وداعا تافرنييه الأب الروحي للسينما الفرنسية في الدم. بقلم صلاح هاشم
سابين أزيما في لقطة من فيلم ” يوم أحد في الريف” لبرتراند تافرنييه
أحببت الفنان والمخرج والمؤرخ والمنتج والموزع والمفكر السينمائي الفرنسي الكبير برتراند تافرنييه ، من مواليد مدينة ” ليون” وسط فرنسا في 24 ابريل عام 1941، وتوفي في قرية سان بول اقليم الفار في 25 مارس2021 عن عمر يناهز 79 سنة،
أحببته من أول لحظة التقينا فيها، وكان ذلك منذ أكثر من عشرين عاما، في قلب سفارة أندونيسيا في باريس. ومن هنا تبدأ الحكاية..
فقد كانت السفارة أقامت حفلا لتكريم الممثلة الاندونيسية الكبيرة كريستين حكيم، بسبب حضورها الى فرنسا، ومشاركتها بفيلم من بطولتها ،في مهرجان( القارات الثلاث ) في مدينة نانت الفرنسية،وكانت كريستين، التي حضرت عرض فيلمها في نانت، وأجريت معها حوارا طويلا لمجلة ” كل العرب” الاسبوعية التي كانت تصدر من باريس آنذاك في فترة التسعينيات،
دعت فقط لحضور حفلها،من بين كل النقاد والصحافيين، الذين التقتهم في المهرجان،دعت- لدهشتي – برتراند تافرنييه،وكاتب هذه السطور،وكان لقاء تافرنييه، الفنان الحكاء، والمخرج اللطيف المهذب، أجمل ماوقع لي في ذك الحفل التاريخي البهيج ..
فقد بهرني تافرنييه، ليس بجسده العملاق، وقامته،بل بأدبه الجم، وتواضعه النبيل،وأخلاقه العالية،وخجله الكبير،وإنسانيته الجمة،ومعارفه السينمائية الواسعة،وبهرني أكثر،عندمااقتربت منه،وصرناأصدقاء،بسبب ثقافته السينمائية الموسوعية المذهلة..
ليس فقط،في مايخص السينما الفرنسية،ونجومها ومخرجيها، وتاريخها وذاكرتها وأسرارها، وتفاصيلها، بل في مايخص أيضا السينما الأمريكية الكبيرة،والأدب الأمريكي، وموسيقى الجاز وأعلامها،
وربما كان فيلم ” حول منتصف الليل “AROUND MIDNIGHT الذي أخرجه تافرنييه، من أهم الأفلام التي صنعت،عن موسيقى الجاز والسينما، وعلاقة موسيقى الجاز،وارتباطها ومنذ نشأتها، بتاريخ العبودية ،في أمريكا، ونشأة السينما كفن، في الربع الأول من القرن العشرين..
الأب الروحي للسينما الفرنسية
برتراند تافرنييه
ولم يكن تافرنييه الذي أخرج أكثر من 30 فيلما، وعرفته وأحببته، وأحببت أفلامه التي تحكي جميعها عن “الأسرة “، أو المجموعة الإنسانية ، و قيمة الحب في حياتنا،والكيفية التي يمكن من خلالها، أن نتجاوز مشاكل وأزمات وتناقضات مجتمعاتنا ونناضل، وبكل تلك القيم التي يفاخر بها الإنسان، لكي نسمو بإنسانيتنا،خارج مجتمعات الاستهلاك المادية الكبرى ونرجسيتها المقيتة، وفقط عندما نستشعر، بأن الإهانة التي تلحق بإي إنسان في العالم ،هي إهانة للإنسانية جمعاء..
لم يكن برتراند مخرجا- أفلام ” يوم أحد في الريف “UN DIMANCHE A LA CAMPAGNE و ” ساعاتي حي سان بول ” و ” فليبدأ الحفل ” وغيرها فحسب، بل كان أيضا مؤرخا – فيلم ” رحلة في السينما الفرنسية ” فيلم وثائقي طويل ورائع،يستغرق عرضه أكثر من 4 ساعات، ويعد في مجمله، “تحية حب وتقديس وتكريم :للسينما الفرنسية وتنوعها الهائل، كما في تنوع DIVERSITY أفلام تافرنييه ذاته، الذي جرب كل أنواع الأفلام – في ما عدا أفلام نوع الوسترن ،ونوع الكوميديا الموسيقية –والذي أطلق من خلال أفلامه شهرة مجموعة كبيرة من الممثلين والممثلات الفرنسيين في الع
فن إدارة الممثل
لقطة من فيلم ” إزالة ” COUP DE TORCHON تظهر فيها ايزابيل أوبير وفيليب نواريه
والقائمة هنا طويلة جدا ،وتضم أسماء كثيرة مثل فيليب نواريه، وسابين ازيما، وايزابيل أوبير وناتالي باي وغيرهم، وقد كان تافرنييه أيضا مؤلفا – كتاب ” السينما الأمريكية في خمسين سنة ” ومنتجا – من خلال شركة ” الدب الصغير ” التي أنشأها – وكاتب سيناريو، لغيره من المخرجين،، ومدافعا عن التراث السينمائي الفرنسي، وضرورة الحفاظ عليه من الضياع والاندثار- شغل تافرنييه منصب رئيس “معهد لوميير” السينمائي في مدينة ليون،
للحفاظ على تراث الشقيقين لومير اللذين اخترعا السينماتوغراف- كما كان مناضلا ضد الحروب، والكلونيالية- الاستعمار، كما في فيلمه البديع،أو بالأحرى من وجهة نظرنا، رائعته ” (COUP DE TORCHON ) وتنعي حرفيا ضربة خرقة بمعنى تنظيف أو إزالة – إزالة كل وسخ المستعمرين الفرنسيين الأجانب في الفيلم الذكي – و كذلك العنصرية البغيضة في فرنسا، والفاشية المنظمة، وضياع الشباب الفرنسي، الذي يريد أن يصل بسرعة، من دون ثقافة أوخبرة وتمرس، وأن يحصل على المال بأي وسيلة، كما في فيلمه الأثير ” الطعم ” LAPPAT – حتى صار تافرنييه “الأب الروحي” LE PARRAIN للسينما الفرنسية بالفعل – كما وصفته جريدة الفيجارو- وعن إستحقاق وجدارة.
وحيث تقف معظم أفلامه ” الكلاسيكية ” التقليدية، من نوع ” سينما الجودةQUALITY ” في فترة الخمسينيات، وقبل ظهور حركة ” الموجة الجديدة ” في السينما الفرنسية.تقف في خندق الدفاع عن المرأة، وحقها في الحرية ،والمساواة ،وقد تمثلته وأحببت أفلامه ” الإنسانية الواقعية ” من خلال أبطالها،وأعجبت بفن تافرنييه الكبير- الذي تجري فيه السينما مجرى الدم في العروق- في ” إدارة الممثل ” – على طريقة المخرج الأمريكي العظيم إليا كازان، كما في فيلم ” رصيف الميناء” ،الذي يدير كازان فيه الممثلين الشامخين العملاقين مارلون براندو ورود ستايجر،وعشقه الكبير تافرنييه للمسرح، والممثلين المسرحيين..
ويظهر ذلك الفن- فن إدارة الممثل عند تافرنييه – في أبلغ صوره، في رأيي، في فيلم ” القاضي والقاتل ” الذي يلعب بطولته الممثل الفرنسي فيليب جالابرو، فعلى الرغم من أن جالابرو، كان يصنف كممثل كوميدي، ويشارك في أفلام ليو دو فينيس الكوميدية، مثل فيلم ” جندرمة سان تروبيزا” ، استطاع تافرنييه أن يحدث انقلابا رهيبا ،في مسيرة جالابرو السينمائية ومنحاه في التمثيل، حين جعله يضطلع ببطولة فيلم درامي تاريخي، يثير الكثير من الجدل( القاضي والقاتل ) وينجح ويبرز فيه بتمثيله، ويحصل على عدة جوائز ، ويفتح تافرنييه هكذا لجالابرو، الممثل المسرحي الكبير،سكة جديدة..
” السعادة ” بعد مشوار السينما الطويل
في كتاب بعنوان” برترند تافرنييه . السينما في الدم. محاورات مع برتراند تافرنييه ” للكاتب والناقد السينمائي الفرنسي نويل سومسولو، ويحكي فيه عرّاب أو الأب الروحي للسينما الفرنسية، عن مسيرته السينمائية الكبيرة، وعن هذه السينما الفن الرائع، الذي يفتح لنا سكة للفهم والوعي، على درب التنوير، وهو يعلي، ويذكي فينا، من قيمة الفضول، يسأل نويل تافرنيه..
“.. ماهو تعريفك يا تافرنييه.. لـ ” السعادة ” ..وماذا تعني لك ؟” ..
فيرد تافرنييه- الدرويش، المخرج الفرنسي، من الحكائين والمشائين الكبار، وأعظم الحكواتية في عصرنا ، يرد قائلا :
” ..السعادة الحق يانويل، أن تستيقظ صباح كل يوم، وتجد نفسك مازلت على قيد الحياة، ياللمتعة، فتأمل أن يكون يومك، أجمل من الأمس ، وأنت تدلف الى بحر الحياة، من دون خوف، أو وجل. لاشييء.. سوي السينما “..
وداعا تافرنييه..
صلاح هاشم
برتراند تافرنييه يتسلم جائزة الأسد الذهبي لمجمل أعماله من مهرجان فينيسيا
صلاح هاشم
ناقد سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا ومؤسس موقع سينما إيزيس عام 2005 في فرنسا