شخصية مصر في السينما.فيلم ” رمسيس راح فين ؟ ” نموذجا
شخصية مصر في السينما
فيلم ” رمسيس راح فين ؟ ” لعمرو بيومي نموذجا
صلاح هاشم.باريس
من أبرزالأفلام المصرية الطويلة روائية ووثائقية، التي سوف نعرض لها هنا في عدة محاورتباعا،مثل فيلم ” المومياء ” للمخرج المصري الكبير شادي عبد السلام، وتواصلت مع الحضارة المصرية القديمة، وعكست في رأيي ” شخصية مصر في السينما “، وكشفت عن ملمحا أوسمة،من ذلك “الحضورالحضاري الإنساني العميق”، وبتعدد صوره وتجلياته، في البلد الذي إخترع ” الضمير”- كما يؤكد العالم والمؤرخ وعالم المصريات البريطاني العظيم برستيد، في كتابه ” فجر الضمير” – فيلم ” رمسيس راح فين ؟ ” – وثائقي طويل – للمخرج المصري عمرو بيومي..
في البداية سألني صديقي الأمير، منذ يومين، بمناسبة عيد الأضحى المبارك، في أول يوم في العيد : كيف تنظر “مولانا”- هكذا يحب أن يناديني- الى شغفك الكبير، مصر أم الدنيا، وشخصية مصر في السينما، وأنت تعيش في باريس؟ .
قلت له : الكتابة. الحرف. الخط . اللون. الضوء. والصورة هي كلها أدوات عندي، لنقل المعارف الجديدة،ضد الفناء والنسيان، وفلسفة حياة ووجود، و” رؤية” للتاريخ،والذاكرة المطوية المدفونة المعطوبة،بفعل فاعل طبعا، التي أهيل عليها التراب. وهي محاولة، خارج الكادر والمألوف، لاختراع النظرة REGARD LE ، كما في كل أفلام السينما العظيمة..
حين تتحقق الوظيفة الأساسية للسينما ،في ” لحظات الصمت” فقط ،بين لقطة ولقطة،بين مشهد ومشهد، تلك اللحظات التي تمنح كل الأفلام العظيمة روحها، وتجعلنا، في محاولتنا للتواصل مع المطلق، والسحب الراحلة، في عالم لايعرف الحب،نقترب أكثر وأكثر من ..إنسانيتنا.
عمرو بيومي
شاهدت الليلة 21 إبريل 2019 في مركز الثقافة السينمائية وسط البلد – هكذا كتبت في مفكرتي السينمائية – شاهدت فيلما وثائقيا بديعا – فيلم ” رمسيس راح فين ؟ ” للمخرج المصري عمرو بيومي – بكل المقاييس..
فيلم أعتبره – وأنا قادم من باريس، وقد عبرت قبل حضوري الي بلدي مصرعدة رحلات،داخل عدة مهرجانات للفيلم الوثائقي ،مثل مهرجان ” سينما الواقع ” في باريس،ومهرجان “الشاشات الوثائقية “في ضاحية كريتاي، ثم مهرجان الاسماعيلية ،وكنت شاهدت خلالها عشرات الأفلام الوثائقية من جميع أنحاء العالم – بمثابة ” كنز” سينمائي حقيقي، وبشريط صوت وموسيقى مذهل، وإضافة الى إنجازات السينما الوثائقية وتاريخها في مصر، وليس فيلما، بل درسا في السينما العظيمة ، وهدية من عمرو بيومي لكل المصريين ، تاريخهم وسينماهم، وتراثهم الروحاني العميق ،وعلاقتهم بكل السلطات،سلطة الأب، وسلطة الحاكم،وعلاقتهم أيضا بخوفهم من السلطة ،ورغبتهم في الخلاص، والانعتاق ( حطمت قيودي) وبروميثيوس طليقا.ولذا فهو إذن فيلم عن الحرية، والرغبة في التحرر، من كل خوف ، والمصالحة مع الذات..
حيث يقدم الفيلم الحميمي جدا، في مايشبه السيرة الذاتية، حكاية الطفل عمرو بيومي من مواليد 1960 من حي السكاكيني بالقرب من ميدان رمسيس، حكايته في نطاق الأسرة البرجوازية التي نشأ فيها ،مع هيمنة و سلطة الأب ،وتحكمه في مصائر افرادها..
ويروح عمرو عبر شريط الصوت في الفيلم ، يحكي عن علاقته بتمثال رمسيس ،الذي كان يمكن أن يراه من بعيد ،من شرفة شقة الأسرة في ذلك الحي المصري العريق، حي السكاكيني ،ويظهر عمروفي اول لقطة من الفيلم ،وهو يحمل كاميرا و يصور لقطات للحي، وعلاقة كل السلطات والحكام الذين حكموا بلدنا ،من عند سعد زغلول وثورة 1919، ومرورا بمحمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك..
ولكل سلطة من هذه السلطات حكايتها مع تمثال رمسيس،و علاقتها مع حضارة وادي النيل، واجدادنا ،وكيف وظفوها،واستغلوها لمصلحة النظام، وفي المقابل، كيف كانت علاقة الشعب المصري العظيم، مع التمثال ،الذي يمثل امتدادات لتراثنا الروحاني الحي في المكان، انها علاقتهم مع أجدادهم ،مخترعو الأبدية والضمير الانساني، وليس ابدا مع تمثال من الحجر..
ذاك التمثال، الذي مازال يتذكر عمرو، انه كان وهو طفل، يشاهد اعلانا عبارة عن فيلم تحريك ، يظهر فيه كل الناس في مصر، وهي تسأل أين ذهب رمسيس، ولم اختفى ياتري ؟ وتتعدد الاجابات في فيلم الكرتون، لتصل في النهاية الى انه قد ذهب لكي يبحث عن آيس كريم ، من منتجات ألبان خير مصر،، ها ها ها..
ومن خلال حكايته عن تمثال رمسيس، يوثق عمر في فيلمه البديع، وهو يمر بجميع مراحل انتقال- أو بالأحري إقصاء- التمثال من ممفيس القديمة في الجيزة ،ثم الى ميدان رمسيس ( ميدان نهضة مصر، سابقا بحضور تمثال المثال المصري العبقري مختار، في وسط الميدان آنذاك) والى مكانه أو منفاه الحالي..
يوثق عمرولعدة أشياء ، في مغامرة الحياة التي عاشها ، وكل الحروب مادية ونفسانية – عمرو خدم كجندي في الجيش- التي خاضها :
يوثق أولا لعلاقته بسلطة الأب، وخوفه من الأب، مع استسلام ورضوخ الأم، ومحاولته عمروالدفاع عنها، وعلاقة رمسيس كحاكم وقائد عسكري، بالسلطات التي حكمت البلاد، ولم يكن لرمسيس للأسف، أي محل من الاعراب مع كل سلطة..
ويوثق الفيلم أيضا للعلاقة ، التي تربط بين مصائر البشر، وأقدار تمثال من الحجر ،لكن رمسيس ليس اي حجر، أنه رمز لحضارة مصر القديمة ، في شخص فرعون الرب والحاكم والاله ، وكل القيم الروحانية العظيمة، التي جسدتها حضارة مصر القديمة النبيلة أم الدنيا، التي اخترعت ” الضمير ” والحساب والعقاب، قبل كل الديانات السماوية – كما يؤكد نجيب محفوظ في محاوراته مع محمد سلماوي في كتاب ” وطني مصر – محاورات مع محمد سلماوي ” – وتراثها الانساني الرفيع..
فالمصري يعتبر، على عكس كل السلطات، يعتبر أن قدماء المصريين هم أجداده.. وأنهم ماتوا فقط بأجسادهم، لكن أرواحهم التي تسكن كل مولود مصري جديد، تولد معه من جديد، وتبعث حية..
كما يوثق لعلاقة الشعب المصري بسلطة الأب – الحاكم، ونري مثلا في الفيلم ، الملايين التي خرجت في الشوارع، لوداع الزعيم الأب جمال عبد الناصر،عندما مات، ويتوهج الفيلم بكل حكاياته الانسانية الحميمية الآسرة، التي يجدلها عمرو بيومي ببراعة فنان صوفي، وبدفء انساني عميق، ونفس شاعر، أو كاهن مصري قديم من عصر الأسرات، ويجعلنا هكذا نشارك المصريين وداعهم لجدهم الأكبر وحبيبهم رمسيس في رحلته الى منفاه الجديد، بمصاحبة أهازيج ومواويل رائعة، وقصائد غنائية من التراث الشعبي المصري العريق، وهو ينسج من فيلمه الشخصي، قصيدة حب تطهرية، بعد أن يقهر في الفيلم خوفه ، ويتحرر أخيرا من سلطة الأب، وينطلق حرا..
كلا ..كلا يصرخ عمرو، حين يشاهد مظاهرات ” انتفاضة الخبز” في فترة السبعينيات في مصر- على عكس الأب – ويردد إن كلا كلا.. انها ليست ” فوضى “، أنها ” ثورة “، وهو يمنح الأشياء والأحداث هنا أسمائها الحقيقية..
ويجعلنا عمرو في صحبته وحكاياته وفيلمه، نتتطهر معه، من كل عذاباتنا وذنوبنا، ونحن نخرج لنودع رمسيس الى مثواه الأخير،التي تحيل الى لقطة خروج المصريين من سكان الجبل في وادي الملوك، في فيلم ” شادي عبد السلام ” المومياء “، لوداع المومياوات – الوديعة والخبيئة – وطلوع النهار، قبل نقلهم بحرا، وإيداعهم في المتحف المصري بمعرفة الأفندية..
فيلم ” رمسيس راح فين ” لعمرو بيومي، الذي حصد جائزة أحسن فيلم في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة في مهرجان الاسماعيلية الدورة 21، هو فيلم يعكس ” شخصية مصرفي السينما “، حين يوثق لذاكرتنا وتاريخنا، بمشاهد وثائقية رائعة، ونادرة، وبعضها بعدسة الفنان المرحوم الصديق مجدي يوسف.. فيفتح لنا ايضا بوابة الى الأبدية..ويجعلنا نتصالح مع أنفسنا والعالم، وهو يتسامق بانسانيتنا وروحانيتنا، وروحانية.. مصرالعميقة..
بقلم
صلاح هاشم. باريس
صلاح هاشم أديب وناقد ومخرج مصري مقيم في باريس.فرنسا.مؤسس موقع سينما إيزيس عام 2005 في باريس.
عزت عزام
يونيو 25, 2024 @ 12:08 ص
مقال صلاح هاشم من باريس عن فيلم رمسيس من أعظم ماكتب عن الفيلم وعن مخرجه مهضوم الحق .. وبالطبع المخرج وفيلمه يستحقان كل تقدير واطراء ..
والمقال يستحق التصفيق والاحترام
عزت عزام