الثقافة والثورة الرقمية بقلم نبيل عبد الفتاح
تبدو الإشارات الأولية للتحول فى أنماط استهلاك وإنتاج الثقافات منذ عقد التسعينيات من القرن الماضى، والانتقال من الثقافة الرفيعة إلى الثقافة الجماهيرية التى تخاطب الأجيال الشابة الجديدة فى الموسيقى والغناء، والسينما والمسرح، وتراجع نسبى لما ما كان يطلق عليه الفنون الرفيعة كالأوبرا، والسيمفونيات والباليه، والفنون التشكيلية، وذلك للتغير الجيلى فى الأذواق، والمعرفة، وفرض كل جيل لاختياراته فى الحياة والتذوق الفنى . كان وراء هذا التحول الذى بات واضحًا فى أنماط استهلاك الثقافة، وتمثلها، هو التحول إلى عالم الجموع الغفيرة، فى المجتمعات الأكثر تطورًا..
وعالم الاستهلاك المفرط، فى كل تفاصيل الحياة فى السلع والخدمات وحالة التشيؤ الإنسانى المرسمل، وأيضا عصر السرعة الفائقة، والدخول إلى عالم الاشياء فى جميع مناحيها، فى نظام الزى، والأكل السريع على النمط الأمريكى Fast Food، والإيقاعات والأغانى السريعة fast Songs، والإيقاعات المرقصة الصاخبة، والرقص الجماعى، كجزء من عالم ما بعد الايديولوجيا، والسرديات الكبرى، وعالم ما بعد الحداثة والتشظى والتذرى، وعدم الانصياع للمقولات الكبرى، والاحكام والقيم المطلقة إلى عالم النسبية فى كل شىء! أسهمت الثورة الرقمية فى إحداث تحول كبير فى الإنتاج والاستهلاك الثقافى لدى الجموع الرقمية الغفيرة، وأدت إلى إزاحة وسائل الإعلام المكتوبة، والمرئية التى كانت تروج للثقافة فى السينما، والمسرح، والغناء والموسيقى، والفنون التشكيلية، والثقافة الشعبية، من خلال تقييماتها النقدية ومتابعاتها للأنشطة الفنية، والاحتفالات، والعروض، والمعارض المخصصة للفن التشكيلى وتجاربه الطليعية التى سادت منذ نهاية النصف الأول من القرن العشرين والى عقد الستينيات من النصف الثانى فى هذه المجالات، والتغيرات التى تحدث فى إطارها، وهى التى تحدد مفاهيم الشهرة والذيوع، على النمط الأمريكى، وتحالف الأعلام المكتوب –الصحافة- مع شركات العلاقات العامة، وشركات الإنتاج فى هذه المجالات المختلفة. منذ أحداث الطلبة فى جامعة كاليفورنيا بركلى، وثورة الطلاب فى السوربون عام 1968، حدث تغير فى أذواق الأجيال الجديدة، وظهور الموجة الجديدة للسينما الفرنسية من نهاية الخمسينيات إلى نهاية الستينيات من القرن العشرين وابداع المخرجين الكبار الذين تأثروا بالواقعية الجديدة الايطالية، وخروجهم على الشكل السينمائى وقوالبه المعروفة وكانوا جزءًا من حالة التمرد الجيلى فى المجتمع الفرنسى، والأوروبى..
من هنا كانت أسماء جان لوك جودار، وفرنسوا تروفو، وإريك رومير، وكلود شابرول وجاك ريفين، وآلن رينيه، وآنيايس فاروا، وجاك دمى. لم يقتصر الأمر على السينما والموجة الجديدة، وانما امتدت إلى الموسيقى والغناء والفنون التشكيلية، والتجارب المسرحية التجريبية. سرعان ما تمددت هذه التحولات الكبرى، وخاصة مع ثورة الاستهلاك المفرط، وتسليع الثقافة فى عديد المجالات أمريكيا واوروبيا ، وذلك على نحو فائق السرعة تماشيا مع إيقاعات التطور التقنى الذى وسم عالمنا من الثورة الصناعية الثالثة الى مابعدها. الثقافة الرقمية تحولت أيضا إلى الثقافة بالمعنى الواسع للاصطلاح، من خلال تقديم أنظمة الأكل فى ثقافات الشعوب المختلفة، والأغانى، ونظام الزى، والتقاليد والغناء..الخ. ثقافة النظرات الومضات امتدت إلى القراءة، والصور، والفيديوهات، ووراءها الرغبة فى الاستهلاك السريع للثقافة الرقمية. ثمة أيضا ظاهرة عامة عربيا، وعالميا تتمثل فى محاولات، وسلوك الجماهير الرقمية الغفيرة فى إثبات حضورها وذواتها، ووجودها من خلال المنشورات والتغريدات، والفيديوهات الطلقة، صور ذوات ملتاعة باحثة عن تحقق ما فى الحياة الرقمية ،ولا تجد حضوراً لها فى الواقع الفعلى، وقيوده من ثم تلجأ إلى حرية الواقع الافتراضى، الذى أسهم فى تبلور مفهوم الفرد، والفردانية نسبيا، وخاصة فى المجتمعات العربية، وهو ما ينعكس على الحياة الفعلية. لا شك أن هذه التطورات والتحولات فى مفهوم الثقافة تتطلب تغيرا فى مفاهيم السلطات والمؤسسات الثقافية العربية التى لا يزال غالبها يعمل، وفق المفاهيم التى سادت ما قبل الثورة الرقمية، من التركيز على حفلات الموسيقى، والغناء، والندوات، والمؤتمرات الثقافية، بينما لا يشارك فيها إلا الأجيال الأكبر سنا من الشيوخ وأدت نسبيا الى انقطاع التواصل بين الاجيال. من ثم لم تعد الآليات الثقافية التقليدية صالحة لمخاطبة الجماهير الرقمية الغفيرة، والأجيال الشابة. الاستعراضات الثقافية القديمة لا يزال بعضها عربيا يوظفها لأسباب سياسية، وخاصة أن الأجيال الجديدة فى بعض هذه المجتمعات لاسيما من الطبقة الوسطى، تشكل قاعدة لشرعية الحكم، بعد عشرات السنين من خلال الانغلاق الفكرى والثقافي. من هنا لابد من إبداع أشكال جديدة من العمل الثقافى، توظف الرقمنة فى الأنشطة الثقافية والفنية بما يلائم أذواق الأجيال الشابة .
التغير الثقافى العالمى يحتاج إلى دراسة عميقة، لكى يمكن توظيفه، فى تطوير الوعى الرقمى، والأذواق الفنية والجمالية التى تتوافق مع الأذواق المتغيرة، فلا يكفى إعادة إنتاج الموسيقى، والأغانى، والأفلام القديمة، التى لا تجد استهلاكا لها من الشباب، وصغار السن، ولا يتذوقها سوى كبار السن، بينما العالم يتحول على نحو فائق السرعة، ونحتاج إلى ملاحقة هذه التحولات فى التقنيات والثقافة، والابداع العلمى والتقنى فائق التطور مع الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعى التوليدى
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر مصري تنويري ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية الإستراتيجية
***
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ الخميس 14 سبتمبر 2023
لـ ” مختارات سينما إيزيس “