“بطلوع الروح”..حكاية دولة الخرافة الزائلة. بقلم يوحنا دانيال
أخيرا انتهى المسلسل المثير للجدل “بطلوع الروح”، الذي تعرض للهجوم المتواصل خلال أيام عرضه الخمسة عشر، من قطاعات واسعة من الجماهير التقليدية، والمتديّنة على الخصوص، التي لم تشاهد المسلسل أصلا، وحكمت عليه مسبقا بأنه مجموعة أكاذيب وتلفيق. وذلك لأنها لا تصدق ان جنود دولة الخرافة هم بهذا السوء، ولأنها لا تزال تعتقد ان هؤلاء المقاتلين الشرسين هم مؤمنين ومتدينين فعلا، ويحملون أخلاقا تتناسب مع هذا التديّن الكاذب، من دون اي ادراك ان هذا التدين ما هو إلا قناع للوصول إلى السلطة بأي ثمن. ونقصد الوصول الى سلطة من النوع المتخلف القديم، مما يسبق حتى الدولة العثمانية؛ سلطة دينية مطلقة تضطهد النساء على الخصوص، وتعاملهم كجواري وسبايا وخادمات منزليات، وزوجات للانجاب والمتعة.
اذ للرجل ان يأخذ زوجات أخريات وسبايا وتطليقهن ساعة يشاء، ويمارس العنف معهن كما يشاء، بحسب شريعة لا تتلاءم اطلاقا مع العصر ومع حقوق الإنسان والمرأة والطفل. إضافة إلى قيام هذه السلطة بتكفير كل الاقليات الدينية الأخرى ومقاتلتهم وفرض الجزية عليهم، وتهجيرهم والاستيلاء على دورهم وأموالهم وسبي نساءهم.
ورغم كل هذه الممارسات الاجرامية التي عرفها الناس جميعا في العالم العربي قبل غيره، ظلت قطاعات واسعة من الجماهير متمسكة بالصورة الدينية المزيفة لهؤلاء الارهابيين المنظمين، وتعتبرهم أملا للانتصار على الحكومات المحلية وعلى الغرب المهيمن على هذه الحكومات كما يعتقدون. وربما كانت هذه الجماهير المخدرة بحاجة إلى صدمة قوية للاستيقاظ من هذا الاعتقاد الوهمي،
كاملة أبو ذكرى
وبالفعل جاء عمل المخرجة الكبيرة كاملة أبو ذكري صدمة عنيفة لهذه الجماهير الموهومة، بسبب واقعية الإخراج وحرفيته العالية في اعادة خلق مدينة الرقة السورية المنكوبة تحت سيطرة داعش عليها. اذ قامت بتصوير الحياة الواقعية الصعبة فيها على جميع المدنيين، وعلى الأخص النساء.
لقد استطاعت ذكري خلق أجواء العنف والظلم والمعارك الكبيرة. وكان مفاجئا ان مخرجة مصرية استطاعت أن تتفهم ايضا الدور الكردي في معارك تحرير الرقة، من خلال إبراز مقاتلي ومقاتلات قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، ودورهم الاساسي في المعارك وتضحياتهم الكبيرة، كما ركّزت على دور النساء المقاتلات والقائدات القويات في قسد. ولأول مرة في الدراما العربية وخصوصا المصرية، تتم الاشادة بالاكراد وبحقوقهم وقواهم السياسية. ولم تترك المخرجة الذكية مقاتلي ومقاتلات الدواعش اسرى للنظرة النمطية ايضا، بل تعمّقت في شخصياتهم ورجعت إلى الماضي يوميا في كل حلقة، كي تسلط الضوء على تطورهم الدرامي والسياسي. اذ اتبعت أسلوبا إخراجيا حديثا بالرجوع إلى سنة وتاريخ معين في كل مرة، لدراسة وتحليل كل شخصية على حدة، وكيف وصلت إلى الرقة المرعبة؛ هذه الرقة القائمة على بركان ينتظر الثوران.
وهكذا فككت المخرجة كل الشخصيات المهمة في العمل ودوافعها ونوازعها بشكل رائع. وبالطبع فإن كل هذا لم يكن ليتحقق من دون ممثلين كبار ونص ورائع يقف عليه العمل؛ نص كتبه باحكام الكاتب الصحفي والسيناريست محمد هشام عبية، ليغطي 15 حلقة فقط، بالاتفاق مع المخرجة والمنتج اللبناني شركة الصبّاح إخوان؛ كي يكون المسلسل بعيدا كليا عن الحشو والمطّ، السائدان في المسلسلات الرمضانية الثلاثينية.
لم يكن من الممكن تحقيق هذا العمل المتميز والاستثنائي من دون ممثلين كبار في موهبتهم وقدراتهم. وبالفعل فقد كان اختيار المخرجة رائعا للثلاثي الأساسي في العمل؛ الفنان أحمد السعدني بدور القائد الداعشي عمر، والفنان محمد حاتم بدور الداعشي المغرّر به أكرم، والفنانة الرائعة منّة شلبي بدور روح زوجة أكرم. استطاع هذا الثلاثي ان يشد المشاهدين منذ البداية، اذ كانوا أصدقاءا في الجامعة وافترقت مصائرهم، ثم اجتمعوا مجددا في الرقّة. وعندما ينغمس الممثل في دوره بعمق وذكاء، ينعكس هذا الدور على كل كيانه، وخصوصا على وجهه وعينيه.
وهكذا كان الفنان السعدني بدور عمر قائد جند الخلافة في الرقة؛ الانتهازي، العنيف، القاسي، الذي يخطط للاستيلاء على زوجة صديق عمره أكرم، حتى لو كانت دولة الخرافة تنهار؛ هي واسسها العتيقة البالية الوهمية. يبدع أحمد السعدني في أداء دوره بشكل مرعب ومقنع جدا، وهذه اللقطة صورتُها بنفسي مباشرة من شاشة التلفزيون؛ لم أصدق مقدار القوة في العينين، وفي كافة تفاصيل الوجه، الذي يبدو كلوحة فنية للقسوة والعنف. ويقوم الممثل الشاب محمد حاتم بدور أكرم؛ الشاب المهزوز، المدمن، الذي يغرّر به اعزّ أصدقائه لينضم لجند دولة الخرافة في الرقّة، بصحبة زوجته روح التي تقوم بدورها منّة شلبي وابنه الطفل سيف المصاب بمرض الهيموفيليا. وبينما يطيع أكرم كل الأوامر ويصدق كل شيء، فإن زوجته لا تتحمل هذه الحياة المليئة بالظلم والعنف، وتحاول الهرب بأية طريقة مع ابنها المريض، باقامة شبكة من العلاقات السرية، وتعرض نفسها للخطر طوال الوقت. انها أمرأة أضاعت كل شيء؛ زوجها، ابنها، حياتها، عالمها، بعد أن خدعها زوجها الذي تحبه، وقادها الى الجحيم الذي انتهى بها في مواجهة حكم الاعدام بالرصاص.
إنها لحظات قليلة على الشاشة، ظهرت فيها شلبي في قمة العطاء، بأداء حقيقي، عميق، وذكي يخلط مشاعر كثيرة. اما زوجها المخدوع أكرم الذي ينغمس في مهمات خطرة ومميتة، فإنه خلال سنة يكتشف زيف كل الشعارات والصلوات. ويعي ان وراء كل هذه الشعارات الدينية الكبرى، لا يوجد سوى القتل واضطهاد الجميع في هذا المجتمع الديزوتوبي العُصابي. وفي الساعات الأخيرة قبل النهاية الكارثية لدولة الخرافة، وبينما هو يصلي مع مجموعته خلف قائدهم الذي يؤومهم في الصلاة، يصحو اكرم فجأة من الغيبوبة ويترك الصلاة، ويأخذ الكلاشنيكوف ويطلق عليهم الرصاص جميعا؛ في ثورة غضب مفاجئة انتقاما لنفسه ولزوجته وطفله، ليختفي من الأحداث. وبحق كان هذا مشهدا صادما غير مسبوقا في تاريخ الأعمال الفنية العربية.
لقد أبدع محمد حاتم في دوره وفي هذا المشهد الذي رسمته المخرجة ونفذته بدقة وحرفية. وإذ تفرّق الأقدار عمر وأكرم وروح بعيدا عن بعضهم البعض .. في نهاية مفتوحة مناسبة جدا لهكذا أحداث مصيرية دامية .. الا انها توحي أيضا بإمكانية انتاج جزء ثاني مكمّل من هذا العمل الجميل والمهم .. نتمنى ان نراه قريبا.
يوحنا دانيال
يوحنا دانيال كاتب وناقد عراقي مقيم في السويد