السينما الفرنسية تتحدى النفوذ الأمريكي وترسم خريطة الطريق بقلم كمال القاضي
استطاعت السينما الأمريكية أن تفرض نفوذها الكامل بدعم من مؤسسات الإنتاج الكبرى التي تمتلك رؤوس أموال ضخمة يدفع بها الممولون لاحتكار صناعة الفيلم والهيمنة على أسواق التوزيع في العالم، وقد تسيدت هوليوود المجال الفني بإنتاج نوعيات تجارية راعت احتياج القاعدة العريضة من الجمهور المحلي والعالمي، فتسببت في تهميش التيارات السينمائية في أغلب الدول الأوروبية لقطع الطريق على المنافسين والانفراد بالساحة الدولية والعالمية لترويج بضاعتها الاستهلاكية القائمة على عناصر الجذب والإبهار باستخدام أحدث التقنيات في التصوير والخدع والغرافيك والحيل شديدة الذكاء والإتقان في التصميم والتنفيذ. ولضمان عملية الترويج اتخذت هوليوود كبرى المؤسسات الإنتاجية في العالم العنف والجنس والرعب مواد لأنماط تأثيرية مهمة لاستقطاب الجمهور.
وقد لعبت في ذلك على وعي المشاهد البسيط، المكبوت جنسياً والمغرم بالإثارة، كما رصد خبراء التحليل النفسي الموكلين بتقديم دراسات سيكولوجية عن الميول الفطرية لدى المهتمين بالسينما، رغبات الجمهور من مختلف النوعيات لتحديد الشرائح الأكثر انجذاباً لمشاهد العنف والأطر المُفضلة لديهم لتوظيف الأكشن لسهولة الإقبال عليه وتوفير كافة العوامل للتفاعل مع المصنفات التي تحويه وتقدمه بشكل تأثيري مضمون النتائج. وبناءً على هذه القاعدة تربعت السينما الأمريكية على العرش واستمرت في السيطرة والهيمنة وبلغت ذروة تأثيرها، خاصة في منطقة الشرق الأوسط ودول العالم الثالث، الأمر الذي أدى بالسينما الفرنسية لإتباع الطريق المعاكس في المنافسة، إذ انصرفت مؤسساتها الإنتاجية عن تقديم المغريات الرخيصة وعملت على تحري الدقة والموضوعية في طرح الأفكار والقضايا، غير أنها راعت حدود الذوق العام في تقديم الأفلام الخفيفة الجانحة في مضامينها إلى الكوميديا أو التسلية البسيطة مراعية النوعية الجماهيرية التي لم تتمتع بالقدر الكافي من التعليم أو الثقافة العامة، وبهذا فرضت المؤسسات الإنتاجية في فرنسا تقاليد إنسانية وأخلاقية في تقديم المغاير من الأفلام والمختلف عن النمط الهوليوودي التجاري الغث.
ولأن هناك توازنا بين المُفيد والجديد، صار الإنتاج المتميز في فرنسا للأفلام الاجتماعية والإنسانية والسياسية هو الغالب في جميع المواسم، وقد أسفر ذلك عن بيع 183 مليون تذكرة دخول لأشهر دور العرض السينمائية خلال عام واحد كمُحصلة رقمية لارتفاع نسبة المشاهدة لعدد 200 فيلم حديث في السنة وإجمالي 250 مهرجانا دوليا يشارك فيها الفيلم الفرنسي على مدار رحلة طوافه السنوية حول العالم، وهذه الأرقام والإحصاءات واردة في دراسة وافية ومتعمقة للكاتب والناقد والمخرج المصري صلاح هاشم تحت عنوان «السينما الفرنسية» حيث رصد من خلال وجوده في باريس ومتابعته لأهم المهرجانات السينمائية، الحضور الدائم للأفلام الفرنسية واختلافها الجوهري والجذري عن بقية الأفلام الأمريكية ذات الصبغة التجارية المعروفة، برغم أن الدراسة لم تعتن كثيراً بمسألة المقارنة بين النمطين السينمائيين الأمريكي والفرنسي، لكننا رأينا أن نضيف هذا البعد لجلاء الحقيقة وتسجيل شهادة أمينة لصالح السينما الفرنسية من باب التوثيق باعتبار المؤشرات السابقة في الأرقام من الدلائل القوية لإثبات التفوق الصناعي والتقني والإبداعي للفيلم الفرنسي في نُسخه الجديدة والمتطورة.
ويذكر صلاح هاشم ضمن ما يذكر في كتابه البحثي المهم أن فرنسا احتضنت المخرج الهولندي الكبير جوزيز ايفانز والمخرج الأسباني لوي بونويل مؤكداً على أن باريس العاصمة احتوت أشهر المواهب والكفاءات الفنية وسمحت لهم بفرص ثمينة للإبداع والتألق داخل المحيط السينمائي. ولم ينس هاشم أن يشير إلى ريادة فرنسا في صناعة السينما ودورها المهم في خلق اتجاهات معينة كاتجاه الواقعية الشاعرية في ثلاثينيات القرن الماضي وتيار الموجة الجديدة في الخمسينيات مُتمثلاً في تروفو وغودار وشابرول وغيرهم، وكذلك تيار الموجة الحديثة في التسعينيات لروشان وكازوفيتش وباسكال فيران.
وتعد هذه هي آخر الموجات والتيارات في السينما الفرنسية، حيث لا وجود الآن لما يُسمى بالاتجاه أو التيار، ذلك أن لكل فيلم وكل مخرج أسلوبه الإبداعي غير المرتبط بمدرسة أو تيار أو اتجاه معين نظراً لمساحات الحرية المتوافرة والقضايا المتعددة والمنطلقات المختلفة والتي تؤدي إلى حدوث زخم وتطور تلقائي في المنظور والشكل والمفهوم الضمني.
ولعل أهم ما يميز السينما الفرنسية أنها تستقل في موضوعاتها عن سُلطة المنتج، فمن يحدد هوية الفيلم هو المخرج المؤلف الذي يتولى صياغة الفكرة والصورة بمعزل عن ضغوط رأس المال كما هو متبع في السينما الأمريكية وفق ما أشرنا إليه سلفاً، غير أن السينما الفرنسية تتميز أيضاً بعنايتها بالحركة والصورة وتفاعلية الجمهور الذي يؤمن بدورها في التغيير، كما يؤمن إيماناً راسخاً بأهميتها في نقل الواقع الاجتماعي وطرح القضايا الوطنية باعتبارها انعكاسا للاشتباك السياسي.
وتُبرز الدراسة النقدية للناقد صلاح هاشم على مستوى آخر دور الأفلام الوثائقية في إحداث التغيير المطلوب لنماء المجتمعات الفقيرة، وهو ما اهتم به الإخوة لوميير في رصدهم لحركة العمال في قرية لاسوكات بالجنوب الفرنسي، كما ظهرت أفلام وثائقية على قدر من الأهمية طرحت صوراً تاريخية لأهم الأماكن والمعالم الأثرية في مصر وتونس ومناطق أخرى من العالم، ولا تزال هذه الأفلام تمثل شهادات ووثائق تساعد العلماء والمؤرخين على قراءة التاريخ وتفسيره تفسيراً دقيقاً وهو محل الاعتبار الرئيسي لخريطة السينما الفرنسية وتميزها وانفرادها بالمضمون الجوهري البناء في مغايرة واضحة وصريحة للسينما الأمريكية بإبهارها وسطوتها وغرورها.
كمال القاضي
كمال القاضي كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في القاهرة.مصر
***
عن جريدة ” القدس العربي ” بتاريخ 23 يناير 2021