” الكلمات ” صعوبة أن تعيش على إبداع الآخرين بقلم مجدي الطيب
رغم أهمية قضية السطو على الإبداع، وحقوق الملكية الفكرية؛ فالأمر المؤكد أن هذه القضية الشائكة لم تحتل أولوية لدى كتاب السينما، في العالم العربي؛ فباستثناء فيلم أو إثنين، على أكثر تقدير، إحداهما كوميدي، لم تقترب السينما المصرية، مثلاً، من هذه القضية، وكأنها تعترف بشرعيتها، فيما قدمت السينما الأمريكية، واحداً من أهم الأفلام، الذي تناولها، بالكثير من العذوبة، والشجن، تحت عنوان «الكلمات» (103 دقيقة)، The Words (2012)، إخراج بريان كلوجمان، الذي شارك في كتابة السيناريو والحوار مع لي ستيرنال، ومع هذا لم يحظ بالاهتمام المُستحق !
الفيلم تم تصويره في مونتريال (كندا) ، نيويورك ( أمبركا) وباريس (فرنسا)، وأبرز ما يميزه السيناريو، الذي كُنب بحرفية كبيرة؛ حيث تتداخل أزمنته، وأحداثه، وكذلك شخصياته، ويكتنف الغموض خطوطه، رغم بساطة سرده؛ ففي حفل كبير دُعي إليه صفوة المجتمع، راح الكاتب الشهير «كلايتون هاموند» (دينيس كويد)، يقدم الجزء الأول من كتابه «الكلمات»، بينما ثمة كهل (جيرمي أيرونز)، يقف تحت المطر، يراقب «روري جانسين» (برادلي كوبر)، وزوجته «دورا» (زوي سالدانا)، وهما يُغادران فندق إمباير الشهير، في منطقة مانهاتن، في طريقهما نحو السيارة «الليموزين»، التي تقلهما إلى الحفل المهيب، الذي نظمه الناشر ذائع الصيت، ليقدم رواية «دموع النوافذ»، ليُبشر من خلاله بموهبة الكاتب الشاب الواعد، الحائز على جائزة الزمالة الأمريكية لأفضل مؤلف في الفنون والأداب، بينما في توقيت متزامن نرى الكهل وهو يرقد في غرفة متواضعة، والأغلب حقيرة، رث الثياب، أشعث الشعر، هزيل البنيان، يقرأ الرواية، وهو حزين، بينما «روري جانسين» يقول عن كتابه : «ببساطة حاولت سرد الحقيقة كما تخيلتها» !
خاتم سليمان !
يواصل «هاموند» تقديم كتابه «الكلمات»، لنُدرك أنه يتحدث عن «جانسين»، الذي انتقل بعد دراسته الجامعية، إلى بروكلين، مع حبيبته «دورا»، وهناك استأجرا شقة، قبل خمس سنوات من فوز كتابه بالجائزة المرموقة، ونتعرف على قصة كفاحه، ونضاله لايصال صوته، ككاتب روائي، لكنه يفشل، ويستمر والده (جي كي سيمونس) في الانفاق عليه، ومطالبته بأن يبحث لنفسه عن وظيفة تُدر عليه دخلاً ثابتاً، لكن منتوجه الأدبي يواجه بالرفض، وعدم الاهتمام، وربما الصمت والتجاهل، من دور النشر، ما أجبره على القبول بوظيفة رسمية، في إحدى كبريات دور النشر، في نيويورك، ظناً منه أنها ستسهل عليه الكثير من التواصل مع الناشرين، ورغم الجياة الرتيبة التي يعيشها يتزوج «دورا»، ويسافران في رحلة شهر العسل إلى باريس، وفي أحد محلات العاديات القديمة (الأنتيكات)، يُعجب بحقيبة جلدية قديمة، تبدو وكأنها «خاتم سليمان»، تُصر زوجته على أن تبتاعها له، وبعدها عادا إلى نيويورك، ليواجه من جديد طوفان الاعتذارات عن عدم قبول مؤلفاته؛ تارة بحجة أنها عميقة، وتارة أخرى بأن سوق النشر يعاني كساداً، إلى أن قادته الصدفة، ذات ليلة، للعثور على بضعة أوراق في الحقيبة الجلدية القديمة، سرعان ما يكتشف أنها مخطوطة رواية يقرأها، بغير اكتراث في البداية، لكنها تملك عليه كل حواسه، لدرجة أنه لا يغادر مكانه من دون أن يصل إلى كلمة النهاية، وهنا تتنازعه هواجس شتى؛ فالحياة القاسية من حوله تُجبره على اتخاذ القرار الصعب، وضميره يدفعه للرفض، وقبل أن تنهار حياته الزوجية، يُقدم على إعادة كتابة كل سطر في المخطوطة، لدرجة أنه لا يغير جملة أو فاصلة، أو حتى يُصحح أخطائها الهجائية، وتقرأ زوجته الرواية، وتتأثر بها، لدرجة أن دموعها تطفر من عينيها، وتهمس له : “أنها مختلفة عن كل ما كتبته من قبل .. إنها زاخرة وحقيقية، وأكثر صدقاً، وفيها مشاعر لم تُظهرها من قبل” وتٌنهي بقولها : “أنت كاتب عظيم” !
السحر ينقلب على القرصان !
يستغرق السيناريو وقتاً طويلاً، في الحكي، قبل أن يصل بنا، والفيلم، إلى نقطة الذروة؛ حيث انتهز الكهل فرصة مغادرة الكاتب الشاب الفندق قاصدا «سنترال بارك»، وهناك يثير ذهوله، بثقافته، وإلمامه بتفاصيل «دموع النوافذ»، الذي استهجن عنوانها، ويطلب منه أن يستمع إلى قصته لعله يكتبها في كتاب، ولما يرفض الشاب يبادره :” إنها عن رجل كتب قصة وفقدها وصبي فاشل عثر عليها” !
هنا سقط القناع عن «جانسين»، الذي قام بالسطو على رواية الكهل، وقت أن كان فتى في ريعان الشباب، وقدمها باسمه للناشر، الذي انبهر بها، ورجاه أن يكون وكيله، وفور طرح الرواية في الأسواق، أجمع النقاد والناشرون على جودتها، واحتلت المركز الأول في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، ليُصبح «القرصان» ضيفاً دائماً على أشهر مقدمي البرامج التليفزيونية، وينال الجائزة الثقافية الأشهر !
بالطبع لم يكتف السيناريو بالمفاجأة القنبلة، وانما عاد للاستطراد ليسرد مأساة الكهل، وهو صبي وجندي في باريس، أحب الفتاة الفرنسية «سيليا» ( نورا أرنزيدر)، وأنجبا طفلة جميلة مرضت ثم ماتت، فانهارت حياتهما برحيلها، لكنها ألهمت الشاب روايته الخالدة، التي فقدتها زوجته أثناء رحلة قطار فلم يغفر لها، وانفصلا، وعاد إلى موطنه أمريكا، وأثناء مروره، وهو كهل، على إحدى المكتبات قرأ إعلاناً عن مؤلف قصة يُعد صوتاً جديداً، ولديه شيئ يقوله، ومجرد أن شرع في القراءة أيقن أنها روايته، ولم يتردد في مواجهة السارق : «لقد عثرت على الحقيبة» !
عذاب الضمير
أجمل ما في الفيلم أنه لم يختر المعالجة التقليدية؛ التي يلجأ المجني عليه خلالها إلى فضح الجان، أو ابتزازه؛ فالهدف لديه أسمى، وأكثر نبلاً؛ إذ ترك الكهل الشاب لعذاب ضميره، وطوال الوقت يؤكد له أنه غير مهتم بأن يعرف كيف، ولماذا، فعلها ؟ وإنما يُعلق بسخرية : «ظننت أن عليك معرفة القصة في حال سألك أي شخص عن تفاصيلها .. وربما عثرت الآن على فكرة كتابك الجديد» ! وعندما يعرض عليه الشاب تعويضه بمقابل مادي ضخم، والتنازل له عن عائدات بيع الرواية، وتحويلها إلى فيلم سينمائي، واستعداده لمحو اسمه من الكتاب، وإعلان الحقيقة على الملأ، يتهمه بالغباء، ويكاد يلكمه غضباً؛ فكل ما أراده أن يُلقنه درساً يُدرك بمقتضاه أنه «ليس بمقدورك سرقة جزء من حياة الناس، وتستولي عليه وكأنه ملكك، ثم تتوقع ألا يكون هناك ثمن تدفعه»، ويُضيف، في حكمة بليغة : « الأمر يتعلق بحياتي بزوجتي، طفلتي، بمتعتي وألامي، التي تسببت في ولادة تلك الكلمات، التي أخذتها، وعليك أن تأخذ معها الألم». وفي ما يُشيه تأنيب الضمير يقول، بحسرة : «مأساتي أنني أحببت الكلمات أكثر من حبي للمرأة التي ألهمتني أن أكتبهم» ثم ينصحه بأن يمشي بعيداً، ولا يلتفت خلفه أبداً فجميعنا يتخذ قرارات في الحياة لكن الصعوبة تكمن في العيش معها .
لولا الثرثرة الكثيرة، والحشو الزائد، الذي لا طائل من ورائه، لاحتل فيلم «الكلمات» مكانة مرموقة بين أفلام السينما العالمية؛ فالمخرج حشد كل أسلحته لتقديم عملاً إنسانياً رائعاً، سواء في محاكاته المذهلة، عبر الديكور والاكسسوار والملابس، لباريس الأربعينيات من القرن الماضي، واختياره الذكي في التقاط الشاب صورة تذكارية بجوار المنزل، الذي عاش فيه الروائي الأمريكي العظيم «أرنست هيمنجواي»، في باريس، أوائل العشرينيات، وكأنه يتمثله، ويقتدي به، وملحمة الجنود وهم يعيدون فتح انابيب المجاري التي دمرها الألمان، في تصوير ساحر للجانب الآخر من العالم اللعين، وسعادة البطل ورفاقه «سعادة الخنزير في الوحل»، وروح الحوار الساخرة، وتأكيد الحوار على الغضب الأحمق للبطل، الذي لم يغفر، ولم يسامح نفسه، لاهتمامه ببضعة كلمات حمقاء، على حساب حبيبته، وحياته، التي دمرها، وعجز بعدها أن يتمكن من كتابة كلمة واحدة، خشية الدخول في العمق ثانية أو لأنه فقد موهبته نهائياً . والأهم من هذا كله أن الفيلم يترك المتفرج، وقد التبس عليه الأمر، فلا يعرف إن كان «كلايتون هاموند» كتب «الكلمات» عن «روري جانسين» بالفعل، أم عن نفسه؛ فالحياة والخيال، كما قال، قريبان جداً لكنهما لا يتلامسان أبداً !
بقلم
مجدي الطيب
عن جريدة ” القاهرة ” الصادرة بتاريخ 21 يوليو 2029