صلاح هاشم يكتب عن جان لوك جودار إسطورة السينما المعاصرة ويقدم قراءة لفيلمين من أفلامه ” موسيقانا ” و ” كتاب الصور ” في موقع سينما إيزيس
***
قراءة لـفيلم “موسيقانا ” لجان لوك جودار
بقلم
صلاح هاشم
عن كتاب ” السينما الوثائقية.تجارب ودروس ” لصلاح هاشم .الصادر عن المركز القومي للسينما.مهرجان الإسماعيلية السينمائي الدورة 19 لعام .2017
من أهم وأبرز الأفلام التي خرجت للعرض حديث في فرنسا فيلم “موسيقانا” للمخرج والمفكر السينمائي الكبير جان لوك جودار( من مواليد 1930)، وكان الفيلم ،عرض خارج المسابقة الرسمية في مهرجان “كان” السينمائي الدولي 57 ، بمناسبة” تكريم” مخرجه، الذي أخذ شكل عرض مشهد بارز من أحد أفلامه، وذلك قبل عرض الفيلم المشارك في مسابقة المهرجان عام 2004
يحكي جودار في ” موسيقانا” عن مأساة فلسطين من خلال حكايته عن مدينة سراييفو ومأساة الحرب، اذ يعود في فيلمه الي المدينة التي كان زارها قبل و اثناء الحرب، يعود اليهامن جديد، لكي يتفقد أعمال البناء والعمران، ونهوض المدينة من كبوتها، وهي تتطهر من أدران الدمار والخراب الذي لحق بها ،بعد انتهاء الحرب الاهلية الدموية ، و قد قامت كي تعيد تشييد ذلك الجسر فوق نهر موستارالذي كان يربط بين ضفتين وعالمين متنازعين، وكان الجسر كما هو معروف، رمزا قبل نشوب الحرب، لقيم التسامح والتآلف، والسلام والمحبة مابين البشرعلي اختلاف عقائدهم ودياناتهم من أهل المدينة، ويكشف لنا جودار في فيلمه عن تضافر الجهود في عملية ترميم جسر موستارMOSTAR، بمشاركة عالمية، تطلبت خبرات و مجهودات فائقة في جمع أحجار الجسر، وانتشالها من قاع النهر ، ثم ترتيبها وترقيمها قبل ترميمها، واستخدامها ذات الاحجار مرة اخري في تشييده من جديد في سراييفو الحزينة..
غير ان ترميم الجسر كما يشرح لنا جودار في فيلمه، اذا كان ينفع مع الحجر، لاينفع مع البشر، فلا يمكن ترميم ضحايا الحروب، الذين رحلوا عن عالمنا، وأعادتهم الي الحياة من جديد، بعدما صارت الحروب آفة عالمنا في كل مكان، في سراييفو والعراق وفلسطين، ولذلك يكرس جودار فيلمه لكي يكون درسا سينمائيا بليغا، في تحليل وتشريح عالمنا المعاصر، بأزماته ومشكلاته وتناقضاته وحروبه، ويقسم فيلمه الي ثلاثة اجزاء أو ممالك، يطلق عليها تباعا” الجحيم” ثم ” المطهر” ثم ” الفردوس”، علي نسق قصيدة ” الكوميديا الالهية ” للشاعر الايطالي العظيم دانتي اليجيري.
يقصفنا جودار في ” الجحيم” –الجزء الاول-ويستغرق عرضه بين7و8 دقائق، يقصفنا بصور الحروب المرعبة، ومن دون ان تخضع هذه الصور لاي ترتيب زمني او تاريخي، فنشاهد طائرات ودبابات وسفن تقصف وتدمر، ونروح نتأمل في المنظر الطبيعي الذي تحول الي أرض خراب بفعل الدمار ومشاهد تنفيذ احكام الاعدام في البشر ، وخروج السكان والحشود البشرية وهروبها من النيران، ويمزج جودار في هذا الجزء بين الصور بالابيض والاسود والصور الملونة الوثائقية المأخوذة من أرشيف الحروب وكوارثها، وتصاحب الصور 4 جمل مكتوبة علي الشاشة، واربع قطع موسيقية علي البيانو في الخلفية، وتظهر لنا في ذلك الجزء صورة هذا ” الوحش” الرهيب الذي يسكن داخلنا..
في حين يحكي جودار في ” المطهر” –الجزء الثاني- ويستغرق عرضه حوالي الساعة، يحكي عن مدينة سراييفو في الوقت الحاضر، بمناسبة دعوته للمشاركة في لقاء من لقاءات الكتاب الاوروبي كان عقد في المدينة، وكان موضوع اللقاء يدور حول ” ضرورة الشعر”، فينتهز جودار فرصة اللقاء ويدعو الشاعر الفلسطيني محمود درويش، للظهور والتمثيل في الفيلم، لكي يناقش من خلال حوار صحفية اسرائيلية معه ، حضرت لتغطية اللقاء، يناقش معها في اطار الحديث عن ” ضرورة الشعر” ضرورة وجود الانا و” الآخر” ، ضرورة وجود الصورة ونقيضها، ضرورة وجود اسرائيل وضرورة وجود فلسطين ايضا، وحقها المشروع في الوجود والحياة، ويلخص لنا جودار في الفيلم قضية فلسطين بضربة معلم في صورتين، اذ يرينا اليهود في صورة وهم يعبرون البحر الي الشاطيئ الفلسطيني، الا ان هذه الصورة وحدها هكذا في المطلق لاتقول شيئا، لابد من الصورة ونقيضها، ثم يرينا جودار صورة اخري للفلسطينيين وهم يخوضون في مياه ذات البحر، هربامن بطش اليهود ويغرقون فيه، ويقول جودار عن الصورتين في محاضرة له مع الطلاب الذين يدرسون السينما في ” اكاديمية الفنون” بالمدينة، معلقاعليهما، ان الباب الذي دخل منه اليهود الي فلسطين ،هو ذات الباب الذي شهد خروج ونزوح الفلسطينيين الكبيرعن بلادهم ووطنهم، و يضيف جودار معلقا: هكذا عبر اليهود البحر ودخلوا السينما الروائية، بينما عبرالفلسطينيون البحر ودلفوا الي السينما الوثائقية ” كاشفا بذلك عمن يكون الجلاد في القضية، ومن يكون الضحية، جامعا بين مشاعرالاحساس بالذنبCULPABILITE ومشاعر الغفرانPARDON، في لقطة واحدة من فيلمه، ..لقطة واحدة ينهي بها جودار الجدل القائم، معلنا عن موقفه من قضية الشعب الفلسطيني، وانحيازه الي حقوقه الشرعية في الوجود والحياة، ويقول جودار انه عثر علي صورة الفلسطينيين المذكورة في كتاب ” فلسطينيون ” PALESTINIENS للكاتب الفلسطيني الياس صنبر، الذي يحتوي علي مجموعة كبيرة من الصور التاريخية للحياة في فلسطين قبل ” النكبة” وبعد اخراجهم بالقوة من بلادهم ووطنهم..
ويظهرفي الفيلم الكاتب الروائي الاسباني الكبير خوان جويتسلو، لكي يردد مقاطع من كتابه ” حالة حصار” الذي كتبه اثناء تواجده في حصار سراييفو، ويحضر ايضا “هنود امريكا” في الجزء الثاني من الفيلم ، كمعادل موضوعي، لمأساة الفلسطينيين، وغربتهم في وطنهم تحت الاحتلال، وتهبط جملة علي الشاشة – حين يظهر الهنود الحمر في سراييفو، هكذا فجأة بملابسهم التقليدية- تقول ” سوف ندفن أيامنا في رماد الاساطير
وينهي جودار فيلمه في الجزء الثالث بعنوان ” الفردوس”، ويستغرق عرضه حوالي 10دقائق، ينهيه بفتاة تتجول داخل الفردوس أو ” جنة ” جوادر، وكما يتمثلها، علي شكل حديقة غناء بجوار شاطيء بحيرة من نوع البحيرات التي تظهر في الصور االتي تمجد الطبيعة، ” جنة” نروح نتمشي فيها علي مهل، مثل تلك الفتاة، بين الزهور، واشعة الشمس الذهبية تتخلل اوراق وفروع الشجر، ونحن نستشعر سعادة لاندرك كنهها، ثم اذا بنا فجأة، نعثر علي جندي مشاة أمريكي من قوات المارينز يجلس هناك، اللعنة!، ولاتسل يامؤمن ماذا يفعل هنا، فهو حتما كما يقول لنا جودار سوف يكون هناك لحراسة ” جنة ” جودارفي المستقبل وشوارعها، اجل امريكا ” شرطي” العالم سوف تكون ايضا هناك، في ” جنة” جودار، وربما ايضا في ” جنتنا” ، واذا كان لابد من شرطي لحراسة شوارعها، فسوف يكون بالقطع امريكيا، ويقول جودار ان البعض قالوا ، حين اظهر صورة ليهودي في معسكر اعتقال، وكتب تحتها” يهودي”، ثم اظهر صورة اخري لجثة بجوار اسلاك المعسكر ، وكتب تحتها ” مسلم ” في الفيلم، وكان جودار كشف عن الصورتين، ليوضح ان السينما لايمكن ان تقوم وتكتمل، الا من خلال عرض الصورتين معا والكشف عن التناقض بينهما، وذلك في نطاق شرحه لمعني ” المجال” اي حدود الصورة أو الصورة CHAMPوعكسها او الصورة المناقضة لهاCONTRE-CHAMP والمقصود به في السينما،..
قالوا ياله من شيء مقرف حقا، لأن تاريخ فلسطين ليس تاريخ “هولوكوست” اليهود وهلاكهم ، وتساءلوا، كيف يجرؤ جودار علي وصف ماوقع للفلسطينيين علي يد لليهود، بذلك الهلاك ( الهولوكوست) الذي وقع لليهود علي يد النازي، ولاسبيل في رأيهم للمقارنة. لكن جودار كما يضيف، رد علي هؤلاء بقوله :” لقد كتبت كلمة ” مسلم ” تحت جثة اليهودي، لأن حراس المعسكر النازي، كانوا يهينون اليهود، ويطلقون عليهم وينادونهم باسم ” يامسلم ” آنذاك ، ثم ماذا يريد اليهود، أو لم تكن هوليوود تدعي “مكة” السينما في العالم؟..
فيلم جودار الذي لايسرد علينا قصة ولايوجع دماغه في تلخيص احداثها، ينتمي الي النوع السينمائي الخالص المصفي، مثل قصيدة من قصائد الزن التي تنطق بالحكمة، ومن دون ” تصريحات” فجة او” هتافات” مزعجة، قصيدة فلسفية تأملية عميقة، تطرح عدة تساؤلات، ثم تمضي في سلام، مثل قارب، وتتركنا مأخوذين ومدهوشين بفنها وسحرها، وهي تدلف الي مياه بحر السينما الكبير، وتمتزج بدمنا..
تحية الي جودار وفيلمه الشجاع الفلسفي العميق المحفز للتفكير والجدل، الذي يضع قضية فلسطين تحت المجهر، أمام ضمير العالم، ويستحق المشاهدة- أكثر من مرة- عن جدارة.
–
قراءة لـفيلم ” كتاب الصور ” لجان لوك جودار
بقلم
صلاح هاشم
عن كتاب ( رواية ” كان ” ) لصلاح هاشم الصادر عن مركز الحضارة العربية .مصر عام 2020
من أجمل الأفلام التي عرضها مهرجان ” كان ” وشاركت في مسابقته الرسمية فيلم ” كتاب الصور ” للمخرج والمفكر الفرنسي الكبير جان لوك جودار (من مواليد 1930 )، ونرشحه للحصول على جائزة لهذا الفيلم ومجمل اعماله – وربما تمنح له ” سعفة الدورة 71 ” الذهبية كما حدث مع المخرج البريطاني الكبير كين لوش -لتكون بمثابة تكريم لـ ” أسطورة السينما المعاصرة الحية ” التي تتمثل في شخصه،وذلك عند الاعلان عن الجوائز في حفل ختام الدورة 71 ..
حيث يطرح جودار المخرج والمفكر السينمائي الفرنسي الكبير – ومرة أخرى يتأكد من خلال مشاركة فيلمه أن هذه الدورة 71 من المهرجان- وانظر تكريم جودار وتقدير فنه من خلال أفيش المهرجان الذي يعتمد على لقطة من فيلمه ” بييرو المجنون – أنها ستكون دورة جد ” واعدة ” و ” استثنائية ” كما سبق وأن نوهنا
يحكي في فيلم لايحكي قصة ،ولايعني بتطور حبكة، ومن دون ممثلين، بل هو اقرب ما يكون الى ” مانيفستو “- بيان – فني ، يحكي عن ” الحروب ” التي أصبحت ناشبة في كل مكان على ظهر كوكبنا، ويرثي لما وصلت اليه حضارة الاستهلاك الكبرى في الغرب من تلوث ودمار للبيئة وتعصب ديني وتقديس أعمي لما جادت به الكتب المقدسة من ” كلام “،
كما يحكي عن العرب وفلسفة حياة، في فيلم أقرب مايكون الى أفلام السينما الوثائقية، ليقدم من خلاله ” نظرة ” تأملية وسياسية وفلسفية عميقة وإطلالة على أزمات ومشاكل وتناقضات عصرنا،وينهي فيلمه أو بالأحرى شهادته، بدعوة الى التعلق بالأمل ،وجعله ” يوتوبيا ضرورية ” – أي حلمنا الضروري، في عالم أكثر عدالة وتسامحا – في مواجهة الحروب والجرائم الفاشية المرعبة التى ترتكبها السلطات في كل مكان ونهب حقوق الإنسان ..
يقدم لنا جودار من خلال كتاب الصور “رحلة” في تاريخ وذاكرة العالم والسينما، فيحكي في فيلمه وهو يقلب في صفحات كتابه، يحكي عن الفاشية، والجريمة المنظمة والانظمة القمعية، في عمل سينمائي باهر – وأقرب مايكون الى ” سوناتا ” أو قطعة موسيقية تذكرك بـ “رباعيات بيتهوفن الوترية “- وبكل المقاييس،
ولايتسامق هذا العمل جودار المعلم والمفكر السينمائي الكبير خلف “واجهة” الفيلم، إلا بما يكمن خلف تلك ” الواجهة ” فكر وتأمل سياسي وفلسفي عميق، حيث ينهل هنا ” خطاب ” الفيلم الفكري أو ” شهادة جودار على عصرنا ، ينهل من انجازات وأعمال السينما الكبيرة عبر تاريخها الطويل الذي يبدأ كما يحلو لجودار أن يردد – ” ..من عند الأمريكي جريفيث.. وينتهي عند الايراني عباس كياروستامي –
ولايتسامق ” كتاب الصور ” إلا بما فيه من ” فكر ” سياسي وفلسفي وفني جد عميق، من خلال كل تلك المقتطفات من اللقطات من أفلام بازوليني وجودار وناصر خمير ” الهائمون ” ويوسف شاهين( يعرض للقطة من فيلم ” باب الحديد ” ولقطة أخرى من فيلم ” جميلة بوحريد ” ) كما ينهل من التراث الغنائي العربي في الماضي عند أم كلثوم ” والحاضر عند الموسيقي التونسي ” أنور ابراهيم ” فيلم جودار – بخطابه الفكري والفلسفي – عن ” معاني ” الأشياء ، وباشتغالاته السينمائية الفنية المذهلة على مستوى الشكل و ” النحت في الصور “،
هو ” درس ” في السينما العظيمة- حيث تتحق هنا للسينما وظيفتها الأساسية كـ ” أداة تفكير ” أولا، وحيث يناقش جودار في الجزء الثالث من الفيلم قضايا العرب ويقول ان الغرب ظلمهم من خلال الصورة الرديئة المتخلفة التي روج لها عنهم،ـ وهي صورة لم تنصفهم بالمرة ،
حيث أن العرب كما تمثلهم جودار ونبه في فيلمه،يتعاملون مع الوقت بشكل مختلف، ولديهم كل الوقت للتأمل والتفكير، حتى أنك تجد ان الناس العاديين من العرب ” فلاسفة ” ووراء كل عربي، ولايهم ان يكون متعلما، فيلسوف يتمعن في معاني حياته ويفكر.. فيلم جودار هو أقرب ما يكون الى منشأة – INSTALLATION – من منشأت الفن التشكيلي، فقد هجر المعلم الأكبر جودار السينما منذ زمن.. وترك الإخراج .. وخاصم الممثلين.. والمحترفين.. وتجار السينما الحقراء ..
و لم يعول على حسابات المكسب والخسارة ..واختار أن يكون شاعرا هذه المرة ليقدم لنا وصية شاعر، تذكرني بتلك القصائد الأخيرة التي كتبها الشاعر الهندي العظيم رابندرانات طاغور على فراش الموت وتلخص فلسفة حياة ووجود ويقول فيها :
على شواطيء الاله روبانارايان أفقت، وأدركت أن العالم ليس حلما
وفي حروف الدم، تطلعت الى صورتي
ومن خلال ألف جرح عرفت نفسي
تحية الى المعلم الشاعر والمفكر السينمائي الكبير جان لوك جودار، وفيلمه العظيم، الذي أعاد لنا ثقتنا في تلك القيم والفضائل، التي يتفاخر بها الإنسان، لترويض ذلك ” الوحش ” الذي يسكن داخلنا..
صلاح هاشم
صلاح هاشم كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا