صلاح هاشم .”هؤلاء علموني”. ” أنطونيوني ” ومغامرة الحداثة : أفلام أم “روايات” للإمساك بالعدم ؟
تري اين يكمن سحر افلام انطونيوني الخفي، وماهي الاضافات التي حققها هذا المخرج الايطالي العبقري ،لفن السينما بأفلامه، بعد ان رحل عن عالمنا عن 94 عاما؟.أافلام انطونيوني (من مواليد 29 سبتمبر 1912. وتوفي 30 يوليو 2007) كانت جزءا من “مناخ” فترة الستينيات في مصر، وقد ارتبطت أفلام انطونيوني في ذهني ،وتاريخي الشخصي، بمناخات تلك الفترة.فقد كانت هناك “طفرة” أو” فورة” ثقافية وإبداعية هائلة، علي كافة مستويات الإبداع الادبي، في الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح في مصر،وقبل ان يعقد أول مؤتمر للادباء الشبان في البلاد عام 1969 .إذ كنت تستطيع ان تشتري بقروش قليلة، العديد من المجلات الثقافية الشهرية المهمة، مثل مجلة(الكاتب) التي كان يترأس تحريرها الاستاذ احمد عباس صالح، و(الفكر المعاصر) لزكي نجيب محمود، و(المجلة) ليحيي حقي، و(السينما) لسعد الدين وهبة و(المسرح) لرشاد رشدي، الي جانب جريدة (المساء) اليومية، التي كانت تصدر عن دار التحرير..
فيلم ” الخسوف ” لأنطونيوني
وكان يشرف علي تحرير صفحاتها الثقافية آنذاك الأستاذ المرحوم عبد الفتاح الجمل، وكان يكتب الرواية (محب)، ويعشق السينما (سيدتنا الجميلة)، واليه يعود الفضل، في انه فتح لي، ولجيل الستينيات الذي انتمي اليه في مصر، باب الكتابة والإبداع والنشر،وحتي ذلك الوقت، لم تكن هناك أية أهمية تذكر، لصندوق الصور العجيب، أي التلفزيون، الذي كنا نري آنذاك مع الأديبة الفرنسية فرانسواز ساجان صاحبة رواية (صباح الخير أيها الحزن) “انه صنع للعجائز ،والنساء ، وللمتقاعدين ؟!..
أنطونيوني : أفلام أم “روايات”، للامساك بالعدم؟
وكان “نادي القاهرة للسينما: يعرض آنذاك في فترة الستينيات، اهم الافلام التي خرجت للعالم في تلك الفترة: مثل تحفة “التوت البري” للسويدي انجمار برجمان، و”المومياء” لشادي عبد السلام، و”المغامرة” لانطونيوني من انتاج 1960، و”اربعمائة ضربة” لتروفو و”علي آخر نفس” لجان لوك جودار، و”الحياة الحلوة” لفديريكو فيلليني، و”انجيل متي” لبازوليني وغيرها. وكنا ونحن نلتهم الكتب ،والروايات والقصص القصيرة والمسرحيات، ونتناقش علي مقاهي “ريش” و” ايزائيفتش”، في مباديء الفلسفة الوجودية والماركسية والفوضوية، ونشرب الشاي ونحن نتقاسم شطائر الفول والطعمية، ونتفرج في ذات الوقت من خلال ” مسرح المائة كرسي” و”المركز الثقافي التشيكي” ،الذي كان يديره الفنان التشكيلي احمد فؤاد سليم ،علي افلام الموجة التشيكية الجديدة، لماركيتا لازاروفا وميلوش فورمان، ونري فيها محاولات فنية سينمائية فذة، كما في فيلم “عن الحفل والضيوف” تبهرنا.وكنا نأخذ من تلك الافلام التي وضعت بصمتها علي، وتأثر بها جيل كامل، طرق واساليب جديدة ،في الكتابة الإبداعية، وننهل منها..
قد كانت هذه الأفلام “الفنية” – التي كانت تعرض في نادي القاهرة للسينما، بالاضافة الي تلك الافلام التجارية التي كانت تعرض آنذاك في السوق، مثل فيلم “روميو وجولييت” المأخوذ عن مسرحية ويليام شكسبير،ومن اخراج الايطالي زيفاريللي-كانت جزءا من ذلك المناخ الثقافي الروحاني المصري، المتوهج آنذاك في الخارج، وفي الجامعة ايضا، وبخاصة بعد أن قمت بتأسيس – مع الشاعر نبيل قاسم – أول ناد للسينما في كلية الآداب جامعة القاهرة، وكنا نعرض فيه علي طلبة الكلية من جميع الأقسام، أفلام “الموجة الجديدة” في فرنسا، مثل”جول وجيم” لفرانسوا تروفو..
وأفلام “الواقعية الايطالية الجديدة” مثل “روما مدينة مفتوحة” لروسوليني. ثم الافلام التي خرجت في مابعد، من معطف تلك الواقعية، لكي تؤسس لما أطلق عليه بـ”حداثة ” السينما الملهمة،كما في افلام انطونيوني، وبخاصة في رائعته “المغامرة “- L AVENTURA– التي جددت، في المنحي السينمائي، وطورت من أساليب” الواقعية الايطالية الجديدة”، كما جددت قصيدة “الارض الخراب” – THE WASTE LAND – للشاعر الانجليزي ت. اس. اليوت ، في الشعر الانجليزي الحديث..
تلك الافلام لانطونيوني، التي تقرب الاعمال السينمائية اكثر، من اعمال الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر “الوجود والعدم”، كما في رائعته “سجناء الطونا”، كما تقربها كثير ايضا ، من اعمال الرواية الجديدة في فرنسا،عند الآن روب جرييه، وصاموئيل بيكيت وناتالي ساروت وغيرهم. .
وفي تلك أجواء، تعرفت علي، وشاهدت أعمال انطونيوني السينمائية المبدعة الملهمة، وبخاصة رباعيته السينمائية العظيمة ” في أفلام “المغامرة” 1960، و”الليل” 1961 و”الخسوف” 1962، ثم “الصحراء الحمراء” 1964 ثم من بعدها فيلم “تكبير” 1967، وفيلم “المهنة محقق ” 1974 ، بطولة جاك نيكلسون، الذي شاهدته خارج مصر، فقد كانت هذه الاعمال ،بمثابة “روايات” لايخطها انطونيوني ويدبجها بقلمه، بل يصنعها بسحر وتوهج الضوء والاكسسوارات، والديكورات، والحيطان والجدران ،والمنظر الطبيعي والالوان ، من (اللاشييء) أي افلام من الفراغ، لمحاولتها الجسورة وفي صمت، وبأقل قدر من الكلام، الإمساك بالعدم..
وتصوير وتكثيف وتجسيد، ضياع النفوس المحطمة، وقلقها وعذاباتها، في اطار عالم مادي صناعي أناني عدمي، فقد في إطار “المعجزة الصناعية الايطالية”، روحانيته العميقة، وانقطعت جذوره، بكل ماهو مرتبط بالريف ،والقيم الانسانية النبيلة الأصيلة، والارتباط بالارض، وتعاطف والفة الناس، ومحبتهم، ونفذ الي عالم بنايات المدن الاسمنتية المسلحة التي تقتل الروح..
ومن هنا كان اهتمام نقاد كبار وفلاسفة، من امثال الفيلسوف الفرنسي جيل ديلوز والناقد الفرنسي رولان بارت ، بأعمال انطونيوني الذي قال عنه المخرج الياباني العظيم اكيرا كيروساوا، انه امسك بـ”العواطف” وصورها، كما لم يفعل أي مخرج آخر في السينما”..
تلك المدن الكئيبة الكالحة ،الصامتة الصحراء، التي يصورها انطونيوني في افلامه: فوقها دخان اصفر، مثل السموم، تبخه مصانعها ،كما في فيلم “الصحراء الحمراء” بلون الدم، وتحتها مجاري وبالوعات، واحد لايتمني فيها،كما يقول برتولت بريخت، ان يصبح سحابة..
لاتحكي افلام أنطونيوني ،عن شخصيات بالمعني المتعارف عليه للشخصية، بل تحكي عن اجواء، وعن كائنات ، او “حطام شخصيات” او اطياف واشباح ،تبحث عن معني لحياتها وقيمة لوجودها، وهي تحاول ان تكسر ذلك القفص الذهبي، الذي تعيش داخله مثل كل الناس، بمسلماته وقناعاته، وهي تتساءل ان كانت حياتنا، في عالم فقد فيه البشر قدرتهم علي التواصل جديرة حقا بأن تعاش..
في افلامه التسجيلية القصيرة ، وقبل أن يدلف الى ساحة الفيلم الروائي الطويل،سبق انطونيوني افلام الواقعية الايطالية الجديدة ،في تصوير الواقع الحقيقي الذي تعيشه الطبقات الايطالية الفقيرة المسحوقة، وفي حين اهتمت الواقعية الايطالية الجديدة “نيو ريالزم” بعلاقة الفرد بحركة التاريخ والمجتمع..
طالب انطونيوني بواقعية “باطنية”، و”جوانية” جديدة تركز اكثر علي الفرد، في علاقته بعواطفه ومشاعره، و”التحديق” الباطني، كما في قصائد الزن – ZEN– اليابانية العظيمة، وقصائد المتصوفة العرب، وعلاقة الفرد بكل العناصر، في الكون والافلاك والموجودات..
أفلام انطونيوني، هي اقرب ماتكون الي تساؤلات فلسفية ووجودية معلقة ، و”الغاز” عسيرة علي الحل، واقرب ماتكون الي الاحلام، حيث تظهر الشخصيات فيها وتختفي ،بلا سبب ،ومن دون إحم ولا دستور. تأتي ثم تذهب وتتلاشي. تطلع هكذا علينا من اللامكان، لكي ترحل ،في متاهات المدن العملاقة الجبارة، لتبحث عن شييء أصيل ومفقود، ثم تعود من رحلة بحثها الطويل، الذي يستغرق وقت الفيلم كله احيانا،تعود بلاشييء، ولكي تشرع من جديد، في إستكشاف المكان الذي انطلقت منه.
الحداثة : خداع الصور، وأفلام بلا نهاية ؟
في فيلم “تكبير” – BLOW UP – يلتقط احد المصورين صورة في حديقة من الواقع، وحين يقوم بتكبيرها في معمله ،يكتشف داخل الصورة صورة جديدة مرعبة. يكتشف جريمة قتل، وجثة قتيل ،وتحضر السيدة التي كانت في الحديقة مع القتيل وتعرض عليه نفسها ،في سبيل اقتناء الفيلم فيمنحها احد الافلام، ويعود الي الحديقة، فيكتشف ان الجثة اختفت، ويتوجه الي معمله، فاذا به يكتشف ان الفيلم الاصلي قد سرق، وينتهي الفيلم بمشهد رائع، فحين يعود الي الحديقة يجد مجموعة من الممثلين المهرجين ،يلعبون بكرة تنس خفية، وغير موجودة وظاهرة، وبعد تردد، يروح ينخرط ويشاركهم في اللعب.. !..
وربما كان فيلم “تكبير” احد اهم الافلام، التي ناقشت علاقتنا بالواقع والحقيقة والوهم،وكذلك صورة الواقع في السينما، ولحد الآن..
كما ان اهمية ذلك الطرح السينمائي لانطونيوني، تتعاظم لاشك ،مع دخول الصورة في حياتنا ،بشكل اكبر واوسع وأسرع – كما يلمح بول فيريليو الفيلسوف الفرنسي العظيم- من خلال شاشات التلفزيون، التي تقصفنا يوميا، بما لاحصر له، من صور الحرب والجريمة والقتل والدمار، ولانعلم ان كان يجب علينا ان نصدقها ،او انه يتم “التلاعب” بنا علي يد اصحابها، لنكتشف في نهاية الامر، اننا كنا ضحايا لمثل تلك صور، ضحايا اغبياء للخديعة، والخيانة ،مثل عرائس – ماريونيت – من قش..
أفلام انطونيوني هي “مولدات الغاز”، ومكبرات أجواء، وظواهر، وعواطف ومشاعر واحاسيس، وهي في كل مرة، تدعونا عند نهاية الفيلم، الي مشاهدة الفيلم من جديد، والتفتيش عن سره ،والاستمتاع به في كل لحظة، فلكل حركة،وكل ايماءة واشارة في الفيلم، دلالاتها ومعانيها. ويعترف انطونيوني في حوار معه:
“…ان الفيلم الذي ظللت احلم به طوال حياتي، هو فيلم ببداية، لكن ربما من دون نهاية، فلقد كنت اسأل نفسي: تري هل من الضروري ،ان تكون هناك دائما نهاية للحكايات التي نحكيها ،سواء كانت ادبية او مسرحية او سينمائية؟. ان الحكاية المغلقة علي ذاتها،تواجه يقينا خطر الموت، اذا لم نسارع نحن الي منحها بعدا آخر، واذا لم نسمح ايضا لزمنها الخاص، بان يتسع ،ويمتد الي الخارج. اجل هناك في الخارج، وحيث نتواجد نحن ابطال كل هذه القصص، وحيث لاتوجد نهاية ابدا، لاي شييء.”.
بقلم
صلاح هاشم . باريس
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد ومخرج سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا.مؤسس ورئيس تحرير موقع ” سينما إيزيس “
***
عن جريدة ” القاهرة ” العدد 1222 الصادر بتاريخ 19 ديسمبر 2023