المخرجون يتحدثون : حوار مع المخرج الفرنسي الكبير روبير بريسون. إعداد وترجمة صلاح هاشم
في كتابه بعنوان ” كوكب سينمائي صغير ” اختار الناقد الفرنسي الكبير ميشيل سيمون أن يكون أول حواراته في بلده فرنسا مع “الطائر السينمائي النادر” المخرج روبير بريسون ( 1901- 1999 ) كما يطلق عليه. بريسون هو صاحب أفلام ” محاكمة جان دارك ” و ” النشال ” و ” هروب محكوم عليه بالإعدام” و” بالمصادفة البحتة يا بلتزار ” و” المال ” وغيرها،
بريسون
ويعد احد أعظم المخرجين بل استاذ أساتذة المخرجين في العالم، فكل أفلامه هي عبارة عن “سينما صافية مقطرة”PURE CINEMA وخالصة من أية شوائب” مسرحية” أو” استعراضية”، من اي نوع ،بقصد الإبهار، وقد لخض تجربته في الاخراج ونظرياته في كتاب له، بعنوان ” ملاحظات على السينماتوغراف “، وحصلت أفلامه على العديد من الجوائز مثل ” جائزة الاخراج” في مهرجان ” كان ” السينمائي العالمي التي حصل عليها مرتين بفيلم ” هروب محكوم عليه بالإعدام ” عام 1957 وبفيلم ” المال ” عام 1983، كما حصل بريسون على ” جائزة السينما الأوروبية ” عام 1994 بمجمل أعماله السينمائية من ” الروائع ” التي دلفت الى تاريخ وذاكرة السينما العالمية من أوسع باب ..
– عندما نتحدث عن أفلامك ياسيد بريسون ،سوف نجد انها مرتبطة دائما بموضوع التقشف والزهد، فيما يمكن أن يعتبر، بمثابة “إكليشيه ” أي وصف جاهز لها ، غير أن مايلفت نظري في أفلامك – على العكس من ذلك الاكليشيه – هو قوتها، مايخلق لها تميزها..
. هذه القوة في أفلامي ،نابعة من توخي الدقة . أو الدقة التي تبرز قوة العمل ،وهي نفس الشييء، وأنا ..عندما أعمل بشكل سييء، لا أكون دقيقا في عملي، كما أن الدقة، يمكن أيضا أن تكون شعرا..
– أهم مايميز أفلامك ..القوة.. والسرعة، لأن سيناريوهات أفلامك لو منحت لمخرجين آخرين، لاستغرق عرض الفيلم الواحد منها ساعتين و15 دقيقة ، بدلا من ساعة و45 دقيقة كما هو في أفلامك ..
. إن ذلك يرجع الى التأليف ،عندي، أو التلحين الموسيقي ، في محل كلمة ” البناء ” ، وعندما أعمل بهذا المنهج ،فإنني أصغي الى أفلامي، كما يصغي عازف البيانو الى مقطوعة وهو يعزفها،وأحاول ترويض الصورة، لتخضع للصوت، أكثر من اخضاع الصوت للصورة ، كما ان كل عمليات الانتقال من صورة الى صورة أخري، تخضع عندي لنسق موسيقي معين ،فالواقع ان عيوننا أو نسقنا البصري، يحتل مساحة كبير في المخ، تتجاوز ثلثي حجمه،ومع ذلك فان خيال عيوننا، هو أقل إتساعا وتنوعا، وأقل عمقا أيضا ،من خيال آذاننا. كيف يمكن أن لانأخذ هذا الأمر في الاعتبار، ونحن نعرف، الدور الهام الذي يلعبه الخيال في كل عمليات الابداع والخلق ؟..
في السابق لم أكن أفكر بتاتا في هذه المسالة، في فترات الراحة بين اخراج فيلم وفيلم آخر، لكني بدأت بعد ذلك، في تدوين ملاحظات أثناء عملي، في محاولة لتثبيت كل الافكار التي تخطر على بالي، بل لقد جمعت تلك الملاحظات في ما بعد، وأصدرتها في كتاب صغير ، وكنت اتساءل عن الأسباب التي تجعلني أعمل بهذه الطريقة، ثم اكتشفت أنها طريقة فطرية، وبشكل مطلق، ومن دون انحياز..
في فترة الثلاثينيات قمت بإخراج فيلمي الأول بعنوان AFFAIRES PUBLIQUES – شئون عامة – وكان فيلم من نوع أفلام “البرلسك” على الرغم من ان هذه الصفة ” بيرلسك ” ، لم تعد تنطبق على ماكان بالفعل، بل تنطبق أكثر على بعض الافلام الامريكية ،التي أنتجت في تلك الفترة. لقد كان الرسامون من أمثالي حينذاك، يسارعون كل مساء تقريبا الى دور العرض السينمائي ، لمشاهدة تلك الأشياء التي تتحرك على الشاشة، ومن ضمنها أوراق الشجر، وكان الجزء الأخير من فيلمي، يصور عملية تدشين مركب ،، وكنت حصلت من شركة ” ترانسات ” على مشاهد تصور عملية تدشين الباخرة نورماندي، وبدأت المركب تهبط وراحت تغرق، إلا أن الزجاجة التي يجب ان تكون تكسرت، فشلنا في تكسيرها، وكان كل هذا وليد المصادفة البحتة، كما يظهر المهرج بابي في هذا الفيلم، و ” بابي “ مخلوق لايمكن للخيال أن يتمثله، أو أن يصفه، مستحيل، ولم يمثل في الفيلم ، بل اني تركته يظهر فقط ، وأدركت في تلك اللحظة فقط، ان الافلام لا تصنع من التمثيل، أو من أداء الممثلين، بل تصنع من ” سلسلة ” من ” الاختراعات ” والابتكارات المدهشة ..
وفي أول فيلم روائي طويل بعنوان ” ملائكة الخطيئة ” من اخراجي، شعرت في أولي أيام التصوير ،وكأن قنبلة انفجرت في ، فلم يكن في بلاتوه التصوير ،سوى آنسات وسيدات فقط ،يقمن بتمثيل أدوار راهبات، ومن أول لحظة صرخت فيهن ” اذا كان تمثيلكن هكذا ،فاني سوف اغادر بلاتوه التصوير في الحال، فلم يعجبني طريقتهن في الكلام والالقاء والنطق، وفي كل مساء ،كان منتج الفيلم يرسل الي برقية يطلب مني فيها أن اتركهن يمثلن،وفي كل مساء ،كنت ارى هذه تبكي وتلك تحاول أن تكتم ثورتها وغضبها، زد على ذلك، انهن كن بالفعل جميلات وقد نجحن بالفعل في التقولب ،للظهور بالشكل الذي أردته، وكان سبب ضيقي ذلك الحرج الذي تسبب لأذني أولا ،قبل أن أن تشعر به عيني، لم يكن ضيقي بسبب تحركاتهن، التي لايمكن التحكم فيها أو ايقافها ، بل بسبب تعثرهن ،في نطق مخارج الألفاظ ،وطريقة نطقهن التي لم تعجبني على الاطلاق، وشعرت بها أذني ..
وبنفس الطريقة لاحظت متأخرا بأن موسيقى الاوركسترا الخفية في الفيلم ،هي ضد روح الفيلم ، كما فهمت متأخرا جدا أن الصوت ،كان هو الفراغ- الفضاء في الفيلم، لأن الصوت البشري المسموع كضوضاء، يمنح السينما بعدهاالثالث، وأننا اخطأنا عندما أردنا للسينما ،أن تكون مجسمة- وهو أمر ليس بذي أهمية على الاطلاق – ولم ندرك انها بالصوت وحده، تصبح مجسمة، فمع الصوت تتعمق الشاشة أكثر، وتمنحنا الاحساس، بأننا نستطيع أن نلمس الناس في الفيلم، وأن نسير خلفهم.
– ان اشتغالك على الصوت في أفلامك ، يجعلك لاتستخدم ” عمق المجال – بمعى- وضوح كل شييء في الصورة – الا قليلا جدا
. ربما ، لكن السبب الأساسي، هو انني لا استعمل عند التصوير إلا عدسة واحدة، أنا أحب الاقتراب من الناس، والاشياء، وأحب رؤيتهم من على بعد، من المسافة التي أحط فيها أثناء تنقلاتي في الحياة الواقعية، ولذلت تجد أن خلفية الصورة ،في كل أفلامي، تظهر غير واضحة ومبهمة. وهو أمر غير هام بالمرة، لأن الصوت – أكرر – هو الذي يشي لنا بالمسافة.. والمنظور ..
– دعنا نعود الى سؤالنا السابق الخاص بفيلم ” المال ” ذلك الفيلم الذي يبدو بسبب مدة عرضه القصيرة، على النقيض تماما من الافلام الطويلة التي تصنع هذه الايام . لماذا هي طويلة هكذا، في رأيك ؟
. هي طويلة لأن السينما بدأت تنام، ووصلنا الآن الى انتاج أفلام تصل مدة عرض الفيلم الواحد منها الى 3 ساعات ، لأننا لانعرف، ولم نعد نبحث، ونعيش فترة راحة ،وصرنا نحب الاجازات، وأعني بذلك هؤلاء المخرجين المستهترين، الذين هم ليسوا أكثر من مخرجين مسرحيين جميعهم ،وأنا اتعجب، لماذا لا يقوم أصحاب الاقلام – واقلامهم ليست سيئة على الاطلاق – لماذا لايقومون بكتابة أعمالهم بأنفسهم، وأنا اعرف لماذا يستسهلون ،ويأخذون اعمالا مكتوبة وجاهزة لاخراجها ، فلو كانت السينما فنا بحق، ولو كنا قادرين على اخراج كل شييء من أنفسنا، فلن نتوقف عن الشعور بالقنوط واليأس، ومحاسبة أنفسنا ،بل والشك في انفسنا ، في حين ان الرفيق الذي يكتب لك السيناريو ،كفيل بأن ينتزع منك كل تلك المشاعر، وارتيابك في أمر نفسك ، ويجعلك حرا في أن تعمل بكسل أكبر..
أنا أحب أن أعمل، مع مجموعة من المخرجين الشبان في أتيلييه – ورشة عمل ، وأن يكون لدينا مانريد التعبير عنه، أنت لاشك تعرف هذه الكلمة التي قالها الفنان الرسام ديجا.. ” لايكون الأمر صعبا ، عندما نكون لانعرف .. ” ، ويعني انه حين نقر ،بأننا لانعرف اي شييء، يكون من السهل عندئذ أن نتعلم بسرعة “، ولذلك من الأفضل، أن نعرف بأسرع مايمكن..
لكن من الأفضل عندما نصور فيلما ،أن ننسي كل هذه المعارف تماما، وأن نكون عراة وفارغين، أمام عزيمتنا. وهذا هو ماقاله الفنان الرسام الفرنسي سيزان بالضبط : قال ” أنا أرسم ، أنا أعمل، أنا لا أفكر في أي شييء البتة .. ” .. السينما يجب أن تتطور ، فلتتطور السينما ! بل انها تستطيع ،أن تبحث مع الممثلين عن شييء جديد مثلا لتقديمه ، لكني لا اعتقد انها يمكن أن تنجح ، لأن الفن، لاتكون له قوته الحقيقية، إلا اذا احتفظ بصفائه الأصلي.
لاحظت ان بعض المخرجين، يستعينون ببعض الممثلين من غير المحترفين، لكنهم يدعونهم يمثلوا في أفلامهم، ولعلك لاحظت أنه لايوجد تمثيل ، لا أحد يمثل في فيلم ” المال “، ولهذا يمر الفيلم بسرعة، فليس المهم مايقوله الممثلون. أحيانا في السابق، لم يكن باستطاعتي ادارة الممثلين من غير المحترفين، بشكل يرضي آذان المشاهدين، لكني نجحت هذه المرة ،في فيلم “المال” أن أجعل كل شييء ” يقال ” بشكل جديد من خلال بعض التعديلات المحدودة.
يجب أن يكون في الفيلم عامل أو شييء مشترك بين كل عناصر الفيلم ، حتى لا تفقد تلاحمها، وتفاهمها عند الانتقال في الفيلم من نقطة الى نقطة، وينطبق هذا على الصورة والصوت في الفيلم. يجب ان يكون للمثلين من غير المحترفين، طريقة خاصة في الكلام – هي طريقتهم الطبيعية في الكلام ،على أية حال – وأن لاتكون هذه الطريقة،مختلفة عن كلام الآخرين إلا طفيفا ، أو بالحد الأدني من الاختلاف ، واذا حاولنا أن نضع رسم بياني، للطريقة التي يتحدث بها الممثلون في السينما ، فسوف نجد درجات اختلاف متباينة، في القوة والكثافة، في حين اننا سنجدها متساوية بقدر أكبر في أفلامي، وكل ذلك من أجل تجميع الكل اعني عناصر الفيلم في واحد ، ومن دون صعوبة، ونفس الشييء أيضا على مستوى الصورة، فقد قلت يوما ،انني اقوم بتسطيح وفرد الصور ، كمن يكوي الملابس بمكواة من الحديد، ولا أعني بذلك اني انزع عن الصور أهميتها، بل أعمل على التخفيف من تلك الأهمية ،حتى لا تستحوذ الصور علي، وتكون لها حياتها الخاصة بسرعة ، وهو نفس الشييء بالنسة للمثل، الذي يبحث في السينما على أن تكون له حياته الخاصة فيقول ” أنا نفسي “، في حين أن نفسي هذه، في الحقيقة، هى ذات مغايرة ،تم التفكير فيها، وليست ذاته الشخصية أو نفسه بالمرة ..
– لايجب ، حسب ماتعتقد، أن تكون قوة الصورة متصلة، وبشكل مباشر ،بقوة الصوت في الفيلم
. الواقع ان الصوت والصورة ،اذا كانا يمثلان قوة ضاربة واحدة، فإن ذلك يضعف، من قوة كل عنصر منهما على حدة ، لكن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك، فما ينفذ الى داخل عيوننا ،ونحن نصور، يخرج من ماكينتين لاستنساخ الصور. يخرج أولا من ماكينة الكاميرا ،التي تمنح الاشخاص والأشياء المصورة مظهرا كاذبا، ومن ماكينة أو مسجلة الصوت، التي تعيد لنا مادة الصوت ذاتها، ولذلك اذا أردنا أن نمنح الفيلم تجانسا، من نوع ما، يجب أن تأخذ الماكينة الأولي، بعضا من فائض الواقع ،من الماكينة الثانية ، وهي أشياء يستطيع مشاهدو السينما تذوقها ،والاستمتاع بها، أكثر من استمتاعهم بنجاح الممثل، في أداء دوره ،أو بقدرات صوت ما على التلوين في نطقه. والواقع انني كنت أبحث في نهاية فيلم ” المال ” على تجسيد تلك القوة، التي نجدها في الهواء ،قبل انطلاقة الإعصار، تلك القوة التي لايمكن تمييزها ، لكني نجحت في اقتناصها ،من دون عمل أية حسابات. يجب أن يعمل المرء ،وفقا لحساسيته الخاصة، وأن يطمئن لها وليس لأي شييء آخر. كانوا يقولون عني أني مثقف ذهني، لكني لست مثقفا على الاطلاق، فحين أكتب، اتألم بشكل جنوني أشد الالم ،لكني أجبر نفسي على الكتابة، حتى يأتي كل شييء من عندي، من داخلي. كما يقولون عني أني متشدد ومتزمت في الرأي، وهذا هو الجنون بعينه، فأنا على النقيض تماما من أصحاب الرأي المتزمت، أسعي الى خلق إنطباع ما، وسأعطيكم مثالا على ذلك ، فحين أكون أثناء تصوير فيلم ” المال ” في ميدان عام ، فإن أول ما يتبادر الى ذهني، هو السؤال : تري أي إنطباع أو أثر سيتركه هذا الميدان لديك ؟ وبسرعة تأتي الاجابة : الانطباع الذي سيتركه ذلك الميدان الكبير ،هو هذا الحشد والخليط الكبير من السيقان، والضجة التي تثيرها أثناء حركتها على الأرصفة، ولذلك حاولت تجسيد هذا الانطباع، بالصوت والصورة في الفيلم ، لكن من بعدها ،يروح البعض يلومونني – ياللذكاء – لأنني صورت في الفيلم، أسفل سراويل المارة ! وقد تلقيت ملاحظة لوم أيضا ،بهذا الشكل، في فيلمي ” لانسلوت البحيرة “، لأني صورت سيقان الجياد في الفيلم ،ولم أعني بظهور الفرسان الذين يمتطونها، وكنت صورتها بهذه الطريقة، لكي أجذب انتباه المشاهد الى قوة السيقان العضلية وتوترها قبل أن تنطلق الجياد داخل ذلك السباق المحموم في الفيلم، ولو كنت صورت الفرسان الذين يمتطونها، لحدث تشوش في الفيلم، بظهور عامل آخر ،الا وهو الفرسان، وأخذه ، ذلك العامل، بالتالي في الاعتبار ، ثم التساؤل عما سوف يفعل الفرسان لاحقا في الفيلم ..
والواقع اننا عندما نسير في الطريق في حياتنا العادية ، فإننا ننظر عادة الى الأرض، أو أعلي قليلا من الأرض، ولا ننتطلع بالضرورة ،للناس الذين يسيرون معنا ،ومن حولنافي الشارع، ولا نتأمل في وجوههم ،إلا اذا مرت إمرأة جميلة ،وأردنا أن نري وجهها. أنا أعرف، لماذا تصر السينما على إظهار الاشخاص في كامل صورتهم، فهذا راجع الى المسرح ،الذي نستطيع أن نرى فيه كل شييء ..
– لم تعد تختار ” نماذجك ” أو موديلاتك كما تحب أن تطلق على الممثلين في أفلامك – بسبب التشابه الاخلاقي الكبير ،مع الشخصيات التي يمثلونها..
. اختارهم هكذا ،بشرط ان لايكون هناك تعارضا بينهم وبين الطبيعة الجسمانية للشخصيات، التي يمثلونهافي الفيلم، أو بينهم وبين اصوات الشخصيات، أو طريقتهم في التعبير، وآخذ قراراتي بسرعة ، وقد لاحظت، وجود تعارض وتناقضات وأشياء عجيبة غريبة، في نفوس البشر، وهذه التناقضات هى التي جعلت الروائي الروسي دوستيوفسكي، يخترع لها نسقا خاصا تقريبا، لكنني أحب العمل مع ممثلين من غير المحترفين ، وأحب أن يفاجئونني بمفاجآت لم تكن في الحسبان، وأنا لأ أشعر بالاحباط أبدا معهم، وأجد في هؤلاء ” الموديلات ” أشياء جديدة دوما لم أكن أتخيلها، تخدم أفكاري بخصوص الفيلم، بالاضافة الى اني أؤمن بالمصادفة ، أؤمن بالمصادفات السعيدة، في شخص لوسيان الذي يشتغل كعامل في محل التصوير في الفيلم، وحتي في شخص إيفون بطل الفيلم ، الذي يجسد خليطا من المصادفات السعيدة ومن “الحدس” المباشر عندي ..
– لم يساعدك احد من الكتاب في كتابة حوار أفلامك إلا جيرادو وكوكتو في فيلميك الاولين ..
. انني أدين لهذين الكاتبين بالكثير، فقد استطعت بعدها ،أن اكون الصانع الوحيد لأفلامي، من أول كتابة سيناريو الفيلم على الورق ،وحتي ظهور الفيلم في شكله النهائي على الشاشة، لكني في بداية عملي بالاخراج ، كنت مجبرا على الاستعانة بآخرين، والا ماكنت عملت، واشتغلت في السينما،، لقد تعاون معي الكاتب جيردو، وكنت معجبا به كما يعجب تلميذ بإستاذه، وكنت اقول له ،يجب ان تعمل هكذا، اختصر هنا، وهنا أضف أكثر، فكان يطيعني، وينفد رغبتي ، بسرعة عجيبة، وبالنسبة لفيلمي ” نساء غابة بولونيا ” كنت كتبت بصعوبة شديدة ثلاثة ارباع الحوار،وعندئذ اتصلت بجان كوكتو، وطلبت ان يعاونني، وكنت قبلها حاولت العمل مع الكتّاب بول موراند، ونيمييه، وسوبرفيل، ولم أنجح، لكني كنت أثناء ذلك، أواصل كتابة الحوار، لأني كنت واثقا، من انني، علي أن أنجز كل شييء بنفسي، حتى استطاع جان كوكتو ،ان يحل كل مشاكلي الخاصة بكتابة الحوار في شقته، على مفرش مائدة، في ساعة ونصف فقط..
– هل تجد اختلافا بين الاعمال الأدبية التي تقتبسها بحرية كبيرة، مثل اعمال برنانوس ودوستيوفسكي وتولستوى، وبين الاعمال الأصلية تماما، التي تكتبها بنفسك مثل ” بالمصادفة يابلتزار ” و الشيطان من المحتمل ” ..؟..
. اجد اختلافا بسيطا جدا. يبدو لي بالنسبة لفيلم ” المال ” اني اخذت نقطة البداية، الخاصة بفكرة انتشار الشر من قصة” كوبون مزيف” ،وهي قصة قصيرة لتولستوى ثم استسلمت تماما لتخيلاتي، واعتمدت عليها حتى النهاية، وادخلت عليها فكرة خلاص البطل، التي لاتوجد أو لاتحتل نفس المكانة في قصة تولستوى. انني أطلق دائما في لحظة ما العنان لخيالي، مثل جواد تنزع عنه صهوته، وانطلق معه ،الى حيث يحلو له أن يأخذني. انها ليست قصة تولستوى ،في الفيلم . لأن تولستوى يحكي، مع أول جريمة تقع في قصته، يحكي عن الله والانجيل، ولم ارغب في أن أسير على خطاه، لأن فيلمي يركز على فكرة مشاعر الاستهتار والامبالاة عند الناس، وكيف بمارسونها ، من دون ادراك أو وعي، وكيف أنهم لايهتمون إلا بإنفسهم، وبإسرهم فقط،كما اني انجزت فيلم ” من المحتمل الشيطان ” لاناقش نفس الفكرة ذاتها – أعني اللامبالاة – ولكن على نطاق أوسع، واشمل، نطاق العالم كله..فقد كان هناك – إن كنت تتذكر – شباب كثير ينتحر ،بإشعال النار في نفسه، غير ان شباب اليوم مختلف عنه ،فلم يعد يفكر في الانتحار، ولم يعد يصدمه ،أن يجد أن هناك من يريد دمار الارض التي ولد على تربتها.وكان البعض – بخصوص فيلم ” الشيطان من المحتمل ” – حكي لي عن صبي، أحترق في مدرسة في فناء ليسيه في مدينة من مدن الشمال الفرنسي، فطلبت من والديه ان يرسلا لي مفكرته الشخصية، التي يدون فيها مذكراته الحميمية، ولم استخدمها على الاطلاق، بل أردت معرفة كيف كانت روح هذا الصبي، الذي لم يكن يجيد الكلام ، والتعبير عن نفسه، ويشعر بالرعب، تجاه مايحدث في عالمنا..فقرر أن ينتحر
– عند اي نقطة اثناء قراءة النص القصصي تتولد لديك الرغبة في تحويله الى فيلم سينمائي
. في حالة نص ” كوبون مزيف ” لتولستوي، ظهرت تلك الرغبة في التو، ورأيت الفيلم في الحال، فقد كان نص تولستوي يتوافق تماما مع رغبتي في انجاز فيلم يناقش فكرة ،كيف ان ردود فعل متباينة على شكل مسلسل، يمكن الى تفضي الى كارثة مروعة، وكيف يمكن لورقة مالية، أن تتسبب في قتل أناس كثر، ولماذا يرتكب المرء جريمة قتل؟ ولماذا قتل جوليلن سوريل، مدام دورونال ؟ وهل كان كان مدركا قبل ارتكاب الجريمة، بخمس دقائق، انه على وشك ارتكاب جريمة ؟ طبعا لا ، ترى ماذا يحدث في تلك اللحظة؟ تلك اللحظة، التي تشهد انفجارا لكل مشاعر التمرد والكراهية والغضب المكتومة في داخله، وكان هذا هو الشيء، الذي يهمني في نص تولستوي، أكثر من ذلك الجانب الديني في النص، فهو على الرغم من أهميته، لم يكن يتناسب مع الطريقة، التي يمكن أن نحكي بها عن عالمنا اليوم ..
– هناك خليط من الشخصيات ،في نص تولستوي المركّب ، إلا انك استطعت تجميع عدة شخصيات، في شخصية واحدة..
. حاولت بقدر الامكان ،التبسيط في الشخصيات، أولا أثناء كتابة السيناريو ، وثانيا عندما بدأنا نصور الفيلم، وذلك حتى لا يكون السيناريو مكدسا بالصور ، وتفقد بسبب تلك الكثافة اهميتها، ولذلك يتميز الفيلم ربما، بتلك الثبوتية ان صح التعبير، تلك الثيوتية التي تحدث عنها الكاتب والشاعر الامريكي ادجار آلان بو، في قصيدته ” ايروكا ” ، وهذا التكثيف المرتبط بكتابة الشعر..
ليس الشعر ، كما تحدث عنه أرسطو في كتابه ” شعريات ” ولكن الشعر السينمائي، الناجم عن هذا التبسيط ، والذي لايعني، إلا برؤية مباشرة، لواقع حياة البشر والأشياء..
– في كتابك ” ملاحظات على السينماتوغراف ” تكتب بحروف كبيرة هذه العبارة ..” على مسافة ،تحترم النظام والفوضى ..” وهو الشيء الذي ينطبق تماما ،على منهجك في الاخراج، الذي يجمع بين فترة إعداد طويلة ودقيقة ، ثم الانفتاح في مابعد، أثناء التصوير، على عامل ” المصادفة ” ..
. ” يجب هز الشجرة ” .. هكذا كان يحلو لشارلي شابلن أن يردد، لكن لايجب هزها كثيرا ، كما أعتقد، فنحن بحاجة الى شييء من الفوضى . ان بعض افلامي، تجعل البعض يظن انه قد تم الاعداد لها ،بعناية فائقة ،كما هو الحال مع فيلم ” النشّال ” لكن هذا غير صحيح، فقد كتبت الفيلم في ثلاثة شهور، وصورته في زحام الشوارع ،وسط الناس، في أقصر وقت ممكن، كما صورت فيلم ” محاكمة جان دارك ” أيضا بسرعة، لكن كان اخراجه أسهل، بسبب توافر وحدة المكان، ووحدة الشخصية، وكنت بالنسبة لفيلم ” المال” أخشى من تعدد أماكن التصوير في الفيلم، وادارة التجمعات البشرية في الفيلم، وأفقد السيطرة، لكني نجحت في الانتقال بيسر، بين المشاهد ،من خلال الانتقالات الصوتية، وأكاد أقول الانتقالات الموسيقية، وكان من المعتاد في الماضي، استخدام الاختفاء التدريجي لللقطة، ثم ظهور لقطة جديدة ، لكني وجدت ان الانتقال عن طريق شريط الصوت أفضل، من ذلك بكثير،بل وأجمل، لكن لا أحد يستخدم هذه الطريق..
، والبعض يتهمني الآن، بأني أمكث طويلا عند نهاية المشهد، لأن الأفلام الحالية، عندما ينتهي الحوار في المشهد، إما أن تغلق المشهدبموسيقى، أو تفتح على مشهد آخر ،وتنتقل الى حوار جديد، واذا لم يحدث، لا هذا ولاذاك، وقع – ياللغرابة – المشهد بأكمله ! عجيب !..
– عندما نشاهد افلامك، لانشعر بأن جزءا كبيرا من الفيلم، يعتمد على عنصر الارتجال.
. في الفيلم السابق، كما في فيلم ” المال ” لم أحاول مطلقا، أن أعرف مسبقا ،كيف ساتحرك لاخراج الفيلم. وماذا أنا فاعل به، وسأفعل، فيجب الشعور بالصدمة في الحال، واكتشاف والاحساس بكل ماهو جديد، في ما يخص الاشخاص والأشياء في الفيلم، وأنا لا اترك نفسي لكى اصدم، بل أشارك أيضا في صنع تلك المفاجآت ،التي القي بها على شريط الفيلم الخام، وهذا ما حدث ، عندما هبطت الى ذلك الميدان، للشروع في تصوير الفيلم، وارتأيت تصوير سراويل المارة ،وتحدثت عن ذلك سابقا، لأن السراويل تجسد مفهوم الحركة ،وتحدد مكان بطل الفيلم، وسط الناس، و عندي اعني اسلوبي ، إما أن أصور الميدان بهذه الطريقة، أو أن اقدم له صورة كارت بوستال كما يفعل المخرجون،، والواقع أن أغرب ما كان يدهشني، عندما كنت مازلت اتردد قديما على دور العرض، ومن خلال تلك الافلام التي كنت أشاهدها حينذاك ، هي أن كل شيء في تلك الافلام، وكل التفاصيل الصغيرة ، كان تم الاعداد لها مسبقا ،وكان كل الممثلين، قد درسوا أدوراهم، وحفظوها ! ..
غير ان الفنان الرسام في اعتقادي ، اي رسام ، لايعرف مسبقا ،على أي شكل، ستخرج لوحته ،عندما ينتهي من العمل فيها، ونفس الشيء بالنسبة الي، فلا أعرف، على أي صورة سيخرج الفيلم، إلا عندما أنتهي من العمل فيه، وهو على ما أعتقد، نفس الشييء أيضا، بالنسبة للمثال و..الشاعر ..
أجرى الحوار : ميشال سيمان
إعداد وترجمة : صلاح هاشم