سياسة اللعبة الساحرة.كرة القدم حالة كونية كرنفالية. بقلم نبيل عبد الفتاح
تمثل كرة القدم اللعبة الكونية الساحرة فى عالمنا المعاصر تعبيرًا عن جوهر عمليات التنافس بين الفرق الوطنية، والأمم والبلدان التى لا تزال فى طور عمليات بناء الدولة الأمة ما بعد الكولونيالية. ظهرت اللعبة من خلال التنافس بين الفرق المحلية ما بعد نهاية الاحتلال الغربى، كمحاولة لاستعادة بعض من مظاهر التميز التى وسمت المستعمر البريطانى والفرنسى والإيطالى والبرتغالى، ودمج هذه اللعبة ضمن النظم الرياضية التى كانت مقصورة على الطبقات الحاكمة، وكبار الأثرياء مثل التنس، وتنس الطاولة كجزء من فضاءات اللهو البرىء، والمتعة، وبناء الجسم الرياضى السليم لبعضهم. كرة القدم كانت ولا تزال رياضة الفقراء أساسا، فى ممارستها وفى انتقاء اللاعبين، من الفئات الفقيرة، والمتوسطة الصغيرة فى الغالبُ، فى البرازيل، والأرجنتين، والبلدان الإفريقية، والعربية. الكتل الجماهيرية للعبة الساحرة الغاوية تنتمى للفقراء، ومتوسطى الحال، والأغنياء، إلا أن مركز تشجيع الفرق المحلية فى الدوريات الوطنية هم الفقراء والطبقة الوسطى، لأن اللعبة ذاتها تعتمد على التنافس، والمهارات الشخصية للاعبين، والخطط الكروية، والأداء الجاد. الفن الكروى هو ابن الموهبة، والأداء الحركى، وذكاء اللاعب، ويقظته أثناء اللعب فى التحكم بالكرة، وذكاء التمريرات، والقدرة على التصويب القاتل على مرمى الخصم، وإصابة الهدف، وكل ذلك من خلال الطابع الجماعى للعبة الساحرة.
هل هناك علاقة للسياسة بكرة القدم، أو سياسة الكرة؟ ثمة علاقة بين لعبة كرة القدم، والسياسة الداخلية من عديد الأبعاد التى يمكن رصدها على النحو التالى:
أولًا: على صعيد السياسة الداخلية، تلعب كرة القدم دورًا وظيفيا مهمًا فى مجال بناء التكامل الوطنى بين المجموعات الأساسية فى المجتمعات مادون الدولة الأمة، من خلال الفريق الوطنى، الذى يمثل فى تكوينه كل المجموع الوطنى الكلى –العرقى والدينى والمذهبى والمناطقى-، وذلك من اللاعبين الموهوبين من هذه المكونات المجتمعية، وانخراطهم جميعًا فى اللعب باسم الدولة الوطنية، دونما تمييز بين اللاعبين إلا وفق معيار الموهبة، والكفاءة، والأداء الجاد، والانخراط فى اللعب الجماعى تحت شعار الوطنية.
ثانيًا: يؤدى الفريق الكروى الوطنى دورًا مهمًا فى التعبئة الوطنية –السياسية الوظيفية- وراء الفريق فى المسابقات القارية، أو الكونية كما فى كأس العالم، سواء من خلال طقوس الفرجة على الفريق، وتشجيعه مباشرة فى الملاعب، من القادرين على السفر وراء فريقهم لتشجيعه، أو عبر المشاهدات التلفازية، والرقمية.
يلاحظ أيضا مع الثورة الرقمية والقنوات الرياضية، يتم توظيف الصراعات بين قيادات الأندية الكبرى فى تأجيج الصراع بين جماهير هذه الأندية، وإنتاج ما يطلق عليه فى اللغة الرقمية الترند Trend الاتجاه الشائع فى لحظة أو وقت معين فى الموضة أو الترفيه أو السياسة، أو الجريمة، أو الرياضة، أو بعض وقائع الحياة اليومية. هذا المسار Trend Line، أو خط اتجاه بات يستخدم بين بعض قادة الأندية الرياضية، والمدربين واللاعبين، ويمكن القول إنه يؤدى دورًا وظيفيًا وسياسيًا، فى كسر هذه الاستقطابات الاجتماعية، وتحويلها إلى مجال الصراعات الكروية والشخصية بين اللاعبين والمدربين وقادة الأندية.
هناك أدوار أخرى لكرة القدم على المستوى الكونى يمكن إيرادها فيما يلى:
– الفرق الوطنية باتت تعكس التنوع العرقى والدينى من خلال تشكيلاتها، وألوان اللاعبين وأعراقهم التى تمثل حالة التعدد الداخلى، ودمج بعض الاجيال المتعددة المهاجرة داخل سياسة الاندماج القومى للأقليات فى غالب الفرق الوطنية فى أوروبا، وأمريكا، وكندا.
– لم تعد الجماهير المشجعة لكرة القدم ذات طابع وطنى فقط، وإنما تنقسم هذه الجماهير وتتوزع إلى تشجيع فرق أوروبية، وغربية وفى أمريكا اللاتينية فى الدوريات القارية أو الوطنية، مثل تأييد غالبُ المصريين لنادى ليفربول دعمًا لمحمد صلاح اللاعب المصرى اللامع فى هذا الفريق، وأيضا التوزع على فرق أخرى فى بريطانيا، أو فرنسا، أو ألمانيا، أو إيطاليا، أو إسبانيا، أو البرازيل والأرجنتين. التوزع فى اختيارات التأييد، والتشجيع من جماهير كرة القدم لفرق كروية كبرى، ولاعبيها البارزين فى قارات أخرى، يمثل تعبيرًا عن بعض السمات الثقافية، والرياضية الكونية فى تطور البُعد القومى إلى بعد إنسانوى متعد للانتماء الوطنى للفرق الكروية.
-انتقال أساليب التشجيع من الطابع العفوى للفرق الوطنية إلى أساليب منظمة، من خلال جماعات الألتراس التى أخذت اتجاها سياسيا فى بعض البلدان فى ظل بعض الانتقاضات الشعبية، أو الاضطراب السياسى والاجتماعى. من ناحية ثانية، توظيف بعض أشكال التشجيع من خلال الهتافات، والموسيقى، وقرع الطبول، والزى، والألوان، وحملها على بعض الرموز الوطنية.
العلاقة بين السياسة وكرة القدم، تشكل أحد الأبعاد الوظيفية السياسية للعبة الساحرة، ولكن اللعبة غنية بالإثارة، والحماسة، والتعصب، وبالممارسات الحركية، من حيث الموسيقى،والغناء الوطنى أو للأندية، والرقص على نحو يشكل مسارح كونية وقارية ووطنية للهو البرىء، والمتعة، وتنفيس الغضب الشخصى، والجماعى إنها حالة كرنفالية كونية.
اللعبة الكروية محمولة على الشغف، والإبهار من خلال مهارات ومواهب اللاعبين البارزين الذين يتحولون إلى أيقونات كونية، ووطنية، وهى تعبر عن القوة لبعض الأمم الكبرى، وتوظف فى تطوير اللعبة التطورات العلمية والتكنولوجية فى الطب الرياضى، وفى الخطط والتنظيم، وفى استخدام الذكاء الصناعى فى ضبط قرارات الحكام، والرقمنة فى معرفة حالة الفرق الأخرى المنافسة ودراستها تدريبا وتكوينا، وتحليل أوضاعها. ثمة تسليع للعبة، والإنفاق الكثيف عليها، وفى صفقات شراء اللاعبين وأجورهم مع المدربين، ومديرى الكرة على نحو بات لا يثير الدهشة من الأرقام الكبيرة سنويا وشهريا. كرة القدم لعبة مدهشة، لأنها تمثل سردية حركية وبصرية جميلة.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب ومفكر مصري مقيم في القاهرة.مصر
عن جريد ” الأهرام ” بتاريخ 1 ديسمبر 2022 لـ ” مختارات سينما إيزيس “