التعليم والوحدة القومية بقلم نبيل عبد الفتاح
من أبرز ظواهر التعليم فى عالمنا العربى، الانقسام إلى نظامين مدنى، ودينى، التعليم المدنى يفترض أنه يشكل مع الثقافة الوطنية أحد أبرز سياسات الاندماج الوطنى، بين كافة التلاميذ والطلاب أيا كانت انتماءاتهم الاجتماعية، من الفئات العلمية مفرطة الثراء إلى الفئات الوسطى، وشرائحها المختلفة، إلى أبناء الفئات المعسورة. من العمال والفلاحين والبدو، والمناطق الهامشية والطرفية، وذلك لأن المدرسة الوطنية مؤسسة للتنشئة الاجتماعية مع الأسرة، وأيضا التنشئة السياسية في النظم الديمقراطية التمثيلية، والأنظمة الشمولية والتسلطية وفق الايديولوجيةالمسيطرة،
وذلك من خلال المناهج المقررة على جميع أبناء هذه الفئات، من خلال تعظيم القيم والمكونات الثقافية العابرة لهذه الفئات، والتى تمثل ثقافة الوطن كله وتعدديات مكوناتها أيا كانت مصادرها، فضلًا عن القيم السياسية، والأخلاقية. النظام التعليمى الدينى يؤدى إلى فرض الدين ومذهب الأغلبية الدينية الإسلامية. التعليم الدينى لدى بعض المكونات المسيحية الشرقية بحسب المذهب أرثوذكسي، وكاثوليكى وبروتساتنتى ـ مثل لبنان، ومصر، وسوريا، والعراق، والسودان ـ من ثم يشكل التعليم الدينى مؤسسة لإعادة إنتاج التعدد الدينى والمذهبى أيا كان، ومن ثم لا يشكل أداة توحيد وطنى حول الأديان والعقائد والمذاهب، وقيمها، ولا توجد غالبا مناهج حول القيم الدينية المشتركة العابرة للأديان والمذاهب، حول المساواة، والحرية والعدالة، والإخاء، والصداقة، والمحبة، ووحدة الانتماء الإنسانى. ومن ثم مواد حول المواطنة، وأجيال حركة حقوق الإنسان العالمية علي نحو ماتذهب إليه الاتجاهات المعاصرة في التحول الي الثورة الصناعية الرابعة ومابعدها في مجالات التقنية البرقية والذكاء الصناعي، والأناسة الروبوتية واثرها علي أسواق العمل والتعليم ونمط الوظائف المتاحة في الأسواق واكثر من ٥٠ مليون موظف وعامل سيكونون خارج سوق العمل بحلول 2030 ونهاية مكان العمل وفق ريفيكن، والأخطر أسئلة عالم الروبوتات ومابعد الإنسان علي الفكر الديني السائد كونيا ،
وهي أسئلة ستكون مختلفة وصادمة علي العقل الديني والمذهبي وأنماط تكوينه السائدة !. من ناحية أخري حوارات التعليم الدينى السائد تدور حول النظام العقائدى والطقوسى والقيمى داخل كل مذهب، وسردياته التاريخية الوضعية، وتمايزاته عن الأديان والمذاهب الأخرى! نحن إذن أمام نظام تعليمى دينى يعيد إنتاج الانقسامات والتمايز الدينى، بين التلاميذ، والطلاب فى التعليم العام ،وما بعده في التعليم الديني!. هذا النمط الانقسامى مع استمرارية ضعف أنماط الثقافة المشتركة، والقيم الإنسانية، على نحو ما يمثله الاتجاه العالمى لإصدار وثائق كونية حول القيم الدينية والثقافية العابرة للأديان والمذاهب والثقافات.
التعليم المدنى، والمؤسسات التعليمية، انقسامية وتعيد إنتاج التمايزات الطبقية فى المجتمعات العربية، وذلك نظرًا لتعدده على أساس الانتماء الطبقى للطلاب، ما بين التعليم العام، والتعليم الخاص. نظام التعليم العام، تدخل إلى فضاءاته الفئات الوسطى، وأبناء الأغلبيات الشعبية بالنظر إلى قلة مصروفاته الرسمية، على ضعف مستويات العملية التعليمية من جماعة المدرسين والمعلمين والمناهج المقررة والإدارة التعليمية، لهشاشة تكوين جماعة المعلمين والمعلمات، والحشو فى المناهج، واعتماد سياسة الحفظ والاستظهار فى العملية التعليمية، وتداخلها مع الشروح الدينية للمدرسين والمعلمين للطلاب للمناهج المقررة، لتفشى التفكير الدينى النقلى والسلفى للسلفيين، وجماعة الإخوان، داخل هذه الجماعات، منذ سياسة حسن الترابى فى السودان، وتم تبنيها من الاخوان فى مصر، وتابعهم السلفيون، ووصولها إلى كافة مراحل التعليم المدني، والديني، وفق سياسة الجهاد الأكبر للترابى! فى عهد جعفر محمد نميري، وما بعد الي حكم حزب المؤتمر الوطني السوداني وعمر احمد حسن البشير، وهو ما تظهر آثاره الآن في المجتمع وجهاز الدولة السوداني من تفشي التشدد الديني في مرحلة الأنتفاضة الجماهيرية الكبرى!. التعليم المدنى، وانقساماته، هو طبقى بامتياز من خلال توجه أبناء الأثرياء، والفئات الوسطى العليا، وبعض الوسطى ـ الوسطى، إلى التعليم الخاص ما قبل الجامعى، لتعليم اللغات الأجنبية لاسيما الانجليزية، ثم ازداد الانقسام مع انفجار الجامعات الخاصة! المؤسسة التعليمية هنا تؤدى إلى إعادة إنتاج العلاقات الطبقية، وتمايزها عن الفئات غير القادرة، والأخطر التمييز فى الفرص المتاحة بأسواق العمل لبعضهم دون البعض الآخر، والأخطر فى تراجع الموحدات الثقافية، بين الطلاب، والخريجين فى كافة مراحل التعليم، خاصة فى ظل ضعف الموحدات الثقافية العامة، بين أبناء الأمة المصرية الواحدة التي تشكلت علي نحو شبه حداثي منذ المرحلة شبه الليبرالية إلى الناصرية!.
ساهم فى ضعف البُعد الثقافى المشترك، ضعف تعليم اللغة العربية وآدابها التاريخية الي المرحلة المعاصرة، الأخطر ضعف التمكن من هذه اللغة الموحدة لدى جماعة المدرسين والمعلمين، وتعليمهم الدرس باللغة العامية! من أبرز مظاهر ضعف التعليم المدنى الانقسامى ظاهرة الدروس الخصوصية، ومراكز تعليم الدروس الخصوصية التى أدت إلى إضعاف العملية التعليمية، حتى فى كليات العلوم التطبيقية/ الطبيعية، الطب، والهندسة، وطب الأسنان، والعلوم! بما فيها الجامعات الخاصة. من هنا خطورة تحويل هذه الظاهرة من جانبها اللارسمى، الخطر على التعليم منذ عقد الستينيات، وحتى الآن! إلى ظاهرة مشروعة رسميا،! مما يؤثر سلبا على العملية التعليمية كلها، لصالح نظام التعليم الخصوص اللارسمى!. وهو ما سيؤدي الي رفع رسوم هذه المراكز الخصوصية، ودروس التقوية المقننة اصلا فى المدارس العامة على نحو اضعف، ولا يزال العملية التعليمية ومخرجاتها!.
السياسة التعليمية، ومناهجها تحتاج إلى نظرة كلية لنقلها من مجال إنتاج الانقسامات المجتمعية إلى توحيدها فى ظل المدرسة القومية الجمهورية، على النسق الفرنسى للمدرسة الجمهورية الموحدة، للقيم الوطنية الفرنسية.
لابد من نقل المناهج التعليمية من مجال العقل النقلى إلى العقل النقدى المتسائل، وإلى الربط بين السياسة التعليمية، والمهن المستقبلية الصاعدة، وسوق العمل الجديد المختلف. من هنا نبدأ!.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب ومفكر مصري مقيم في القاهرة.مصر
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ 27 أكتوبر 2022 لـ”مختارات سينما إيزيس”