الصدمة والتغيّر السياسي في المنطقة بقلم نبيل عبد الفتاح
ستؤدى عملية طوفان الأقصى إلى تغيرات عديدة فى الإقليم، لأنها كشفت عن المفاجأة، وخيال عسكرى، وذكاء فى التخطيط، والإعداد، والتنفيذ، على نحو محكم نزع بعضا من أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر! بوصفه واحدًا من أهم واقوى جيوش العالم، من حيث أنماط الأسلحة الأكثر تطورًا، والخبرات القتالية، والتكنولوجيات العسكرية، ويمتلك أجهزة مخابرات ذات كفاءة عالية، من الاستخبارات الخارجية (الموساد)، والاستخبارات العسكرية (أمان)، والشاباك (الأمن الداخلى) وفشلهم فى تقييم بعض المعلومات حول استعدادات حماس، والجهاد الإسلامى، فى القيام بعملية عسكرية تم وصفها بأنها لا تعدو أن تكون قصفا صاروخيا ككل الحالات السابقة فى أفضل الأحوال! وهو ما يكشف عن خطورة تنميط الأفكار حول المقاومة الفلسطينية، وإنها تعيد إنتاج ذات العمليات السابقة، والتفكير والتخطيط!.
هذا الفشل هو ما سيفتح الباب أمام نهاية عدد من القادة الكبار فى الجيش، والاستخبارات، وأيضا رئيس الوزراء، وعدد من الوزارات الغلاة، وسيكون ذلك جزءًا من التحقيقات التى ستتم عندما تسكت المدافع، وأزيز الطائرات، ودمار قطاع غزة، وقتل الآلاف من الأطفال، والنساء، والشيوخ من المدنيين.
الحرب الحالية كشفت عن بعض الأساطير المهيمنة أيضا فى العالم، وازدواج المعايير فى التعامل مع الفلسطينيين، والعالم العربى، وعلى رأسها:
ـ اللامبالاة بالقانون الدولى العام، وقانون الحرب، والقانون الدولى الإنسانى واتفاقيات جينيف داخله التى تحدد السلوك الواجب من المحتل، على الأراضى، وحقوق المدنيين والمحتلين، والأخطر أن الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا يستخدمون العضوية الدائمة فى المجلس فى وقف، إصدار أى قرارات إزاء العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، واستهداف المدنيين من الأطفال، والنساء، والشيوخ، وتدمير 40 بالمائة من مبانى قطاع غزة حتى هذه اللحظة. فى ظل إغفال قواعد الحرب، قامت هذه الدول الكبرى باستخدام الأوصاف الأخلاقية فى وصم حماس، والجهاد الإسلامى، وفصائل المقاومة بالإرهاب، وهو مفهوم واسع وغامض فى الأدبيات ونصوص المعاهدات الدولية التى وقعت عليها هذه الدول، وذلك لتبرير سلوكها السياسى فى دعم اسرائيل سياسيا، وعسكريا، واقتصاديا. ثمة ازدواجية فى النظر إلى العمليات العسكرية من طرفى الحرب، بالدفاع عن المدنيين، والقتلى من الإسرائيليين والأسرى، ونسيان آلاف الأسرى الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية، وأيضا ارتفاع عدد الشهداء فى غزة الذى وصل إلى 8306 بينهم 3457 من الأطفال، ووفاة طفل صغير كل ربع ساعة حتى آلآن، فى ظل عقاب جماعى، وقطع للاتصالات، والكهرباء، والطاقة، وضرب وتدمير جوى لمحيط المستشفيات، فى ظل انهيار النظام الصحى كاملًا!
ـ أدت العمليات العسكرية الإسرائيلية الوحشية الى انكشاف «ثقافة السلام»، التى حاولت إسرائيل، والولايات المتحدة والدول الغربية، ترويجها بين بعض النخب السياسية والثقافية فى المنطقة العربية،وذلك من خلال الربط بين السلام، والتطبيع قبل حل الدولتين، وتمدد الاستيطان الإسرائيلى المسلح على الأراضى الفلسطينية فى الضفة الغربية، وحول حزام قطاع غزة. الأخطر الربط بين ترويج ثقافة السلام، وبين تنشيط تطلعات بعضهم، بالترويج لهم فى هذه البلدان عن طريق المؤتمرات المشتركة، والندوات، والبحوث، وترجمة كتب بعضهم إلى اللغات الأوروبية. حاول هؤلاء منذ كامب ديفيد وحتى الآن، الترويج لنموذج التقدم الإسرائيلى، والإمكانيات الاقتصادية التى تتاح لبعض دول العسر العربية من خلال الانخراط فى عملية السلام! مع نسيان المسألة الفلسطينية، والاستيطان، وغياب أى آفاق بعد أوسلو لحل الدولتين، والعاصمة القدس الشرقية للدولة الفلسطينية التى تحولت إلى حلم لا يتحقق فى ظل السياسة الاستيطانية.
ـ أدت وحشية عملية السيوف الحديدية الإسرائيلية إلى مظاهرات واسعة النطاق، فى بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، ودول عديدة، على نحو أظهر التمايز بين خطاب الإدارات السياسية الأمريكية والغربية، وبين خطاب بعض الجماعات مثل الخضر والدفاع عن البيئة، وبعض اليسار، والدفاع عن حقوق المرأة والطفل … إلخ. هذا التمايز كاشف أيضا عن سطحية بعض النظرات العربية للغرب ككتلة سياسية، واجتماعية واحدة، تمثلها الحكومات المنحازة إلى إسرائيل. هذه الوجهة من النظر على هشاشتها، وطابعها اللاعلمى، حاولت استغلال المذابح الإسرائيلية، والدعم السياسى والعسكرى والاقتصادى لإسرائيل فى ركوب موجات الغضب الواسعة فى العالم العربى، وبعض الدول الإسلامية، لترويج الكراهية للنماذج والقيم الغربية، وازدواجية المعايير إزاء الفلسطينيين، والعرب. هذه النظرات توظف موجات الغضب المتفاقمة، فى الترويج للأيديولوجيات الأصولية الإسلامية، من خلال التظاهرات، أو مواقع التواصل الاجتماعى، وخاصة منشورات الفيسبوك قبل ضبطها من إدارته المنحازة لإسرائيل!
ـ ساهمت عمليتا طوفان الاقصى، والسيوف الحديدية فى يقظة نسبية للفكرة العربية الجامعة، وخاصة البُعد العروبى الذى ساهمت الأنظمة العربية فى إضعافها فى ظل سياساتها الداخلية التى رمت إلى تشكيل هويات وطنية كجزء من عمليات بناء مفهوم الدولة الوطنية، فى ظل مجتمعات انقسامية تعانى التفكك الداخلى بين مكوناتها الدينية والمذهبية، والعرقية، واللغوية، والمناطقية، والقبلية، والعشائرية من خلال التركيز على المصلحة الوطنية لكل بلد و إعطائها الأولوية على المشاكل الكبرى للإقليم العربى، وهو ما أدى إلى حالة من اللامبالاة بالعروبة، وأيضا بالقضية الفلسطينية. أدت عملية طوفان الأقصى، إلى يقظة فى أوساط الجماهير العربية لفكرة التضامن العربى، ودعم القضية الفلسطينية، فى ظل سياسات الصمت لبعض الحكومات عن الفعل السياسى إزاء العدوان الإسرائيلى مع بعض الاستثناءات المحددة فى دول المنطقة المعسورة اقتصاديا، والدور المصرى والقطرى فى محاولة التفاوض حول مسألة تحرير الأسرى، بين الفلسطينيين، والإسرائيليين، وفتح معبر رفح للمساعدات الإنسانية الطبية، والغذائية… إلخ.
ـ عودة الروح العربية إلى النزعة الراديكالية حول ضرورة تحرير الأراضى المحتلة، فى مواجهة نزعات التسوية، وإقامة دولة على بعض الأراضى التى احتلتها إسرائيل بعد هزيمة يونيو 1967، ومنزوعة السلاح، وإعطاء الفلسطينيين اقل من 40% من هذه الأراضى وتوسيع نطاق أراضى القدس الإدارية لإقامة عاصمة للدولة المحتلة المجزأة، فى ظل اتفاق أوسلو وقيادة ياسر عرفات لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ـ بروز حماس والفصائل الفلسطينية فى قطاع غزة. هذا التغير فى حال استكمال الغزو الإسرائيلى الكامل للقطاع وعدم قدرة المعتدى الغاصب القضاء على حماس وغالب قادتها! ومقاومتهم الباسلة للعدوان سيؤدى ذلك إلى بروز نسبى وجزئى لبعض من المعتدلين داخل تنظيم حماس، اومن عناصر قريبة من توجههم فى اعتدال ليقبلوا كجزء من مكونات الفاعل السياسى الجديد فى التفاوض حول الحل النهائى، وإقامة الدولة لأن عديدين فى الغرب ضد حماس كتنظيم أيديولوجى متشدد فى القطاع، وهناك بعض من النقد سيطول قادة حماس بعد آلاف القتلى والشهداء وتدمير القطاع على نحو استثنائى!.
إن عملية «طوفان الأقصى» كانت كاشفة عن تبدد أوهام سادت المنطقة، وفى ذات الوقت ستفتح الأبواب أمام تغيرات سياسية جديدة فى الأقليم .
بقلم
نبيل عبد الفتاح
كاتب وباحث ومفكر مصري تنويري ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
***
عن جريدة ” الأهرام : الصادرة بتاريخ الخميس 2 نوفمبر 2023
لياب ” مختارات موقع سينما إيزيس “
–