المثقف في عصر النهايات المتحول بقلم د.نبيل عبد الفتاح
بدو لى أن نظرتنا إلى الثقافة والمثقف. بالمعنى العام، الذى ساد فى عصرى الحداثة، وما بعدها، لا يزال يشكل عقيدة ما من العقائد السائدة فى مصر، وعالمنا العربي.
يرتكز هذا التصور العقيدى، أو شبه العقيدى على أن الثقافة هى المعنى الضيق نسبيا لها، وتتمثل فى الآداب والفنون الرفيعة، وغيرها، مثل المسرح، والسينما، والفنون التشكيلية حول التصوير، والنحت، والموسيقى والغناء فى بعض من تصورات هذه العقيدة، والإدراك لمفهوم الثقافة الذى يتمدد ويتمحور حول الكتب، والقراءة، والتلقى لها، وأن المثقف هو من يقرأ الكتب، أو يبدع الرواية،؟والقصة، والشعر، والمسرحيات، ويذهب إلى دور عرض الفن التشكيلى..الخ.
زولا
منذ قضية درايفوس ذائعة الصيت ودفاع أميل زولا فى مقاله الشهير «أنا أتهم»، ظهر مصطلح المثقف فى التاريخ الثقافى الفرنسى، ثم انتقل مع الكولونيالية الفرنسية، إلى الدول المستعمرة، ومعها بعض البلدان الأوروبية -مع اختلافات طفيفة-، ثم ساد هذا المصطلح، فى بعض حركات التحرر الوطنى أثناء مقاومة الكولونيالية مع بعض المتعلمين فى هذه البلدان، ومنها مصر.
بزغ هذا المصطلح المثقف، مع ما بعد الكولونيالية، وتم التركيز على أدوار المثقف فى إطار حركات التحرر الوطنى العالم ثالثية أنذاك مع الدور والمهام العام التى سادت ملحقة بالمثقف والتى تمثلت فى تكريس الاستقلال الوطنى، والدفاع عنه، ومواجهة ونقد الممارسات الاستغلالية للإمبريالية الأمريكية والغربية، والنظام الرأسمالى العالمى.
داخليا تمثل فى الدفاع عن مصالح الأغلبيات الشعبية فى مواجهة البورجوازية -وفق المفهوم السائد فى بلادنا والدول العربية-، ونقد السلطات الحاكمة. بعد ترجمة أنطونيو جرامشى، بدأ يسود على نحو خاطئ مفهوم المثقف العضوى محملاً بمعانى مختلفة عن المصطلح الجرامشى، محملاً بمعان تبجيلية على أساس أنه مرتبط بقضايا الشعب، فى حين أن المصطلح يعنى ارتباط مثقف ما بطبقة اجتماعية محددة أيا كانت. المثقف العضوى لا يعنى أنه يعبر فقط عن الطبقات الشعبية، وإنما بطبقة محددة. فى الهيكل الطبقى فى المجتمعات الغربية .
جرامشي
المصطلح الأهم الذى طرحه جرامشى هو المثقف التاريخى، الذى يرتبط بطبقة اجتماعية صاعدة، إلا أن هذا المصطلح ظل غائباً، ومسكوتا عنه لسطوة الثقافة السماعية لدى كثير من المثقفين. أو ما أطلق عليه صديقنا على فهمى رحمه الله المثقف بالسماع فى القاهرة المحروسة. هذا الإدراك والفهم لمصطلح المثقف وأدواره، والثقافة ظل سائدا من الناصرية، إلى الخلاف مع الساداتية، ومبارك ونقد تجربة التحول إلى الرأسمالية، والمشروع الخاص، ونقد طبيعة السلطة السياسية الحاكمة، وتكوينها ومصالحها السياسية والاجتماعية، ونمط ممارساتها التسلطى فى هاتين المرحلتين . استمرارية هذا المفهوم، السائد لدى غالب الجموع من المثقفين، أو المثقفين بالمعنى العام للكلمة ثمة غياب داخله للتمييز بين أنماط المثقفين، مثقف الثقافة العالمة، منتج الثقافة، والأفكار، وبين المثقف العام، متلقى هذه الأفكار والمفاهيم والمصطلحات، والذى يبسطها ويوزعها على الدوائر الأوسع اجتماعيا، بين المتعلمين !فى السبعينيات، والثمانينيات، بدأت تحولات إيديولوجية براجماتية فى فرنسا، وبعض الدول الأوروبية تمثلت فى ظهور ما أطلق عليه الإيديولوجيا الناعمة ، وتمثلت فى التحرك الإيديولوجى نحو أنساق حقوق الإنسان وأجيالها الثلاثة آنذاك. ثم تجسدت فى تحول بعض أحزاب اليسار، واليمين، ويمين الوسط إلى التقارب نحو المكونات الحقوقية، وبدأ هذا المنحى بإقصاء ميتيران، بعض رموز اليسار، من الحزب الاشتراكى، والتمدد إلى يسار الوسط.
نهاية المثقف في ظل الثورة الرقمية
فى ظل الإيديولوجية الناعمة، حدث انهيار الاتحاد السوفيتى، فى أعقاب سقوط حائط برلين، انهارت معه السرديات الكبرى فى السياسة، وإن كانت قد بدأت فى السرديات الأدبية، وخلخلة التجنيس فى الآداب، أو التمايزات الحادة فى الأنواع الأدبية. فى عصر المابعديات، بدأ مفهوم المثقف التاريخى فى التراجع، وصولا إلى الحديث منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين،عن عصر النهايات نهاية التاريخ، ونهاية المثقف. برزت نهاية المثقف فى ظل الثورة الرقمية، ووسائطها الاجتماعية، وانفجار عصر العاديين الرقمى، وخطاباتهم على الواقع الافتراضى من خلال المنشورات، والتغريدات، والصور، والفيديوهات الطلقة، أو short vides حول تفضيلات الحياة اليومية، وآراء العاديين فى اهتماماتهم الخاصة أو العامة، سعيا وراء حضور ذواتهم الرقمية فى المجال العام الرقمى. ساهم فى إضعاف أدوار المثقفين الوظيفية،
1- انهيار عالم الصحف الورقية، والمجلات، ولجوء الجمهور والقراء إلى الرقمنة، وثقافة النظرة السريعة الرقمية، وغياب كبار المفكرين بالموت، أو الشيخوخة، العمرية، أو الفكرية عن متابعة تحولات الفكر العالمى، وأيضا المجتمع المصرى، أو المجتمعات العربية.
2- القيود المفروضة على المجال العام الفعلى، وحصاره فى أعقاب فشل الربيع العربى.
3- سياسة التفكير والمراقبة على العقل التى قامت بها الجماعات الإسلامية السياسية والسلفية والإخوان، ودعاة الطرق ملاحقة الكتاب والمبدعين، والرقابة على أعمالهم، وتكفير بعضهم مثل نجيب محفوظ، وسعيد القمنى، وفرج فودة، ومحاولة اغتيال مكرم محمد أحمد، وغيرهم.
ولا شك أن تركيز سياسة التكفير والاغتيال بدت أنجع الأساليب لهذه الجماعات فى مواجهة الفكر الحر، على نحو أشاع الخوف لدى كثيرين من الكتاب والمبدعين.
وللحديث بقية .
د.نبيل عبد الفتاح
د.نبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر مصري
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ 17 مارس 2022