صلاح هاشم يكتب ” شاشة باريس 2024 ” لجريدة ” القاهرة” في مصر : فيلم ” أنا القبطان ” لماتيو جارون.”أوديسة” تصور جحيم الهجرة الى أوروبا الفردوس المفقود
من أجمل الأفلام التي خرجت مع مطلع العام الجديد 2024 للعرض في باريس، فيلم ” أنا القبطان ” للمخرج الإيطالي الكبير ماتيو جارون – من مواليد روما في 16 أكتوبر 1968- الذي سبق أن أتحفنا بمجموعة من الأفلام الروائية الطويلة الرائعة،التي حصلت على العديد من الجوائز، في مهرجانات سينمائية عالمية، مثل فيلمه ” جومورا” الذي يحكي فيه عصابات المافيا الإيطالية، وحصل على جائزة الإخراج في مهرجان ” كان ” السينمائي عام 2008..
ماتيو جارون مخرج فيلم ” أنا القبطان “
وربما كان ماتيو جارون أحد أشهر المخرجين الآن في إيطاليا بعد ناني موريتي، لقدرته الفائقة التي تكشف عن نفسها في فيلمه الجديد، في تحويل الحكايات التي يرد ذكرها في ” أخبار الحوادت” الى “أساطير”، بقوة الضوء، وسحر السينما الخفي، الذي لم يكشف أحد بعد عن كنهه،كما في هذا الفيلم، الذي يمكن أن يصحح “النظرة الرجعية” المتخلفة ،التي تتبناها حكومة جورجيا ميلوني اليمينية في إيطاليا.، بل و ” فكرة ” الإيطاليين أنفسهم أيضا ، بخصوص ” مأساة ” و واقع الهجرة الحقيقي..
حلم مراهق أفريقي أسود و رجال بيض أوروبيين
فيلم ” أنا القبطان “يصور الوقائع “المأسوية” المذهلة، التي يتعرض لها المهاجرون الافارقة، من فئة الشباب خصوصا، من خلال رحلة بطل الفيلم” سيدو ” وهو شاب افريقي مراهق أسود من مدينة داكار في السنغال، لايتجاوز عمره 16 سنة، ويحلم بأن يصبح مطربا عالميا مشهورا،من خلال أغنيات من نوع ” الراب “، يؤلفها ويغنيها بنفسه أو المجموعة، ويجعل الرجال البيض الأوروبيين من فرط شهرته، يتهافتون على الحصول على توقيعه، وعليه إذن أن يرحل خفية الى أوروبا، الفردوس المفقود، في صحبة صديقه وإبن عمه ويدعى ” موسى ” – يقوم بدوره ممثل سنغالي شاب يدعى مصطفى فال – ومن دون أن يخبر أمه التي تعول أسرة كبيرة العدد..
ويكشف الفيلم عما مايتعرضان له هما الإثنان في رحلتهما، من ضياع وموت في الصحراء، وتعذيب وقتل في السجون، وأقسى أشكال ” العبودية ” والتمييز العنصري، وربما كان أهم مايميز فيلم” أنا القبطان “عن الافلام الروائية والوثائقية، الطويلة والقصيرة، التي صنعت ولحد الآن عن الهجرة،هو أنه لم يكتف بتصوير جزءا صغيرا فقط من الرحلة الكبيرة ، أي رحلة العبور بالقوارب فقط ،من الساحل الافريقي الى إيطاليا، ومايتعرض له المهاجرون البؤساء في رحلتهما الصغيرة هذه ،عبر المتوسط – مقبرة المهاجرين – من غرق وعذابات، وتكدس وتناحر، وازدحام في القوارب وتقاتل تفوق الوصف، وغالبا ما اكتفت أعمال السينما الوثائقية والروائية ،التي تعالج موضوع الهجرة، بالتركيز فقط على تصوير هذا الجزء الصغيرمن الرحلة، أو آخر محطة – إن شئت – في رحلة الأهوال..
” أنا القبطان ” وموسيقى أفريقية حديثة في الخلفية
بل صور فيلم ” أنا القبطان ” رحلة “سيدو ” المراهق السنغالي الأسود الفقير اليتيم ” الذي تعوله أمه مع 5 فتيات صغيرات،من عند ” داكار ” موطنه الأصلي في السنغال – اي صور “الرحلة الكبيرة “- INTEGRAL– المكتملة، وبكل تفاصيلها المرعبة – بدءا من تصويره أولا مع أسرته، وهو ينام مع أخواته على الأرض، ويكذب على أمه، ويقوم بإخفاء أجرته كعامل بناء، ويدفنها في الرمل، ثم يعزف على الطبول في إحتفال افريقي ليلي ،في ماهو أشبه مايكون بالعيد، مما يجعل ” أنا القبطان ” أقرب الى أعمال السينما الوثائقية، ونوع “أفلام الطريق ” – ROAD MOVIES– الروائية، مرورا بثلاث محطات – أو مخاطر – أساسية في مغامرة الرحلة..
مرورا أولابعدة دول افريقية ، متنقلا مع صديقه عبر الحافلات، ثم عبور الصحراء الكبرى، ثم محطة الهبوط في سجون ليبيا، ثم المحطة الأخيرة، أي عبور البحر المتوسط بزورق، يقوده هذا الشاب المراهق الافريقي الأسود، الذي لم يتعلم السباحة، و لم يسبق له أن قاد زورقا في حياته، وهو يحمل أكثر من 250 مهاجرا من الرجال و النساءالحوامل والشباب والأطفال الى الفردوس الأوروبي، وياللهول،مما يعزز أيضا في رأينا من حدة عنصر” التوتر “و ” التشويق “في الفيلم – SUSPENSE– دعنا نرى ماذا نرى – ويجعلنا نحبس أنفاسنا ، وكأننا نتفرج على فيلم بوليسي،أو فيلم من أفلام الرعب ،من إخراج ألفريد هيتشكوك..
كما يتميز الفيلم بـ “بطولة جماعية”، حيث يعرض لعدة ” أبطال ” أوشخصيات في الفيلم، مثل شخصية الأم، وشخصية ” موسى ” إبن العم رفيق الرحلة،وشخصيات تجار الموت والجريمة المنظمة، الذين يعاملون الافارقة بلا شفقة أو رحمة مثل الكلاب والعبيد، وبأن مخرجه اعتمد في فيلمه الروائي هذا ، من أعمال الخيال ، على قصة حقيقية،وقعت بالفعل، وبطلها مهاجرمن غينيا يدعى – AMARA FOFANA – لكن مخرجنا الايطالي، أضاف الى القصة بعضا من محسناته البديعية السينمائية من بنات الخيال، فصور مايعتمل في ذهن البطل، عندما يفشل في إنقاذ سيدة تسقط من الإعياء في قلب الصحراء الموحشةـ، والممتدة الى مالانهاية، وتموت..
كما صور حلم “سيدو “، الذي يسافر في الحلم، في صحبة ملكة افريقية ليطلب من أمه أن تغفر له أنه رحل ،من دون أن يخبرها، وتصفح عنه، وهاتان اللقطتان من أجمل المشاهد المؤثرة في فيلم ” أنا القبطان ” البديع، ، وتحوله من مجرد ” سردية ،تحكي تفاصيل ” حادثة ” أو ” واقعة “ما في أخبار الحوادث، الى” أسطورة”تجعلنا نتعاطف مع أبطال الفيلم، وندخل في لحمه، وتكثف بعاطفيتها ،من قوة وصلابة، “واقعيته” الصلدة..
ماتيو جارون يعرض لموضوع الهجرة من وجهة نظر أفريقية
كما يحسب للفيلم – بشريط صوت موسيقى أفريقي متميز – أن مخرجه ماتيو جارون، إعتمد على أناس عاديين، للتمثيل في الفيلم، والاضطلاع ببطولته، واختار بطل الفيلم ورفيقه في الرحلة من الشارع في مدينة داكار عاصمة السنغال، ولم يكن أي من المشاركين في الفيلم ، أو أبطاله، قد وقفوا أمام الكاميرا ومثلوا في حياتهم من قبل، مما عزّز من “مصداقية “الفيلم، وواقعيته، وشرعيته أيضا.
وجعله يمثل في رأينا ” إضافة “- CONTRIBUTION-غنية الى مدرسة “سينما الواقعية الإيطالية الجديدة “- نيو رياليزم – التي أرسى دعائمها المخرجين الايطاليين العظام ، من أمثال روسوليني – في فيلم روما مدينة مفتوحة – وفيتوريو دوسيكا – سارق الدراجات – وبازوليني – ماما روما – وغيرهم في فترة مابعد الحرب العالمية الثانية في إيطاليا، وللأسباب التي ذكرناها آنفا إستحق الفيلم فوزه بجائزة الأسد الذهبي في مهرحان فينيسا الماضي 2023 ،كما منح بطل الفيلم جائزة مارشيلو ماستروياني للممثل الشاب السنغالي ” سيدو سار” -لبراعته في أداء أول أدواره في السينما، والجدير بالذكر أن الفيلم ومنذ أن خرج للعرض التجاري في ديسمبر 2023 في إيطاليا، حقق نجاحا كبيرا، وشاهده أكثر من 800 ألف متفرج، من ضمنهم مندوبي دول برلمان الإتحاد الأوروبي الذين صفقوا له طويلا..
تحية الى ماتيو جارون على فيلمه البديع، الذي نجح في أن يقدم فيلما واقعيا وفريدا من نوعه، ليحكي فيه عن مشكلة الهجرة، من وجهة نظر الأفارقة ، وليس من وجهة النظر الأوربيةالقاصرة، وليكشف فيه ،عن أهوال تلك الرحلة ” الكابوسية ” المرعبة التي تقشعر لها الابدان،وقد كانت تلك” الحقائق” الخاصة بتلك الرحلة ، وبتفاصيلها المرعبة، غائبة للأسف، على ما أظن،في كل الأفلام التي تناولت موضوع ” الهجرة الإفريقية ” ولحد الآن.وقد تنسى كل شييء في فيلم ” أنا القبطان ” – MOI CAPITAINE– الذي يستحق المشاهدة عن جدارة، لكنك ربما لن تنسى ابدا مثلي، طالما حييت، اللقطة التي يصيح فيها ” الشاب الأسود “سيدو”في نهاية الفيلم ، وطائرة عامودية من طائرات الإنقاذ تحلق فوق الزورق، يصيح ..وهو غير مصدق إن : ” ..نحن هنا، وأنا القبطان، نعم أنا القبطان”ثم ينفطر الدمع من عينيه.من فضلك لاتدع مشاهدة هذا الفيلم ” الضروري ” – التحفة – تفتك بأي ثمن ..
بقلم
صلاح هاشم . باريس
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد مصري مقيم في باريس.فرنسا. رئيس تحرير ومؤسس موقع ” سينما إيزيس ” عام 2005 في باريس.فرنسا.
***
عن جريدة ” القاهرة ” العدد 1226 الصادر بتاريخ الثلاثاء 16 يناير 2024