صلاح هاشم يكتب من باريس عن شخصية مصر في السينما لجريدة ” القاهرة ” في مصر. فيلم “فتاة المصنع” دعوة الى الحب
ليس هذا دفاعا عن السينما المصرية، التي لا تستطيع في المحاكم أن تدافع عن نفسها، إلا بتقديم الدلائل والبراهين. هكذا فكرت.لاتستطيع أن تدافع عن نفسها إلا من خلال ” أفلامها ” فقط، التي تتحدث عن نفسها، بنفسها..تلك ” الروائع ” التي صنعتنا ، و إستحوذت على أفئدتنا في أفلام ” العزيمة ” و ” السوق السوداء ” و ” غزل البنات ” و ” بداية ونهاية ” و ” الفتوة ” و ” السقامات ” و” اللص والكلاب ” و ” أرض الخوف ” و ” المومياء ” و ” رصيف نمرة 5 ” و ” ريا وسكينة ” و ” باب الحديد ” و ” الحريف ” و ” زوجة رجل مهم ” ، و ” حياة أو موت ” وغيرها ، التي صارت الآن أكبر منا، والتي هي في معظمها ، كما اكتشفت، كلما كبرت، ازدادت حلاوة، ولن تشيخ أبدا على مايبدو ..
صنعت لنا السينما المصرية ” الجميلة ” كل تلك البوابات الى الجمال – من جميل – وقالت لنا اتفضلوا..هاكم تحية كاريوكا وهند رستم وسامية جمال ..هنيئا لكم بسحر الضوء والفن والدلال..
كنا نتحدث صديقي المخرج العراقي وأنا، بجوار نافذة المطبخ المفتوحة، على ضوء النهار، وكان ” الضوء ” في قلب أحاديثنا الليلية، حين نلتقي عادة بعد المغرب في باريس، على براد شاي كبير، وسيجارةن نقعد نتحدث عن حياتنا والسينما، وكنت قد عدت منذ أيام فقط من رحلة لي الى القاهرة ، حضرت فيها مهرجانين هما ” بانوراما السينما الاوروبية ” و” مهرجان الاسماعيلية السينمائي ” وشاهدت العديد من أفلامهما، لكني كنت كرست وقتا كبيرا أثناء زيارتي، لمشاهدة ” روائع ” الأفلام المصرية القديمة..
لايوجد في تقييم الأفلام فرق، بين ” قديم ” و ” جديد “. صحيح ان الأفلام بنت عصرها، لكنها تقفز، عندما تكون جميلة وتعجبنا ، فوق حدود الأماكن والطبائع والأزمنة، لتصبح بنت وقتهان في اللحظة والآن، وهذا ما أستشعرته، في معظم الأفلام القديمة الروائعن التي شاهدتها في مصر..
قال صديقي المخرج العراقي الذي يعيش منذ زمن طويل في باريس، أن السينما المصرية أثبتت أولا أن الشعب المصري.. يحب الجمال. بفتح الجيم..
انظر مثلا الى تلك الصورة التي تتصدر غلاف كتاب ” قصة السينما في مصر” للناقد سعد الدين توفيق ،الصادر عن سلسلة ” كتاب الهلال ” وتظهر فيها فتاة شابة ،تحمل سكينا ، وعلى وشك أن تذبح حبيبها الراكع أمامها ،ممسكا بثيابها. .
ماذا يقول كلام الصورة ؟ .يقول أن الست الموجودة في الصورة هي ست ” منيرة هانم ” في رواية” فاجعة فوق الهرم” تمسك بخنجر، و تحاول قتل ” سعيد بك “، بعد أن طلب منها ذلك، لأنها ترفض غرامه
في كل مصري- قال صاحبي- يكمن ” سعيد بك ” داخله، ولايطيق أن ترفض مصرحبه لها، فيمنحها سكينا ، ويقول لها اذبحيني ياحبيبتي، إذا لم أكن أستحق حبك، و يالله.. خلصيني من عذابي “!.
السينما المصرية من خلال الميلودراما، وقصص الفواجع والمآسي والمبالغات العاطفية ،علمت الناس الحب..
دخلت اليهم من باب الغرام والعشق الجامح، وملامسة الجسد، وهكذاتكرس حبنا لها، من خلال تجربة الحب والعناق والجنس..
وكانت بالنسبة لنا نحن الاطفال الأشقياء في حينا العريق ” في السيدة زينب بمثابة المعمل التجريبي، لممارساتنا الغرامية الملتبسة في الخفاء، تحت السلالم، وفوق العشش المهملة فوق أسطح الدوروالبنايات..
في حينا العريق ” قلعة الكبش ” بجوار مسجد أحمد بن طولون في السيدة زينب، والغرف السرية المسكونة بالأشباح، والحدائق العامة. .
شجعتنا الأفلام المصرية الرائعة – التي كانت تعرض في سينمات الحي: ” سينما الأهلي “، و”سينما الهلال” و”سينما الشرق” – مثل فيلم ” شباب إمرأة “لصلاح أبو سيف، على أن على أن نقتنص قبلات في الخفاء ،في تلك الحديقة المنعزلة بجوار ” مسرح الجيب ” على النيل..
شجعتنا على المغامرة ،وقوت وعززت فينا حب الاقتحام، والنفاذ الى داخل المياه من دون تردد أو وجل..
في الوقت الذي دخلت فيه السينما الامريكية عند نشأتها الى الناس، بفيلم عن السطو على قطار، أي فيلم عن سرقة وضرب ناروقتل ،وعنف ورصاصات طائشة.. أعوذ بالله..ودخلت الى الناس، بثقافة العنف، ثقافة الغزو والنهب والسطو في العالم الجديد.. أمريكا..
دخلت السينما المصرية الى الناس في مصر بفيلم ” زينب ” لمحمد كريم، فاقتبست رواية عن الحب ،عند الفلاحين الغلابة ، للكاتب محمد حسين هيكل ، وكانت الرواية الوحيدة في مصر، وقدمتها للسينما..وهكذا ارتبطت منذ نشأتها بالأدب، و قد كانت ” الدعوة ” في السينما المصرية ، وعلى طول تاريخها ، دعوة الى الحب..
السينما المصرية دعوة الى الحب
وهانذاأكتب في مفكرتي السينمائية بعدعودتي من مشاهدة فيلم ” فتاة المصنع ” لمحمد خان في عرض خاص بسينما نايل سيتي، وأنا أشعر بعد الفيلم بسعادة غامرة، فلم أشاهد في ” فتاة المصنع ” فيلما جميلا وبديعا فحسب، بل أكثر من ذلك ، عايشت ” حالة ” نادرة من الفرح و البهجة ، وكأني اكتشف ” سحر ” السينما ، وبراعة مايسترو في العزف لأول مرة، أجل تلك ” الحالة ” – حالة حب أكيد – التي افتقدناها منذ زمن طويل، في أفلام السينما المصرية الكئيبة المعتمة..
وبخاصة تلك الافلام التي ذهبت الى العشوائيات، لتحكي لنا عن أهلها، لكي تخسف بهم الأرض، ولاتظهرهم لنا الا كحيوانات عدمية ، لايهمها الا اشباع غرائزها الدونية الحيوانية ، في غابة من التراب والحديد وعشش الصفيح والاسفلت ،ومجرمين وقطاع طرق وسفلة ، أي على شاكلة صنّاع تلك الافلام تماما : صورة من القبح والنهم والجشع ، الذي صارت اليه بعض نفوس التجار الحقراء في بلادنا..
وهذه الحالة التي أنحاز اليها في فيلم ” فتاة المصنع ” وجعلتي أشعر كما لوكنت أنا صانعها ومشاركا لمحمد خان في ابداع فيلمه، هي “حالة وله وعشق” – البنت في الفيلم أسمها ” هيام “- بمذاق صوفي تأملي ، ليس فقط لكل الفتيات و النساء المصريات الجميلات في فيلمه، في فرحهن وحزنهن، اللواتي يمثلن ” إيزيس ” المرأة والربة والوطن، بل حالة عشق للسينما ايضا ،اي حالة ” الحب كله ” النادرة للانسانية جمعاء ، كما في تلك الاغنية بنفس الأسم، التي تشدو بها كوكب الشرق أم كلثوم في لقطة من الفيلم ، هذا الفيلم الذي يهديه محمد خان الى سعاد حسني ( ايزيس محمد خان ؟ ) ويجعله يذوب رقة وعذوبة، ويصبح مثل قطعة تورتة بالشوكلاته، فوريه نوار، أو قطعة كنافة بالعسل من عند عرفة الكنفاني ، أشهر بائع كنافة وقطايف في مصر في حينا العريق السيدة زينب، وبمجرد التهامها، تذوب في الفم بطعمها وحلاوتها،تصبح قطعة منا، وتجعلنا نحب الحياة أكثر..
بل لقد استطاع محمد خان في فتاة المصنع أن ينصف سكان العشوائيات، وأن يحول كل عناصر الفيلم من قصة وأداء وتصوير وتمثيل الخ الى قطعة موسيقية عذبة وشجية في مديح وحب المرأة المصرية: بنت الحارات الشعبية في احياء مصر العريقة، بنت البلد في السيدة زينب، والمطرية وباب الشعرية ، والدويقة وباب الخلق وداخل تلك البيوتات والنوافذ والشرفات المتلاصقة في أحياء العشوائيات، وسكانها المهمشين المكدسين في تلك الاماكن الضيقة الخانقة ، لكن الواسعة أيضا ..بكرمهم ..ولهوهن وقلوبهن الرحيمة وتعاطفهن، وعشقهن للحياة..
ومن دون ان ينسى محمد خان واقع القهر الذي يمارسه عليهن المجتمع المصري البرجوازي المحافظ المنافق المحفلط ، وقيمه الرجعية المعفنة المتخلفة، وأن يكشف في فيلمه عن العلاقة بين جيل الحاضر، الذي تمثله هيام بطلة الفيلم ( جيل 21 سنة ونار العشق المشبوبة في اجسادهن، ولاقدرة لهن أو رغبة في اطفائها ) وبين جيل نساء الماضي من سن الاربعين، فما فوق ،الذي تمثله الجدة والأم والخالة، بين قيم وتناقضات جيلين اذن..
وأن يبين في ذات الوقت، العلاقة بين طبقة السادة : ومنهم المشرف الذي يترك البلد ويهاجر في أول الفيلم ، وأم صلاح المشرف الجديد ، وبين طبقة الخدم من سكان العشوائيات : كالخالة وبنت اختها هيام ، ويحرص محمد خان في تنقلاته بين الجيلين والطبقتين، باحترافية عالية، أن يربط بينهما من خلال ” وصلة ” سينمائية رائعة..
“وصلة ” ، تظهر على شكل مقاطع سريعة، أشبه ماتكون بالهمس الخفيف ، من اغنيات لسعاد حسني، ومشاهد من فيلم ” السفيرة عزيزة” تظهر فيها سعاد وهي تتبادل القبلات مع شكري سرحان ،ونتمنى أو نحلم بأن نكون في محله أو مكانه ، فنعانق ايزيس محمد خان سعاد حسني، ولانغادرها،أو نتركها تذهب..
وهذه ” الوصلة ” بقدر ماتمثله كتحية الى سعاد حسني ، وعصور من السينما المصرية وافلامهاالجميلة التي صنعت وجدان شعب، بقدر ماتكثف وتعمق من احساس ومشاعر هيام بالحب ، وتجعلها لاتخجل من أن تفصح عن حبها لصلاح – وياريتني كنت هذا الصلاح الجحش في الفيلم ، ابن أمه ، الذي ينتهي به المطاف الى الزواج من عنزة – معزة – بورجوازية ، لكنت اختطفتها وحلقت بها بعيدا..
بقلم
صلاح هاشم مصطفى
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا
***
عن جريدة “القاهرة ” الإسبوعية. العدد ( 1251 ) الصادر بتاريخ الثلاثاء 9 يوليو 2024
best iptv smarter
يوليو 10, 2024 @ 11:18 م
Wow superb blog layout How long have you been blogging for you make blogging look easy The overall look of your site is magnificent as well as the content