شادي عبد السلام.هؤلاء علموني بقلم صلاح هاشم مصطفى
كان شادى عبدالسلام – من مواليد الاسكندرية في 15 مارس 1930 وتوفي في 8 اكتوبر 1986 – عندما التقيت به في فترة الثمانينات في مصرفي مكتبه، يحمل عدة بطيخات فى يد واحدة ،فقد عمل فى الديكور، وتصميم الملابس السينمائية، ومستشارا لــــ ” الاكسسوار ” التاريخى ، كما عمل فى الاخراج، وعندما أخرج فيلمه ” المومياء” صعد بالسينما المصرية الى القمة، وكنت شاهدت رائعته في نادي سينما القاهرة في فترات الستينيات المجيدة، ولانه مضطلع تماما على شئون وشجون السينما المصرية،فهو لا يخفى أيضا في حديثه معي هنا أن الجزارين وتجار البطاطس واصحاب التاكسيات ،دخلوا ميدان الانتاج السينمائى المصرى ، ليقدموا سينما جد تجارية وفى منتهى الابتذال ..
لم تعد القاهرة – عنما التقيت به في فترة الثمانينيات، وكان يشغل آنذاك مهام مدير المركز القومي للأفلام التسجيلية في القاهرة – تحتفل بأى عيد كان ..
الحركة ..وتلك الأضواء التى تلمع فى الليل فى شارع 26 يوليو.. لا تعكس أي مظهر كان من مظاهر البهجة، وإعلانات الأفلام تتصدر واجهات بعض المحلات التجارية..وتطل عليك أينما أتجهت، وسط البلد ، ومن عناوينها سوف تفهم كل شئ، الموضوعات ذاتها، والقصص القديمة المهترئة والمكررة..خبط الحلل والترويج العلني للهراء العام..
أتجهت مع صديقى داخل الممر الضيق فى شارع 26 يوليو ،الذى يفضي إلى مدخل العمارة، ودلفنا إلى المصعد . وعندما ضغط صديقى على الدور الثامن، أهتز المصعد اهتزازاً شديداً ، وأحدث فرقعة مدويا ، ثم تحامل على نفسه، وجرنا معه إلى الدور الثامن فى تلك العمارة العالية التى يسكنها مخرج مصري عبقري- هؤلاء علموني، إسمه شادى عبدالسلام ..
يسحب شادي نفسا عميقا من سيجارته،ويراقب حلقات الدخان المتصاعدة . ويسرح بعيداً جداً ، ثم يلتفت إلي ويقول :
أنا يا سيدى من مواليد 1930 .. مهندس معمارى .. خريج كلية الفنون الجميلة سنه 1955 . كانت تجربتى الحقيقية مع السينما.. وليس مع الهندسة . ذهبت إلى لندن . ودرست الدراما فى ” الأولدويتش ” ..ثم عدت إلى مصر سنه 1956 . صممت ديكور وملابس فيلم ” خالد بن الوليد ” ، وصممت ديكور بعض الأفلام المصرية قبل أن اقوم بتنفيذ ديكورات الجزء البحرى من فيلم ” كيلوباترا “، الذى أخرجه المخرج الأمريكي جوزيف مانكويتش.قمت بتنفيذ ديكور السفينة وخيمة كليوباترا والأسطول فى روما ..
وفى روما ..التقيت المخرج البولندى كافاليروفيتش، الذى كان يستعد لاخراج فيلمه ” فرعون “، وكان شاهد فيلم كليوباترا، فتعاقد معى على العمل مستشاراً للملابس والديكور والاكسسوار التاريخى لفيلم ” فرعون ” .. وبعد الانتهاء العمل من الفيلم عدت إلى مصر ، وصممت ديكور وملابس فيلمى ” وإسلاماه ” و فيلم” صلاح الدين وكتبت سيناريو ” المومياء ” ، ولما جاء المخرج الإيطالي العظيم روسوليني إلى مصر، ليصور جزءاً من فيلمه عن تاريخ الحضارة ، طلب من معاونيه أن يبحثوا عن مهندس الديكور المصرى، الذى عمل فى فيلم ” فرعون ” البولندى، فلما التقيته طلب منى أن أعد له ديكور وملابس فيلم “الحضارة ” ، وكانت هذه هى ، نقطة التحول فى حياتى .
– لماذا ؟
لأن روسيليني مخرج ” روما مدينة مفتوحة “، هو واحد من أعظم المخرجين فى تاريخ السينما المعاصرة، و “سينما الواقعية الايطالية ” خصوصاً. كانت بالنسبة إلى مدرسة سينمائية عظيمة، و أبوابها مفتوحة لي على مصراعيها ..
فى الأفلام الأجنبية الثلاثة الكبيرة ” كليوباتراً ” و ” فرعون ” و ” الحضارة ” ، عشت ست سنوات كاملة فى الخارج ، ثم عدت بعدها الى مصر، لانفذ فيلم ” المومياء “، ولاخرج من بعده الأفلام القصيرة ” الفلاح الفصيح ” و ” آفاق ” و ” جيوش الشمس ” ، وأنا أشغل حالياً مدير المركز القومى للأفلام التسجيلية ..
ويتابع :
فيلم ا”لمومياء “صدم الكثيرين فى مصر، لاننى لم ” أفصّل ” الفيلم بمقاييس الفيلم المصرى التقليدى ، الذى أعتاد عليه جمهورنا .. وكل مشكلة فيه لها حل … ونهاية سعيدة . فيلم المومياء يطالب الجمهور بالتفكير والتأمل، لكنه يخاطب العقول المتحضرة ، يخاطب فيها تفتحها المتحضر ، ويطالبها إذا كانت متحضرة فعلاً أن تسعى لحماية الجديد فيه ، وأن تمنح الفنان، حق التجربة ، لكنهم عودوا الجمهور المصرى للأسف على الكسل،وسمحوا للجزارين وتجار الخردة والبطاطس وأصحاب التاكسيات ” أن يدخلوا إلى مجال الإنتاج السينمائى من أسوأ أبوابه، فكسبت السينما للتجارة الرخصية المبتذلة أرضا جديدة ، وما أصعب المعركة التى يمكن أن يخوضها الفنان المبدع الأصيل، فى ذلك الوسط الفاسد، هل نسوا أن للسينما المصرية تاريخاً مضئياً و “علامات” سينمائية، يحق للمرء أن يتوقف عندها ؟
– ما هى في رأيك سمة “الفنان الحقيقى” فى هذا العصر العجيب الذى نعيش فيه ؟
يجيب قائلا :
– سمة المبدع الحقيقي في رأيي أن يقاوم الاغراءات، حتى لا يجرفه تيار المادة والربح السهل، فيقع فى مصيدة الباحثين عن الذهب ، بأى ثمن كان ، حتى ..ولو كان على حساب ضمائرهم..
شادي عبد السلام وصلاح هاشم في مدينة آرل.فرنسا
سألته :
– وتجربة العمل كمخرج فى القطاع العام الحكومي كيف وجدتها ؟.
* المخرج عندما يعمل فترة طويلة فى القطاع العام ينفر من تحمل المسئولية … بل يتحول إلى شئ ، ويصبح اتكاليا، يعتمد على من هو قادر على الدفع ، ثم ما الذى يجبره فى هذه الحالة، إلى الخروج من قوقعة الكسل، التى تعود أن يتمتع بدفئها بعض المخرجين ، الذين كانوا يتركون الفيلم بلا نهاية، ويذهبون فى منتصف الفيلم، .. معتمدين على ان يقوم آخرون بوضع نهايته، وإنهاء العمل فيه.وقد حدث لى هذا في قلب المركز الذي أديره عدة مرات ، حتى مع المخرجين الشبان …
– وماذا عن السينما التجارية فى مصر ؟
* أنا دخيل على السينما التجارية فى مصر .. أنا لست جزءاً من هذه السينما ، وهى لا تعنينى، لا هم بحاجة إلى افلامى ، ولا أنا بحاجة إليهم ، ولا أستطيع أن أشذ عن القاعدة والمألوف ، فأقول لهم عاملونى كما تعاملون مخرجى السينما التجارية .. يجب أن نعرف أن السينما المصرية عمرها ستون سنة، ثم إذا بشادى عبدالسلام يظهر فجأة ، إذن على أن أبقى، وأوضح الموقف، وأرفض أن يكون فيلم ” المومياء” هو الشكل الوحيد المفتقد للسينما المصرية التى نبحث عنها، ولا يهمني حصول الفيلم على جوائز دولية، واختفاء الأوروبين به ، لأنه ما قيمة الجوائز ، إذا لم يكتسب الفيلم قيمته كفيلم عربى أولاً ، وكحلقة من حلقات البحث، عن شكل فنى خاص، يعبر عن روحنا .. وهويتنا ..
– و ماذا عن جمهور السينما المصرية ؟
* جمهور السينما المصرية مازالت تتحكم في ذوقه مقاييس الفيلم التقليدي الهابط، لكننا لن نفقد الأمل أبداً ، في قدرة هذا الجمهور على الفهم، الشعب المصري على فكرة شعب ذكي جدا، وإلا فلتكن مهمتنا الأساسية – إذا كان غباء الجمهور هو المتحكم، وهو القاعدة وإلى الأبد – أن نصنع له أفلاماً للرقص والطرب، وأن نغتنى على حساب غباءه..
الحقيقة أن نقطة الضعف فى تاريخ السينما المصرية ، هى انها لم تكن أبدا مصرية أو عربية ، السينما المصرية تبحث عن سينما ،تبحث عن هوية سينما لم تتشكل بعد ، ومهمتنا كسينمائيين ، أن نغوض فى فلسفة وتاريخ هذا البلد ، أن نلقى نظرة إلى الوراء ، ونحن نتقدم فى الوقت ذاته ، خطوة إلى الأمام..
سألته
– حسنا ، لكن من سيلتفت عندئذ لمشكلات الكهرباء والمجاري..ومشكلات الإنسان المصرى ، مشكلات كل يوم، وهموم الحاضر ، مشاكله وأزماته وتناقضاته متى تجد طريقها إلى عالم وسينما شادى عبدالسلام، الذى يتهمه بعضهم بأنهGRAND SAVANT عالم عظيم ؟..
* لن أدافع عن نفسى … ستتوالى أعمالى الدفاع عنى …. المشكلات اليومية … المجارى … وانقطاع التيار الكهربائى … وغيرها .. أترك للأخرين إنتاج افلام عنها، . لكن هل من الممكن إيجاد حل لهذه المشكلات، من دون أن نفهم حقيقة من نحن، وماذا تريد أن تصنع بحياتنا … وما هو تاريخنا … وأصل حضارتنا وأسرارها … وهويتنا، هذا هو ما يشغلنى فى الوقت الحاضر ، بل وكل وفت..
وختم شادي عبد السلام قائلا :
*أننى أود أن أعرف أولاً ، سر تلك العناصر العظيمة فى حياة الإنسان المصرى ، مثل الفيضان والنور والفجر، ألا تعنى هذه العناصر فى رأيك، أن الروح المصرية لا تفنى مهما طال بها الزمن ،حيث لابد أن يبعث الإنسان المصرى يوما ما، ومهما بدا على جسده من تحلل ؟..ذلك لأنه عين الشمس ، فى يوم قريب سوف تنطق: إن” أنهض فلن تفنى..يا من تمضى ستعود .. يا من تنام ستصحو ..يا من تموت ستبعث .. ” شادي عبد السلام .هؤلاء علموني .لن يفنى. وهاهو ذا يبعث، ويخاطبنا من جديد، لعلنا نصحو ، نحن أيضا، من جديد.
حقق شادي عبد السلام الكثيربعدما أنار مثل الشهب حياتنا. حقق فيلمه العظيم ” المومياء “،الذي حصد العديد من الجوائز في مهرجانات السينما العالمية، وأخرج أيضامجموعة من الأفلام القصيرة ليقول لنا، أننا لم نستوعب وندرك بعد، أننا ” إمتداد ” لتلك ” الحضارة الفرعونية المصرية في الحاضر..
وأن ثمة ” إستمرارية ” بين الماضي والحاضر والمستقبل في حياتنا، وما دمنا لم نستوعب هذا الدرس، فسنظل نحرث في الماء، ونفقد هويتنا، ونتحول الى ” مسخ ” مشوه، ونحن جميعا في خطر..
حقق شادي عبد السلام الفنان المصري الكبير الشامل عن إستحقاق وجدارة سينما مغايرة – للتأمل والحث على البحث والتنقيب في تاريخنا القديم، لنعيد إلينا تراثنا- وأكد على قيمة موضوع ” الخلود والبحث الجديد”، بإسلوب سينمائي عذب وملحمي، قفز بالسينما السينما المصرية، الى قلب تيار ” الحداثة في السينما المعاصرة، وأعاد إلينا ذاكرتنا المفقودة.
بقلم
صلاح هاشم .باريس
صلاح هاشم مصطفى كاتب ومخرج أفلام وثائقيةمصري مقيم في باريس.فرنسا ومؤسس موقع ” سينما إيزيس ” عام 2005 في باريس
***
عن جريدة ” القاهرة ” العدد 1231 الصادر بتاريخ 20 فبرلير 2024
**
سينما إيزيس تتوسع
زوار اليوم : 50 زائر
زيارات اليوم : 200 زيارة
زوار الأمس : 96 زائر
زيارات الأمس : 183 زيارة