول من الفوتوغرافيا إلى التشكيل والنحت، ومن أبرز هؤلاء الفنان المصور الأمريكي العظيم إدوارد هوبر، ولوحاته الرائعة عن حالة الإغتراب الأمريكية الرأسمالية، ومعها عالم الأمكنة ، التي تبدو وكأنها تعيش الإغتراب، ومعها الطبيعة، في ظل هيمنة حالة من التشيوء الإنساني، وفي الكتل المعمارية .
لاتزال الصور الفوتوغرافية والرقمية،أحد مصادر الإلهام للعديدين، لأنها تتناول تفاصيل التفاصيل في اليومي والمشهدي والخصوصي والعام، وتداخلاتهم في حياة الأفراد والجماعات، ولأن اليومي، رغم بعض من تكراراته، إلا أنه ينطوي على الإستثنائي والمتداول، إلى جانب الجوانب النمطية، وتكراراتها، في المجتمعات الأكثر تطورا، وفي الجنوب ، ومجتمعاته المتوسطية والصغيرة والأكثر فقرا.
كانت الكاميرات، هي جزء من حركة السياحة من الشمال، واليابان، حيث الولع الياباني بتصوير اللحظة، وربما حياتها كصورة تم إلتقاطها، أينما ذهب الياباني، الى الغرب، أو الشرق أو مصر، أو أفريقيا ..إلخ.كانت الكاميرا أداة، والصورة وإلتقاطها، هي.. حياة في السياحة !
حول كبار المصورين الفوتوغرافيين الكاميرا ، إلى أداة لتشكيل الحياة،إعادة تمثيلها، وحولت عيونهم المبدعة الواقع-الحدث-المكان وتفصيلاته ، إلى تركيب جمالي، يبدو لوهلة متماهيا مع الواقع ، إلا أن النظرة المتأملة، سرعان ما تكتشف أن الصورة اللوحة، ليست سوى تحويل الواقع الموضوعي الى تخييلات جمالية، من التركيز على التفاصيل والهوامش والزوايا والظلال، على نحو جعل من التصوير الفوتوغرافي حالة جمالية، أضافت الى الفنون فنا جديدامع اكتشاف الكاميرا وتطوراته التقنية التالية..
نستطيع القول ان خصوصية الصورة الفوتوغرافية- اللوحة، تطورت على ايدي وعيون المصورين المبدعين الكبار، وتحولت مع بعضهم، في الصحافة ثم المجلات، الى توثيق بصري للسياسة والفنون والحياة اليومية، وبرع كبار المصورين الصحفيين، في صناعة الشهرة والمشاهير، مع شركات العلاقات العامة، وفق دانيال بروستين في كتابه ” الصورة والاحداث الزائفة ” وذلك على الرغم من توظيف الصحافة الامريكية للصورة، في صناعة الاحداث الزائفة،.إلا أن بعض كبار المصورين المصورين المبدعين، على الرغم من عملهم في الصحف والمجلات الامريكية الكبرى، وفي اطار سياساتها التحريرية، لم يغفلوا البعد الفني والجمالي في لقطاتهم وصورهم، وذلك حتى مع تسليع الجسد الانثوي للمثلات الكبار في السينما الامريكية والاوروبية، وكانت صورهم تحمل الملامح والتفصيلات الجمالية في الجسم الانثوي، وليس فقط البعد الاثاري والشهواني،وانما قدموا جماليات الجسد !، وهم قلة من ذوي العيون المبدعة.
ظلت الصورة الفوتوغرافية لوحة ذات خصوصية، عن حركية الصورة السينمائية في الافلام الروائية ،ثم تطورها من الحكاية الى استقلالية السرديات السينمائية وخصوصياتها ،التي لاتعتمد على الحكاية- الرواية، الى خصوصيات السرد السينمائي وبناءه في السيناريو والحوار والتصوير الخ – ظلت الصورة ،ولاتزال حاضرة، في ثقافة العيون.
لاشك ان فن الفوتوغرافيا وشموله لمجالات وتفصيلات الحياة الانسانية الفردية والجماعية – السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ،والطبيعية وتحولاتها، لايزال حاضرا ، واثر في تطور تطور جماليات السرد السينمائي والتلفازي..
مع الثورة الرقمية والاتصالية، واختراع الهاتف المحمول النقال ، تحولت الجماهير الغفيرة الى مصورين ، ومليارات من البشر يصورون كل شييء امامهم وتحولت الصورة الرقمية والفيديو —الى اداة لتوثيق تفاصيل الحياة الفردية والجماعية ، واحداث السياسة والاقتصاد والجرائم، والى احد ادوات الرقابة الشعبية ،على اداء الاجهزة الحكومية، حتى في الدول الاقل تطورا ، والنظم الشمولية والتسلطية..
ثورة الرقمنة ووسائل التواصل الاجتماعي، أدت الى تحول الهاتف النقال بديلا عن الكاميرات الفوتوغرافية التي تراجعت نسبيا في ايادي مئات الملايين والمليارات من الجماهير— والرقمية الغفيرة،ومعها تراجعت الجوانب الفنية والجمالية للصورة الرقمية والفيديوهات — والقصيرة — التي باتت جزءا من الثقافة الرقمية ، التي ادت الى تغيير في نمط الاستهلاك البصري القرائي للمنشورات والصور والفيديوهات القصيرة جدا، وباتت النظرة الومضة السريعة هي المهيمنة على الاستهلاك الرقمي- والاستثناءات محدودة للمستهلكين الرقميين – ومن ثم غاب التامل البصري والقرائي، لصالح النظرات العجلى السريعة، التي تنتقل من منشور وتغريدة وصور وفيديو لاخر، مع نحو فائق السرعة، ولاشك ان ذلك أدى الى— الاستهلاك الرقمي السريع، وشيوع السطحية القرائية والنظرة الومضة كسمت سائد في الحياة الرقمية ..
وذلك على الرغم من ان الفيس بوك بات مركزا لتدفق الصور بالابيض والاسود لكبار المصورين عن الحية اليومية، والاحداث التاريخية ، والطبيعة والامكنة والعواصم والأرياف والشواطييء والشوارع، ودور العرض السينمائية والمسارح، والوجوه العادية ، والمشاهير في تاريخ السينما وعصورها الذهبية، وجميلاتها من الفنانات الشهيرات في السينما الامريكية والاوروبية وغيرها، في حالة من النوستالجيا ، التي تخايل عديدين من الاجيال الاكبر سنا، وقلة من الاجيال الشابة !..
في ظل الرقمنة لاتزال الصورة الرقمية واستهلاكها فائق السرعة، هي جزء من الايقاعات بالغة السرعة لهذا العصر، والتي جاءت كجزء من السرعة الفائقة لانماط الحياة التي بدات مع نظام الاكل السريع فاست فوود FAST FOOD ، ومكدلة العالم- من وجبة الماكدونالد السريعة – ومن الشيق ملاحظة ان الصور الرقمية باتت تركز في عديدها، تصوير الذات الفعلية الفعلية الرقمية، في المنزل والعمل والشارع والمركبات العامة والخاصة – وفي اللهو البريء بل في تصوير بعض اللحظات الحميمية، او في الاثارة وبعض العري جذبا للتفضيلات، وسعيا وراء المال من الشركات الرقمية الكبرى..
تحولت مليارات الصور الرقمية المتدفقة والمنشورات والتغريدات والفيديوهات، الى جزء من عالم البيانات الضخمة بيج داتا BIG DATA التي توظفها الشركات الرقمية، في اعادة تشكيل الاذواق ، والسلوك الاستهلاكي، والاخطر تشييء الانسان..
باتت المنشورات والتغريدات والصور والفيديوهات جزءا من البيانات الضخمة التي تعيد انتاجنا كمادة واشياء ، وبالأحرى كحيوانات استهلاكية، واستلابنا في الحياة.بات الاستلاب والاغتراب الانساني ، جزء من أجزء من الحياة ، على نحو يجعلنا، جزءا من عالم المصور التشكيلي والفوتوغرافي الذي رسمه الفنان الأمريكي العظيم ادوارد هوبر الإنسان المغترب ،والمكان المغترب والابنية التى تتألم من اغترابها..
الاخطر ان الصور والفيديوهات الرقمية الاقرب الى الومضات البصرية لدى مستهلكيها، تمثل حالة من حالات العري الرقمي، والانكشاف الانساني ونهاية للخصوصية..
تفاصيل حياتنا تكشف عنها الصور والفيديوهات، واراءنا تكشفها عنها المنشورات والتغريدات في كتابات سريعة وسطحية وتافهة، فيها الوعظ الاخلاقي الساذج والاحكام المطلقة الفارغة والوعظ الديني والسياسي ، وخاصة في عالم التواصل الاجتماعي العربي- إنكشاف كامل وتعرية لمئات الملايين العرب وغيرهم، لانهيارات التعليم، وعسر الحياة ، وهيمنة تدين الجموع الرقمية الغفيرة حول ديانة الفقهاء القدامي وتابعيهم، والوعاظ ورجال الدين، والداعيات ..الخ !
منصات رقمية للوعظ، والهتافات السياسية ،تنطق بها الصور التي غادرت جمالياتها، والصحف والمجلات، التي تبدو في حالة من الموت الاكلينيكي الفعلي والرقمي.
تدهور فن الصور الفوتوغرافية، والاستثناءات محدودة، فلم تعد الصورة الفوتوغرافية احد فنون الصحف، وانما باتت صور الملك، والشيخ ، والامير، والرئيس ، وابناء بعضهم على نحو نمطي !
لم يعد مسموحا للمصور الصحفي ان يقدم الصور الانفرادية او الصور الفنية، لصالح صور القادة وحركتهم في الشارع، أو في المؤتمرات الرسمية..
خارج العالم العربي لاتزال الصورة الفوتوغرافية حاضرة من خلال المصورين المحترفين والهواة في الصحف والمجلات، غير انها باتت تعاني من بعض العسر، وخاصة في ظل تحول المليارات من الافراد والجموع الغفيرة الى مصورين هواة!
تغيرات وتحولات عالمنا، يبدو ان بشائرها التقنية في التحول الى عالم الثورة الصناعية الرابعة ترهص بتحولات صعبة، في ظل الثورة الرقمية فائقة السرعة والذكاء الصناعي، والتحول الى عصر الأناسة الروبوتية والى ما بعد الانسان..
حالة الاضطراب والسيولة، وبعض الفوضى في عالمنا والحروب، وبعض النزاعات الاهلية، تمثل حالة من القلق الكوني، في ظل ردود الطبيعة على الاستغلال الانساني، وظهور اختلالات البيئية والاحتباس الحراري، والفيروسات المتحورة مثال فيروس كورونا المتحول، يتجلى الان في اضطراب السلوك الانساني، مع الازمات الاقتصادية والاجتماعية ، على نحو مايظهر في دول العسر العربي!
باتت الصور والفيديوهات — والمنشورات والتغريدات، تنطق بحالة من الهذيان العقلي والسلوكي لدى غالب الفاعلين والمستهلكين الرقميين، بينما الشركات الرقمية الكبرى تطور من انظمة الذكاء الاصطناعي والروبوتات، التي بدأت في اداء وظائف الانسان في الحياة ، وتشكل تهديدا لبعض مظاهر التفكير والسلوك الانساني.
مفهوم العمل الانساني بات يتحول نحو العمل الروبوتي وتطويراته مع الذكاء الصناعي.. !..
هناك 300 مليون وظيفة وعامل سيخرج من اسواق العمل عام 2050 ، وربما اكثر مع التطورات المذهلة للروبوتات.هل يتاثر عمل المصور الفوتوغرافي ومليارات المصورين الرقميين لحياتهم على الواقع الفعلي والافتراضي ؟
يبدو هذا مرجحا، مع احتمالات تطور الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وخاصة مع بدء نظام المحادثة او الدردشة CHAT GPT الذي بدا في كتلبة المقالات، وبعض الشعر والقصة، على نحو قد يؤدي مستقبلا الى نهاية الصحف والشاعر والقاص والروائي، مع تطورات عالم الروبوتات، وخطورة هذا التطور المذهل، انه دخل المنطقة العقلية الابداعية ،التي كانت من الخصوصيات الانسانية !. صحيح ان التطور الراهن لايزال به بعض الاعطاب، وينتج انظمة المعلومات المتاحة، الا ان ذلك يشكل المرحلة الاولى من التطور الروبوتي.
في ظل ثورة الذكاء الصناعي فائق السرعة ،والتطور، يتم استخدامها في السينما والموسيقى والفن التشكيلي، وستطور الالواح الرقمية والهاتف النقال المحمول ،ومعها الكاميرات السينمائية والفوتوغرافية، وسيؤدي الذكاء الصناعي الى حضور الروبوتات، الى حلولهما محل المصور والصورة الفوتوغرافية.!..
هل سيؤدي ذلك الى نهاية ثقافة العيون التي شكلها المصورين والسينمائيين والرسامين والنحاتين والروائيين والشعراء والنقاد ؟
يبدو ان ذلك مرجحا ، خاصة في ظل المنافسات الضارية بين الشركات الرقمية الكبرى والعملاقة، وغياب التنظيم القانوني لهذه التجارب، والتطويرات للروبوت، وانظمة الذكاء الاصطناعي، على المستوى الدولي، خاصة في الدول الاكثر تطورا، على الرغم من ان ايلون ماسك وآخرين ، طالبوا بوقف هذه البرامج لمدة ستة اشهر حفاظا على الوجود الانساني والمخاطر المحلقة، من وراء تطويرات الروبوتات الذكية وانظمة الذكاء الصناعي ، ومع ذلك لايزالون في صراع علني وخفي من خلال التطويرات السريعة لهذه الانظمة..
في ظل هذه المراحل الانتقالية السائلة والمضطربة، هل هناك امكانية للتشاءول على رأي أميل حبيبي الروائي الفلسطيني المتشائل ؟
في ظل حالة التشاءو ل، هناك رهان على أن يحدث بعض من الرشد العقلاني ، عتد الادارات السياسية في الدول الاكثر تطورا في عالمنا ، مع وضع تنظيم ورؤية إنسانوية متجددة، للعلاقات بين الانسان والطبيعة، والانسان وعالم الروبوتات، ومرحلة ما بعد الانسان، وتنظيم هذه العلاقات، حفاظا على الوجود الانساني في الحياة الكونية، في توازن نسبي.
هذا تفكير ضمن الماينبغيات، واحكام القيم الاخلاقية القديمة، ويبدو ان نهاية العمل الانساني في مجال الابداع ستغادره ،ويجلس مع اغترابه في حالة من البطالة العدمية، غالب الانسان العامل، لصالح اجيال جديدة قادمة ، تعمل في صراع مع الروبوتات الذكية، وسيشكل هذا الصراع المصير الانساني..
في ظل هذه اللحظة المضطربة، لانزال نعشق عالم الصور الفوتوغرافية والسينمائية المبدعة للمصورين العظام ، الذين شكلوا واعادوا بناء العالم، تخيييليا ، ، وجماليا ووعيا بالوجود..
وها نحن نعيش الحنين الى تفصيلات الابيض والاسود، ومابينهم من ظلال وتفصيلات ولمحات ، وتعبيرات الوجوه، والأجساد ، والأشياء، وتقلبات الطبيعة، والاغتراب والتشيؤ الانساني..
الإنسان يغادرنا لصالح الروبوت، ومعه مراحل التاريخ الإنساني،.. وأسفاه !
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب ومفكر تنويري وإستراتيجي مصري مقيم في القاهرة.مصر
***
اللوحات المرفقة مع المقال للفنان المصور الأمريكي العظيم إدوارد هوبر