صلاح هاشم يكتب لجريدة “القاهرة” عن شاعرية الخطاب الصوفي في سينما فيلليني.
يحسب لمهرجان القاهرة السينمائي 42، الاحتفالية السينمائية الرائعة، التي كرسها للمخرج الايطالي العظيم فيلليني، كمشاركة من جانبه، في الاحتفال بمئوية فردريكو فيلليني في العالم، وكانت “ضربة معلم” عن إستحقاق وجدارة..
فقد أقام المهرجان معرضا لكواليس أفلام فيلليني، أثناء اخراجه لأفلامه، في قاعة صلاح طاهر في دار الأوبرا المصرية، افتتحه محمد حفظي رئيس المهرجان، مع السيد دافيد سكالماني، الملحق الثقافي الايطالي ومدير المركز الثقافي الايطالي بالقاهرة..
وأصدر المهرجان كتابا مهما شاملا جامعا ، بعنوان ” فيديريكو فيلليني.سينما السحر والأحلام ” للناقد المصري أمير العمري، أعتبره إضافة الى المكتبة السينمائية العربية، اذ يقدم قراءة نقدية معمقة، و رائعة، لمجمل أعمال فيلليني الروائية والوثائقية، وقد بذل فيه الناقد جهدا كبيرا، ليكون الكتاب وعن حق، بمقام تكريم فيلليني، فناننا السينمائي الايطالي المتوسطي الكبير، ومقام سينما السحر والأحلام، وربما أيضا، ليكون بقامة تلك الطفولة المتوسطية الساحرة ، التي اخترعها لنا فيلليني، وجعلنا نصدقها..
كما عرض المهرجان أربعة أفلام لفيلليني بعد ترميمها، لتخرج الى جمهور المهرجان في ثوب جديد قشيب، وهي تتألق بسحر الأبيض والأسود، هي فيلم ” ليالي كابيريا” و ” جوليتا والأرواح ” و ” ثمانية ونص ” و ” الحياة الحلوة “.. وكانت تذاكر حفلاتها ، نفذت بسرعة، بمجرد فتح باب حجز التذاكر، وضيعت على البعض – وبخاصة بعض المحترفين من الصحافيين والمهنيين والنقاد – فرصة مشاهدة تلك الروائع السينمائية، التي دلفت الى تاريخ السينما من أوسع باب، والكتابة عنها، بعد أن نسى المهرجان أن يخصص لهؤلاء، نسبة من التذاكر..
كما جلب المهرجان من قوائم أفلام مهرجان ” كان ” في دورته 72 التي الغيت، والتي حملت شارته و ختمه، فيلما وثائقيا رائعا بعنوان ” فيلليني الأرواح” – “ FELLINI OF THE SPIRITS – للمخرجة الايطالية انسلما ديل اوليو – ANSELMA DELL OLIO – جلبه لجمهور القاهرة، ليعرض في إطار الاحتفال بمئوية فيلليني
وكان من المفترض أن يعرض في الدورة 72 في قسم ” كلاسيكيات كان ” ،التي تعرض في كل دورة مجموعة من الأفلام الكلاسيكية القديمة المرممة ، مع بعض الأفلام الوثائقية التي تعرض للسيرة الذاتية ، لبعض الممثلين أو المخرجين،ممن وضعوا بصماتهم على مسيرة السينما في العالم، وتحتفي بهم..
فيلليني والأرواح
وحسنا فعلت إدارة المهرجان، فقد كان الفيلم تتويجا فذا، لتلك الاحتفالية التكريمية لمخرجنا الايطالي العظيم، إذ يسلط الضوء بمنهج ” مفتش البوليس ” DETECTIVE – كما في روايات أجاثا كريستي البوليسية – على عالم فيلليني ” الخفي “، و جوانب في شخصية فيلليني المخرج لم تكن معروفة من قبل، ولم يتطرق اليها إنسان،
فقد راحت مخرجة الفيلم، تنقب وتفتش عن الاحاديث القديمة التي ادلي بها فيلليني في حواراته للتليفزيون الايطالي، والتي احتفظ بها في دهاليز أرشيف وسينماتيك محطة ” الراي” RAI الايطالية ، وفي معهد الفيلم الايطالي أيضا ونفضت عنها التراب، وأخرجتها للنور، لتضم أجزاء منها، لفيلمها الوثائقي الجديد، كما طعمت الفيلم ،بحوارات وشهادات لكبار المخرجين والكتاب والصحافيين والنقاد، من امثال المخرج الامريكي الكبير وليام فريدكين مخرج فيلم ” طارد الأرواح ” EXORCIST والمخرج الأمريكي تيري جليام مخرج فيلم ” برازيل “، وبعض افراد طاقم العمل، الذي اشتغل مع فيلليني وشارك معه- وبشكل عضوي وضروري – في صنع أفلامه، مثل مساعدته الخاصة فياميتا بروفيلي، و مساعده المقرب فيليبو اسيوني ، ومثل مؤلف موسيقى أفلامه الايطالي الكبير نينو روتي..
ويكشف الفيلم ،من خلال مجموعة كبيرة من الحوارات مع فيلليني ،ومن الشهادات لكبار الكتاب والمخرجين، أن مخرجنا الايطالي ” الكاثوليكي ” – وكان المخرج الايطالي بازوليني أول من يكتشف كاثوليكية وتدين فيلليني، في فيلم ” الطريق ” – كان مهتما جدا بالأرواح، ويقيم جلسات تحضير أرواح بحضور زوجته الممثلة الايطالية القديرة جوليتا ماسينا،
وينحاز الى فلسفة وتوجهات عالم النفس الألماني ” يونج ” ، التي تتطرق الى عوالم ما وراء الطبيعة ، والانفتاح على العلوم الباطنية ، والغيبيات، أكثر من إنحيازه الى فرويد، وتفسيره – المقيد –للأحلام..
في حين كان فيلليني يحب فلسفة يونج والانفتاح على الحياة ، وبكل مافيها من أسرار، و أشياء غامضة، وميتافيزيقية، تستعصى على الفهم والشرح والتفسير، وهو يدلف داخل مغامرة الحياة ، ويحلق مع الطيور السابحات في الأعالي، كما في هذا الفيلم الأثير ” فيلليني الأرواح “.. من دون خوف أو وجل..
كما يكشف الفيلم، أن فيلليني كان في معظم أفلامه رساما مثل سيزان أو بيكاسو، أكثر منه مخرجا، بمعنى أنه لم يجد معنى لتصوير سيناريو جاهز مسبقا للتصوير- كمخرج ” محترف””- ،بل كان مثل كل الدراويش الواصلين،يجد أو يعثر على الفيلم، ويصور الفيلم ويبدعه – الفيلم في دماغه من ذكرياته وأسراره وأحلامه- يجده وهو يصوره، ويخرجه في لحظة التصوير عينها، ويشكله..
كما كان فيلليني – بهذا المنظور – او من هذه الزاوية – كاتبا أيضا ،مثل الفرنسي بلزاك -والمعروف انه ارتبط بصداقة عظيمة مع بيكاسو وجان كوكتو- وأكثر منه مخرجا،
لأنه، وهو المحب الصوفي العاشق للحياة، قد قضي عمره كله، وهو يبحث، وفي كل أفلامه ، عن دلاللتها وأسرارها ومعانيها.
ولذلك أيضا كانت كل أفلامه، بمثابة بحثا عن “أبعاد” و “إمكانيات” ورحلات أخرى للحياة، رحلات للاستكشاف والدهشة،و..رحلات أخرى تسمح للعقل والروح معا، بأن يحلقا مع السحب في الأعالي.لعناق كل الكائنات والموجودات، والتوحد مع المطلق..وطرق أبواب الخلود..
وأخطر مافي الفيلم، أن فيلليني، ومن فرط استغراقه في كشف المستور الغامض، وتعلقه بالغيبيات، كان يريد أن يعبر بوابة الموت في فيلم جديد، ويصور عالم مابعد الموت السري الخفي، إلا أن أحد أصدقائه المقربين، وكان لديه قدرات خارقة، ويستطيع تحريك الأشياء، ويجعلها تطير في الهواء ،كما في أفلام الرعب، حذر فيلليني كما تقول مساعدته في صنع هذا الفيلم، بأنه لن يتحقق ابدا، لأن فيلليني بذلك الفيلم وإن تحقق ، سوف يكون قد تجاوز الخط الأحمر، ووضع هكذا نهاية لرواية حياته بنفسه.
وشاءت الاقدار بالفعل ان تتحقق نبؤة الصديق، ويموت فيلليني، ولاينجح ابدا في تحقيق ذلك الفيلم، عن حياة ما بعد الموت، بسبب العقبات التي اعترضت طريقه في سبيل إنجازه..
غير أن أجمل مافي فيلم ” فيلليني الأرواح “، حديث فيلليني نفسه عن طبيعة ودور الموسيقى في أفلامه ، حيث يقرر ان المشاهد في معظم أفلامه الحداثية من عند فيلم ” الحياة الحلوة ” مرورا بأفلام ” كازانوفا ” و ” أماركورد . إني أتذكر ” و ” المقابلة ” تشكل وحدات سردية وبصرية منفصلة ، وغير مرتبطة ببعضها البعض،
ولاتوجد بها وقائع أو أحداث، بل تصور وتشبه الحكايات التي يحكيها لنا صحفي إسمه فيلليني، وهي حكايات تشبهه، وتصور لنا خيالاته وأحلامه وكوابيسه ورؤاه،، حتى اننا ومن فرط استغراقنا في الحكايات، نتماهي مع شخصيته ” المايسترو ” المعلم ، ونشارك في صنع الفيلم ، غير أن الشيءالوحيد – بإعتراف فيلليني – الذي يمثل ” الروح “التي تربط مابين تلك المشاهد المبعثرة في فيلمه وتوحدها، وتوصلها، وتربطها ببعضها البعض، هى الموسيقى..
وقد عبر فيلليني عن أهمية عنصر الموسيقى، في وحدة أفلامه، و في وحدة العالم ، وعكس ضياعه وتشظيه وتشرذمه، و كشف كيف يتحول العالم الى فوضى، وتقع الكارثة ، لأن الموسيقى بالنسبة له، هي ” النظام ” الذي يتحكم في العالم، ويوحد العالم والناس،
وإذاا غابت الموسيقى وقعت الفوضى، كما في فيلمة الأثير ” بروفة الأوركسترا ” و كشف كيف أنها الموسيقى ذاتها، هي التي توحد مابين عازفي الفرقة الموسيقية ،فاذا اختفت، سادت الفوضي، وضعنا في فوضى الطريق. وهلكنا لامحالة، كما بين في فيلمه المذكور,
، وينتهي فيلم ” فيلليني الأرواح “، الذي كان تتويجا لاحتفالية المهرجان بمئوية فيلليني، ينتهي بمشهد رائع
مشهد طويل مع موسيقى نينو روتي، كما في مشهد النهاية لفيلم ” ثمانية ونص “، يظهر فيه مجموعة من أبرز لقطات الرقصات، التي ظهرت في كل أفلام فيلليني، بمصاحبة تلك الموسيقى الساحرة
حتى أن بعض أفراد من الجمهور من الشباب، خرج وهو يرقص، في صحبة مشاهد الرقصات نلك ، وهي تتابع على الشاشة، في نهاية الفيلم الرائع، وقد صار ذلك المشهد الأخير، لمولانا فيلليني، الصوفي الدرويش، وصانع الأفلام المتوسطي الساحر، قطعة منه، قطعة من الجمهور، وقطعة منا.
شاعرية الخطاب الصوفي
وتحسب هذه الاحتفالية للمهرجان- كضربة معلم – لسببين:
أولهما : أن فيلليني يعتبر “الأب الروحي” لحداثة السينما الايطالية المعاصرة، بعد أن انتقل بأفلامه الأولى، التي تنتمي الى مذهب أو تيار ” الواقعية الجديدة ” – نيو ريالزم – ، الذي تأسس في أعقاب الحرب العالمية الثانية على يد المخرج الايطالي الكبيرالبرتو روسوليني،
من عند ” ليالي كابيريا ” و” المحتال” و ” الطريق” ، وكان حصل بالفيلم الأخير بطولة انتوني كوين وجوليتا ماسينا ، على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وحقق له الفيلم شهرته في العالم، وجعل المنتجين الايطاليين يتحمسون لإنتاج أفلامه ..
وانتقل فيلليني بعد ذلك من ميلودراميات الواقعية الجديدة – NEOREALISME – الى مجموعة من الأفلام الايطالية الجديدة، تؤسس لتيار ” الحداثة ” في السينما المعاصرة، بل ولقد كانت رغبة فيلليني، قبل وفاته، أن يذهب بالسينما ،الى ماهو أبعد وأخطر، من خلال تصوير فيلم يصور عالم مابعد الموت كما ذكرنا
بدأت بفيلم ” الحياة الحلوة ” ثم فيلم” 8 ونصف ” ثم ” المقابلة ” و ” أماركورد . إني أتذكر ” و رائعته ” ساتيركون ” وغيرها، التي كشف فيها فيلليني عبر تلك ” النقلة ” ، عن أساليب سينمائية، جد حديثة أو حداثية ، لاتهتم بسيناريو الفيلم، وموضوعه وحبكته ، بقدر ماتهتم بتوظيف الأفلام، لا للمتعة والترفيه ، بل كأداة تأمل وتفكير، تطرح تساؤلات الوجود الكبرى، وتسأل الى أين نحن نسير، وماذا ينتظرنا عند حافة الأفق، وهي تضع تلك الأساليب والمعالجات والرؤي الجديدة – في ما أحب أن أطلق عليه بـ ” شاعرية الخطاب الصوفي” ، في خدمة التفكير الفلسفي..
وثانيهما : لأن فيلليني ، كما ذكر الناقد أمير العمري في كتابه، هومن أكثر السينمائيين الأوروبيين قرباً، لأبناء الثقافة العربية، من عشاق السينما والمهتمين بها.
فهو بمزاجه المتوسطي، مثلنا، يحب الألوان الصريحة القوية، والصور التي تزخر بالحركة والحيوية والحياة، كما يؤمن بالسحر والروحانيات، والوجود اللا مرئي للأشياء، ولديه شعور راسخ، بأننا لسنا وحدنا في هذا العالم، ويرى أن للصدفة منطقها الخاص، وهو فنان سينمائي بالمعنى الكامل ونموذج مثالي للمخرج- المؤلف، الذي يعبر عن أفكاره الخاصة من فيلم لآخر.
عاش فيلليني..
صلاح هاشم
صلاح هاشم ناقد ومخرج سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا.مؤسس موقع سينما إيزيس عام 2005 في باريس
عن جريدة ” القاهرة ” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 22 ديسمبر والمتوافرة حاليا في الأسواق.رئيس التحرير عماد غزالي