صلاح هاشم يكتب لجريدة ” القاهرة ” عن “سينما الواقع” الوثائقية، كممارسة للحرية في أروع اشكالها، في الدورة 25 لمهرجان الإسماعيلية. ( 2 من 3 )
تري أين يكمن سحر هذه ” السينما الأخرى ” السينما الوثائقية، التي يعرضها مهرجان الإسماعيلية في دورته 25 الحالية، والتي يحتفل فيها بيوبيله الفضي، وماهو المقصود بـ ” سينما الواقع ” – CINEMA DU REEL – في باريس عندما نتحدث أحيانا عن السينما الوثائقية ؟.هل “سينما الواقع” تعني الحديث عن نوع، أو تيار سينمائي جديد في السينما، مختلف عن مدارس السينما الوثائقية السابقة عليه بأشكالها المتعدد ة؟ وإذا كان الأمر كذلك، ماهي أبرز ملامح هذه الأفلام الوثائقية، التي تنتمي الى نوع” سينما الواقع” الجديد،والى أي حد يمكن إعتبار، أن إنطلاقة مهرجان سينما الواقع في باريس- كان يطلق خطأ على المهرجان إسم” مهرجان سينما الحقيقة ” – VERITE – بمثابة “نقطة تحول” في تاريخ السينما الوثائقية، وأول إطلالة،على ما أحب أن أطلق عليه بـ ” حداثة ” السينما الوثائقية المعاصرة”؟ ..
صلاح ابوسيف يشارك في لجنة تحكيم “مهرجان سينما الواقع”
بداية..سينما الواقع – CINEMA DU REEL – هو إسم مهرجان سينمائي فرنسي دولي بمسابقة، تأسس في باريس عام 1978، ويعتبر الآن بعد مرورأكثر من أربعين عاماعلى تأسيسه،أحد أهم وأبرز وأشهر المهرجانات السينمائية المخصصة للسينما الوثائقية في العالم..
وهومن ضمن المهرجانات السينمائية الفرنسيةالكثيرةالجديرة بالتقدير والاحترام ،التي كنت أحرص على متابعاتها، والكتابة عنهاوعن أفلامها منذ زمن – وتحديدا منذ أن حط بي الترحال في فرنسا، واتخذتها سكنا ،منذ أكثر من أربعين عاما،مثل مهرجان “كان” السينمائي،ومهرجان “نانت” لسينما القارات الثلاث .افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية الذي يقام في مدينة نانت عاصمة إقليم اللوار في فرنساا،ومهرجان “مونبلييه” للسينما المتوسطية،الذي يقام في مدينة مونبلييه في الجنوب الفرنسي كل سنة ،ثم مهرجان “سينما الواقع” – في باريس – وكان ذلك منذ بداية عملي بداية في فترة الثمانينيات،كصحفي وناقد سينمائي، في مجلة ” الوطن العربي ” الاسبوعية،التي كانت تصدر آنذاك من باريس، وكانت أول مجلة عربية إسبوعية تهاجر الى فرنسا..
فيلم ” القشاش ” لعواد شكري يفوز بجائزة مهرجان سينما الواقع
وكانت السينما العربية، ومنذ تأسيس مهرجان ” سينما الواقع ” –CINEMA DU REEL – عام 1978، سارعت الى المشاركة، من خلال أفلامها الوثائقية، في مسابقاته، وقد فاز بعضها بجوائزه، مثل فيلم ” القشاش ” سيناريو وإخراج عواد شكري من مصر، الذي يحكي عن قطار الصعيد الشهير، و مثل فيلم ” 4 كاميرات محطمة ” اخراج عماد برنات من فلسطين..
كما شارك العديد من كبار المخرجين العرب، في لجان تحكيم” مهرجان سينما الواقع”، مثل المخرج المصري الكبير صلاح أبو سيف، والمخرجة التونسية مفيدة تلاتلي، والمخرج المصري يسري نصر الله، وغيرهم..
بالاضافة الى تنظيم المهرجان، للعديد من التكريمات للسينمات الوثائقية في العالم العربي، لعل أبرزها في رأيي، ومن واقع متابعاتي لأعمال وأفلام المهرجان منذ عقود، تكريم “السينما السورية” بمشاركة أفلام للمخرجين السوريين، من أمثال عمر أميرالاي ،وأسامة محمد ، وهالة العبد الله ، وغيرهم..
في تقديم لـكتاب ” سينما الواقع ” لكلير دوفاريو وماري كريستين دو نافاسيل الصادر عن دار نشر “اوترمون” في باريس، تحكي الصحافية كلير دوفاريو ومؤسسة المهرجان ماري كريستين دو نافاسيل،تحكيان عن المهرجان، وكيف تأسس..
تتذكر كليرانها التقت بماري كريستين عام 1979 في مركز جورج بومبيدو الثقافي،وكانت ماري تدير آنذاك قطاع السمعي البصري ،أي كل ما هو متصل بالنشاطات الخاصة بالصورة والصوت، في المركز – “مركز بوبورغ”، كما صار يطلق عليه في ما بعد – فقررتا بعد اللقاء الذي تم بينهما خلال ندوة عن “سينما جوريس إيفانز”، تأسيس “مهرجان سينما الواقع”..
وفي عام 1987 كانت ماري كريستين دو نافاسيل تفكر، كيف ياترى ستحتفل بالدورة العاشرة من” مهرجان سينما الواقع” ..
وكيف سيكون الاحتفال بمرور عشر سنوات على إقامة ذلك المهرجان ،الذي كان يأخذ من وقتها الكثير، وتبذل فيه جهودا جبارة..
فقد كانت ماري كريستين، من أجل إقامة دورة ما من دورات المهرجان، ومنذ تأسيسه، تشاهد أكثر من خمسمائة فيلم وثائقي كل سنة، وقد كانت علاوة على ذلك، تعرف هؤلاء الذين أخرجوا تلك الأفلام..
بل لقد كانت تعرف أيضا المتفرجين الذين يشاهدونها في المهرجان- أكثر من 700 متفرج في اليوم الواحد ،وكذلك الآلاف الذين سيحرصون على مشاهدة هذه الأفلام التي يحتفظ بها في ما بعد في أرشيف المهرجان..
بالإضافة طبعا الى أكثر من 15 ألف متفرج، كان المهرجان يستقطبهم إليه بأفلامه ، كل سنة..
فقد كان مهرجان “سينما الواقع”، كما تأكد لها بمضي الوقت، يمثل بالنسبة الى هذا الجمهورالكبير : ” …أداة ” لإكتشاف، والاستمتاع – ذهنيا وروحانيا- بأفلام لايمكن أن تعرض في أي مكان آخر ” ..
وكانت ماري كريستين تطمح أن تضع – بمشاركة كلير – كتابا يحكي عن تلك الأفلام،وعن تلك الرحلة الرائعة،التي تقطعها ماري كل عام ،وهي تجوب فيها العالم، وهي تستمع الى تلك الحكايات المدهشة، التي ترويها لناأفلام مهرجان سينما الواقع، والتي لم يكن من الممكن أبدا، أن تعرض في أي مكان آخر ..
كانت ماري كريستين، تريد أن تصطحبها كلير في رحلتها الى تلك ” القارة الغريبة “، وتريد أن يكون هذا الكتاب بمثابة “رحلة خيالية ” حول “سينما الواقع”..
كانت تريد أن تحكي لكلير، عن أفلام شاهدتها بنفسها، من ضمن، الأكثر من خمسمائة فيلم التي يتسلمها المهرجان كل سنة، وأن تجعل كلير، تشاهد بعض الأفلام التي لايسمح وقت ماري كريستين بمشاهدتها، ونظرا لضيق الوقت..
أفلام من البرازيل، وحتى بلجيكا ،ومن افريقيا، ولحد الصين..
أفلام تكشف عن حكايات لاتصدق ،وتجعلنا نشهق، ونحن نشاهدها، ونكاد نصرخ إن يا ألهي، أهذا ما يحدث حقا في عالمنا. مش معقول ! ..
وتعرض لـ،”حكايات حقيقية”مذهلة،لمخرجين متمهلين،صبورين،يصنعون أفلامهم براحتهم..
ضد تدخل الرقابة، ومقص الرقيب، وقمع الحكومات الشمولية الديكتاتورية الفاشية، ومهما كلفهم ذلك من وقت، أو جهد، أو تضحيات، ومن دون أي تنازل، مهما كان ،من جانبهم..
أفلام جريئة، وصادمة، تفتش عن ” الحقيقة ” ،على الطريق الصاعد الى الجبل الذي سلكه كل الواصلين، وبحس إنساني صوفي ، وهي تعرض بطولات لأناس عاديين، وتجعلنا كما في أفلام المخرج الهولندي العظيم الدرويش جوريس إيفانز، ومحاولته ترويض الريح في أفلامه، نقترب أكثر من إنسانيتنا ..
أفلام فكاهية وتراجيدية، لفن أثير جعل من “الآخرين” مادة لأعماله. لكن،”الآخرون”هم نحن، وذلك عندما يعي الإنسان أنه ذاته لاغيره، يعي أن ” الآخر ” يحدد وجوده أيضا، شأن الذات..
فليس” الأنا” مبدأ الحياة والفكر، وإنما الأنا- الأنت، هو هذا المبدأ. فالعلاقة الحقيقية بين الأنا والأنت هي الحب..
إن حب الآخر، هو الذي يقول لك من أنت، وبدءا من الآخر فقط، تستطيع أن تخاطب الحقيقة، ومن التفاعل والتخاطب ،بين الأنا والأنت، تبجس الأفكار..
فهاهو المخرج الفرنسي الكبير ريمون دوباردون ،يحط في قسم الطواريء ” الإسعاف “، في مستشفى ” لوتيل دو ديو ” للأمراض العقلية، في فلب باريس، لكي يصور حالات الجنون التي تتطلب علاجا سريعا..
حالة مريض، حاول أن ينتحر، وحالات أخرى لأناس فقدوا أعصابهم، بعد أن كسرتهم الحياة، بضغوطات وهموم كل يوم، وحالات لأناس سكيرين، صاروا يتعرضون للمارة على الرصيف، وهم يقذفونهم باقذع الشتائم ،ويعتدون عليهم على قارعةالطريق..
وكان لابد من تدخل الشرطة، وأخذهم الى قسم الطواريء بالمستشفى للعلاج..
ولعل الحكاية الأكثر طرافة ،في كل تلك الحالات، التي يعرض لها دوباردون في فيلمه، من نوع سينما الواقع، حكاية سائق الاتوبيس الذي جن، و ترك الاتوبيس بركابه، وهرب بجلده.. بسبب زحمة المواصلات ..وتوقف حركة السير تماما في العاصمة الفرنسية..
إنها جميعا “حالات “لأناس مثلنا، كما نرى في الفيلم، غير أن الظروف، لحظهم التعس، ضغطت عليهم ،بشكل أكثر قوة وقسوة، وأكثر قليلا من المعتاد، فإنكسروا، وعبرواهكذا الخيط الرفيع، الذي يفصل – وقد يحتاج الأمر لثانية وربما أقلها هفوة- بين ديكور، وديكور آخر..عكسه..في الخلفية..
ومايفعله المخرجون الوثائقيون في أفلامهم،هو مافعله ريمون دوباردون في فيلمه، حين صور تلك الحالات.. فعلمنا أن ننظر ونتطلع الى الجانب الآخر، في الخلفية، ولم يكن أي منا، خطر على باله من قبل، حتى لو سمح له، بتصريح خاص، مثل ذلك التصريح الذي حصل عليه دوباردون، أن يتفقد مستشفى للمجانين..
إن هؤلاء المخرجين يجعلوننا، كما فعل دوباردون في فيلمه، نقترب أكثر، من عالم لانستطيع أن نراه، ولا يسمح لنا بالدخول اليه. ومن هنا تبرز أفلام سينما الواقع، حين ينجح مخرجوها في تحويل ماهو مبتذل، أو ما قد يبدو لنا شيئا تافها عاديا، وممكن أن يحدث في أي مكان..
الى شييء، لايمكن ابدا أن ننساه، كما في حالات الجنون تلك، التي صورها دوباردون في فيلمه..
ومن هنا تقترب محاولة سينما الواقع، أكثر من أي سينما أخرى، سمها ماتشاء، تقترب في رأيي بواقعيتها، من شاعرية الخطاب الصوفي، لتجعل من الفيلم ” حالة” حب..
فكأن الحقيقة – LA VERITE – ليست في الأنا، أو في الآخر،وليست في شكل الفيلم، أو موضوعه ومادته، وإنما هي الحقيقة، في ” نسق معين ” من العلاقة بينهما..
وايضا،..
من حيث أن أفلام هذا النوع الواقعي، لاتكتفي بالوقوف عند الظاهر والجزئي، وإنما تتجاوزه، كما في “شاعرية” الخطاب الصوفي، الى الباطن والكلي.
فن ” سينما الواقع “، الذي تنهار في أفلامه الحدود، بين السينما الروائية والسينما الوثائقية، لأنه في اللحظة التي يختار فيها المخرج إطار أو ” كادر ” اللقطة – CADRAGE – تصبح السينما ، موقفا من العالم ، وتجسيدا لرؤية المخرج المؤلف، و” إختراع النظرة “..
سينما الواقع هي سينما ” الحرية ” وممارسة للحرية ،في أرفع أشكالها ، وبكل ابتكارات واختراعات الفن المدهشة..
تمتعنا أفلام سينما الواقع ،وتبهرنا أحيانا، وعبر تنوعها الهائل، بلمحة أو إشارة أو جملة أو لقطة..
كما انها تقلقنا وتحركنا، و ترعبنا ،وتثير مخاوفنا أيضا، عندما تقصفنا بمشاهد القتل والعنف والدمار الخفية..
وتضعنا في مواجهة مواقف صعبة، وفي قلب العملية الاجتماعية، وتناقضات وأزمات عصرنا ومجتمعاتنا الإنسانية، ..
على أمل،أن يكون الهدف ،من كل محاولات السينما العظيمة، كما يقول المخرج الأمريكي الكبير ستانلي كوبريك، صاحب ” أوديسة الفضاء”، روائية كانت أو وثائقية..
وبكل ذلك السحر الذي تنطوي عليه، ولايمكن تعريفه، ولاندري كنهه، وليس أي شيء آخر..
السعي الى ترويض ذلك “الوحش”.. الذي يكمن داخلنا.
لاخلاص إلا بالسينما الفن.
بقلم
صلاح هاشم. الإسماعيلية
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد ومخرج أفلام وثائقية من مصر ومقيم في باريس.فرنسا
عن جريدة ” القاهرة “