صلاح هاشم يكتب لجريدة ” القاهرة ” عن معرض لـ “بازوليني” في سينما ” الأقصر ” في باريس
من أهم المعارض المقامة حاليا في العاصمة الفرنسية باريس معرض ” بازوليني المثقف “- PASOLINI L INTELLECTUEL – المقام في قاعة سينما ” الأقصر ” في باريس في الفترة من 17 يوليو الى 3 اكتوبر، ويضم مجموعة كبيرة من الصور بعدسة المصور الإيطالي رودريجو بايس( من مواليد روما عام 1930 وتوفي في روما عام 2007 ) التي تعكس الحياة الثقافية والسياسية التي عاشها المخرج الإيطالي الكبير بازوليني ( من مواليد بولونيا 1922 وتوفي في أوستي 1975 ) كمثقف في العاصمة الايطالية ، وفي صحبة جمع من المثقفين والفنانين والمخرجين الايطاليين الكبار من أمثال الروائي البرتو مورافيا والممثلة لورا بيتي والشاعرة إلزا مورانتي وداسيا ماريني وكارلو ليفي، والمخرجين سيزار سافاتيني ولوكينو فيسكونتي.والمعرض من تنظيم مكتبة جامعة مدينة بولونيا الإيطالية التي ولد بها الشاعر والمخرج الإيطالي.
يشتمل المعرض على 5 قاعات ، بحيث تسلط كل قاعة من خلال مجموعة من الصور ، على جانب من الجوانب الإبداعية المتعددة ، للشاعر والروائي والمخرج والمثقف الإيطالي العبقري، والمبدع الكبير بيير باولو بازوليني ( من مواليد بولونيا 1922 وتوفي في أوستي 1975 ) الذي كرس كل أفلامه- ومن ضمنها فيلم ” جمهورية سالو ” ” لمحاربة الفاشية والرأسمالية المتوحشة والإعلام الفاسد المأجور ، وأحزاب الديمقراطية المسيحية في إيطاليا..
في هذا الحوار الأخير مع بازوليني بعنوان ( نحن جميعا في خطر )- نتعرف على قناعات بازوليني الفكرية والسينمائية، وأبعاد معركته ضد الفاشية، ودور “المثقف” الملتزم بقضايا وطنه وشعبه، مع صعود أحزاب اليمين المتطرف في إيطاليا، ومجموعة كبيرة من الدول الأوروبية.
وكان الصحافي الإيطالي فوريو كولومبو مع بازوليني قبل أن ترتكب جريمة قتله البشعة بساعات، ونشر الحوار أولا في ملحق “توتوليبري”، ملحق جريدة الإستمبا الإيطالية اليومية، يوم 8 نوفمبر 1975 ، وهو يحمل عنوان ” نحن جميعا في خطر “..
الدق المستمر على مسمار يؤدي الى إنهيار بيت
* بعد أن إخترت طواعية الإلتزام بالنضال، النضال وحدك، ضد الكثير من الأشياءوالمؤسسات،والقناعات،والأشخاص والسلطات، أقصد ” الوضع ” LA SITUATION وأعني بإختصار ” المشهد السياسي العام ” الذي تناصبه العداء، وتناضل ضده، ومن أجل تغييره ، دعنا نتخيل، أنك أصبحت فجأء صاحب قدرات سحرية هائلة، وتستطيع بحركة واحدة منك فقط،أن تجعل كل الأشياء تختفي ، ألن تجد نفسك بعدإختفاء ذلك” الوضع “وحيدا، ومن دون وسائط تعبيرية لا كتب ولا سينما ولا صحف، وعاطلا عن العمل؟
– أجل.فهمتك. لكني لن أسعد فقط، بتجربة تلك “الطاقة السحرية” الهائلة، بل سأؤمن بها أيضا، لأني أعرف أننا نستطيع ،بالدق المستمر على ذات المسمار ، أن نهدم بيتا
الذين قالوا لا ..دخلوا التاريخ من أوسع باب
إن التاريخ يمنحنا العديد من الأمثلة ،التي تثبت صحة ما أقول، فقد كان ” الرفض “يمثل دائما عبر التاريخ، موقفا أساسيا، للكثير من القديسين والرهبان والمثقفين كذلك.
إن العدد القليل من الرجال، الذين صنعوا تاريخ العالم، كانوا في الأصل من الرافضين، هؤلاء الذين قالوا ” لا “وليسوا من التابعين، من حاشية وخدم، الأسياد والأعيان والكرادلة.
ولكي يكون ” الرفض ” فاعلا، ومؤثرا ،والآن ،لدينا في الواقع ثلاثة تساؤلات. ترى ماذا نقصد بـ ” الوضع “؟ وماهي الأسباب التي تدعونا الى إيقافه أو تدميره ؟، وماهي سبل تحقيق ذلك ؟
المأساة التي نعيشها اليوم في إيطاليا
أريدك فقط، أن تتطلع من حولك، لكي تتأمل في، وتعي حجم المأساة، التي نعيشها اليوم في إيطاليا..
عن أي مأساة أتحدث ؟.عن مأساة، أنه لم يعد لدينا بشر الآن ، لدينا فقط، “ماكينات غريبة” ،تصطدم ببعضها البعض، بينما ننشغل نحن المثقفون، بتصفح جداول مواعيد القطارات في العام الماضي، أو مواعيدها، منذ عشر سنوات مضت،، ثم تجدنا نضرب كفا بكف، ونردد ، إن عجبا، كيف لقطارين، في ميعادين مختلفين، أن يصطدما ،وبشكل مروع هكذا ؟، إما أن يكون سائق القطار قد جن،..أو أن في الأمر ، جريمة ما مدبرة ، بمعنى أن هناك مؤامرة..
نظرية المؤامرة ومسئولية مواجهة الحقيقة بمفردنا
و ” نظرية المؤامرة ” في رأيي ،هي الأرجح، إنها هي التي تجعلنا نهذي وبجنون. لأن ” نظرية المؤامرة” سهلة ، ومريحة جدا لنا، لأنها تجعلنا نتحرر في الواقع،من عبْ ء وثقل، المهمة الملقاة على عاتقنا، في مواجهة الحقيقة، بمفردنا..
في الماضي،كان من السهل على الإنسان العادي في إيطاليا، أن يختار- بفضل شجاعته وضميره – النضال ضد الفاشية، في حكومة سالو..وهكذا إستطاع رد االفاشيين في حكومة سالو ، ومقاومة ضباط هتلر النازيين.. لكن لقد تغير كل شييء الآن.
الآن ستجد أحدهم، يلجأ اليك، وهو يرتدي قناع صديق، ويتظاهر بأنه مؤدب ولطيف، ويقدم اليك نفسه، فيقول أنه ” يتعاون ” فقط مع التليفزيون، لأنه يريد أن يكسب لقمة عيشه، وهي بالقطع ليست ” جريمة “، ثم يأتي اليك آخر- أو آخرون – ويواجهونك،بكافةإطروحات الإبتزاز الايديولوجية، ويلوحون لك بلافتاتهم وشعاراتهم، فتشعر بأنهم قد صاروا، يشكلون تهديدا، وتجد نفسك تتساءل، حسنا.. إن كان الأمر كذلك، ترى ما الذي يفصلهم عن ” السلطة ” ؟
* لقد إتهموك بأنك لاتفرق بين ماهو ” سياسي ” ، وماهو ” إيديولوجي “، ولم تعد تجد فروقا عميقة – لاشك أنها موجودة بالقطع – بين الفاشيين وغير الفاشيين، وبخاصة عند جمهور الشباب
– ولهذا السبب كنت أتحدث عليك منذ قليل عن دفاتر مواعيد القطارات، هل سبق لك مشاهدة تلك العروض الفكاهية التي يضحك لها الصغار كثيرا عندما تعرض فيها العرائس الماريونيت لجسمها، فيكون الرأس في ناحية ، والجسم في ناحية أخرى ؟ أعتقد أن الممثل الفكاهي الإيطالي ” توتو نجح في أن يفعل ذلك بجسمه في ” نمرة ” فنية في أحد عروضه، وأنا أري “قطيع المثقفين” الإيطاليين الجميل هكذا أيضا، أجسامهم في ناحية ، ورؤؤسهم في ناحية أخرى. تقع أحداث كثيرة في ناحية، بينما تتطلع رؤؤسهم الى الناحية الأخرى. أنا لا أقول.. لاتوجد فاشية. أنا أقول، لاتحدثوننا عن البحر، ونحن في الجبل. أنا أتحدث هنا عن ” وضع ” و” مكان ” آخر مختلف. مكان يجلعنا نشعر فيه، بالرغبة في القتل. إن هذه الرغبة في القتل، هي التي توحدنا جميعا هنا في إيطاليا، مثل مجموعة من الأخوة المتضررين، بسبب ذلك الفشل الفظيع الكئيب، لنظام إجتماعي بأكمله..
وأنا أيضا ،أحب أن أعزل نفسي عن هذا القطيع القذر من المثقفين الإيطاليين، الذي أراه جيدا جدا، أرى أصحابه، جميعهم، أعرفهم واحدا واحدا، ولحد السأم، حتى صرت أردد على صديقي الكاتب الروائي الكبير ألبرتو مورافيا، أن الحياة التي أخترت أن أحياها وسطهم، سوف أدفع ثمها غاليا جدا ، في مابعد، فقد كانت هذه الحياة هي ” الهبوط الى الجحيم ” – جحيم دانتي – بعينه. ولكني عند عودتي – إن كتبت لي عودة- من الجحيم، الذي شاهدت فيه أشياء مختلفة ، وبكثرة. أنا لا أطلب منك أن تصدقني. أطلب فقط منك، تغيير موضوع الحديث بإستمرار، لنتلافى مجابهة “الحقيقة” ..
* لو ألغيت بلمسة من سحر، هذه الماكينة الصناعية الكبيرة، بكافة تنظيماتها ومؤسساتها وتقنياتها، صحفها وإعلامها ماذا سوف يتبقى لنا ياسيد بازوليني؟
سوف يتسع العالم ونجد أمامنا ” بريخت “
– سوف يتبقى لي كل شييء، أعني ..سوف تتبقي لي روحي، وحياتي، وأن أكون في العالم، لكي أرى وأعمل وأتنفس، وأفهم وكل شييء. وسوف يتبقى أيضا، لو ألغيت هذه الماكينة الصناعية الإستهلاكية الجبارة، مائة طريقة لرواية قصة، ومائة طريقة للانصات الى لغات أخرى، ومائة طريقة لإختراع لهجات، ومائة طريقة لإقامة عروض لمسرح العرائس..
* لماذ تعتقد يا سيد بازوليني ، أنك الوحيد الذي يفهم كل شييء، وأنك تفهم بعض الأشياء ،بشكل أكثر وضوحا من أي شخص آخر ؟
– يجب أن أتوقف هنا عن الحديث عن نفسي، بل لربما كنت تحدثت عن نفسي كثيرا في هذا الحوار، يعرف الجميع أنني أدفع ثمنا، لكل تجاربي، وثمنا لكل كتبي وأفلامي، من حياتي الشخصية، وربما كنت أنا المخطأ، لكني مازلت مصرا، على أننا نعيش جميعا في خطر..
* بازوليني ..إذا كنت ترى الحياة بهذا المنظار، لا أعرف إن كنت تقبل، أن تجيبني على هذا السؤال: كيف يمكنك تلافي هذا “الخطر ” المحدق بنا ؟
كان الليل قد هبط ، ولم يكن بازوليني أضاء نور الصالة، ولذا لم أكن قادرا على تدوين ملاحظاتي، وقرأنا معا جملة الملاحظات التي دونتها، ثم أنه طلب مني أت أترك له الأسئلة ،وقال :
– ” .. يبدو لي أن بعض الإجابات ،كانت مطلقة قليلا، دعني إذن أفحصها من جديد، وأترك لي بعض الوقت ، لكي أصل الى ” نتيجة “ما للحوار.لإن الكتابة عندي، أسهل من الكلام..في صباح الغد، ستجد بعض الملاحظات الإضافية بإنتظارك..” ..
في اليوم التالي ، وكان يوم أحد، كانت جثة بازوليني، مسجاة على طاولة ،في مشرحة شرطة مدينة روما.
باريس.صلاح هاشم مصطفى
صلاح هاشم أديب وناقد ومخرج سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا