القراءة الومضة والحياة الرقمية بقلم نبيل عبد الفتاح
أدت الثورة الرقمية إلى تطورات نوعية في جميع مجالات الحياة الفعلية والرقمية، تتمدّد تلك التطورات في سرعة فائقة منذ اكتشاف الحاسوب وعالم الشبكات، خاصة في مجال بناء نظام اللغة والاختصارات والعلامات، وعلى رأسها إنتاج النظرات الومضات، والصور، والفيديو الطلقة الموجز.
أدى ذلك التطور إلى تحوّل في كتابة المقالات والمنشورات والتغريدات، والإيجاز في بلورة الأفكار واختزالها، وكثافة الخطابات الرقمية، وسيولتها وبعض الاضطراب والتناقض داخلها. من ثم بدى الاختلاف في مفهوم القراءة والتلقي الرقمي وأثره على الفعلي والورقي.
أثّر ذلك التغيّر، أيضًا، على عملية قراءة النصوص على الألواح الرقمية والحاسوب والهواتف الذكية المتطوّرة في سرعتها وإمكانياتها. يمكن أن نطلق عليها «القراءة الومضة» أو فائقة السرعة، على مثال عصرنا، التي لا تتوقف بعمق عند مضمون النص وللتركيز إلا عند بعض الكلمات الدالة التي تشاغل القارئ لحظة القراءة!
تبدو القراءة فائقة السرعة هي مستقبل عمليات التلقي، والتمثل القرائي، وهو ما قد يثير مشكلة هشاشة وعدم عمق وسطحية العملية القرائية، وانفجار ردود الأفعال السريعة، وسوء الفهم، وعدم استيعاب النصّ الرقميّ المكتوب.
بعض إمعان النظر في هذه الظاهرة يشير إلى ظاهرة “السطحيون الرقميون الجدد”، وخاصة في ظل تدهور مستويات نوعية التعليم العام والجامعي في غالب بلداننا العربية، وضعف المحتوى المعرفي لها.
ثمة انهيار في مستوى إجادة اللغة العربية، وضمور قاموسها اللغوي عن متابعة المفردات والمصطلحات الجديدة في التكنولوجيا والعلوم الطبيعية والاجتماعية، وتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدية. من هنا هيمنت اللغات المحكية في الكتابة الرقمية لتزيح بعضًا من العربية الفصيحة التي تمثل الموحّد الأساس للثقافات العربية!
لا شكّ أنّ انفجار اللغات المحكية أدى إلى بعض الفجوات في التلقي، والفهم المتبادل بين الجماهير الرقمية الغفيرة! واستثناء خطاب الصورة، وحتى فيديو الطلقة المصاحب للصوت والكلام العامي في بعض الفهم له!
السؤال الذي ينطلق من هذه الظواهر يتمثّل في: هل تظل القراءة الومضة والفيديوهات الطلقة «التريندات» محض تعبير عن السطحية والسطحيين أم أنها ستتطوّر مع الكتابة الرقمية، وفعل التلقي والتمثل؟
بعض المؤشرات يذهب إلى أنّ عملية الكتابة والتلقي فائقة السرعة هي التي ستسيطر ومعها محاولاتها السطحية وضعيفة المحتوى المعرفي لدى الأجيال الشابة الحالية وكبار السن في ظل انهيار التعليم، والكتابات والخطب السياسية والدعوية الدينية التي تتسم بالطابع النقلي فقير المحتوى والعمق، والجمود والانفصال عن أسئلة عصرنا، وبعضها يتسم بالجمود الفكري وعدم الاجتهاد وشيوع الانتحال والكذب.
من ناحية أخرى فإنّ سطوة نزعة الانتحال والأخبار الكاذبة، والصور والفيديوهات المصطنعة والمركّبة! ستعزّز من استمرارية عالم ما بعد الحقيقة، والشعبوية السياسية والقومية والعرقية وكراهية الآخر !
الكتابة والصور والفيديوهات الرقمية فتحت الأبواب أمام حرّية التعبير للجماهير الغفيرة هروبًا من المجال العام الفعلي المقيّد إلى المجال العام الرقمي الحرّ والمراقب!. ثمّة حرّية طليقة في البوح المتحرّر من الخوف، والتعبير الذاتي والجسدي والحواسي والمشاعري الانكشافي.
مستقبل التحوّل الرقمي وتحوّل التفكير إلى السرعة الفائقة والكتابة الاختزالية الرقمية سيتشكل مع الأطفال والصبية مستقبلًا، وسيؤدي ذلك إلى فجوات جيلية في أنماط التفكير والتركيز والتعبير فائقة السرعة.
ستؤدي اللغة الرقمية وأشكالها التعبيرية إلى انكشاف الذوات الرقمية للجماهير الغفيرة، والشخصنة والولع بالذات ومحاولة إثبات وفرض وجودها في العالم الرقمي في ظلّ مرحلة الإناسة الروبوتية، وصعود دور الروبوت في الحياة الفعلية والثقافية والاجتماعية! وتغيير الحياة بل وبعض الوجود الإنساني، والقطيعة مع التاريخ ومراحله كلها!
وللحديث بقيّة.
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح باحث ومفكر مصري تنويري ومستشار مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية
عن موقع ” عروبة 22 ” لمختارات ” سينما إيزيس “