صلاح هاشم يكتب من باريس لجريدة ” القاهرة.كيف صورت السينما ” المدينة ” في أفلامها ؟
فكرت بعد أن شاهدت فيلم ” أيام رائعة ” – PERFECT DAYS– للمخرج الألماني الكبير – 87 سنة – فيم فندرز، والذي خرج حديثا للعرض في باريس، وأعجبت به كثيرا جدا، وكان الفيلم فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في دورة مهرجان ” المنصرمة 76، كما خصل ممثله على جائزة افضل ممثلل، ترى ماهي العلاقة التي تربط بين السينما والمدينة، عبر تلك الرحلة الطويلة التي قطعتها السينما- أكثر من مائة عام – ومنذ نشأتها؟..
وخرجت بعد مشاهدة الفيلم، ورأسي مليئة بصور المدن التي شاهدتها وأنا صغير، مع أولاد حينا العريق ” قلعة الكبش ” في السيدة زينب في ” سينما إيزيس “.مثل نيويورك في فيلم ” كينج كونج ” – KING KONG– وباريس في فيلم ” إيرما اللعوب[U1] ” – IRMA LA DUCE– وطوكيو في فيلم ” رحلة الى طوكيو – VOYAGE A TOKYO– للمخرج الياباني العظيم أوزو..
طوكيو. السينما تضع العالم في متناول العين
فى الظلام كنا نحن الأولاد الأشقياء في حينا العريق ( قلعة الكبش ) بجوار مسجد أحمد بن طولون في السيدة زينب،وعندما نشاهد فيلما للمخرج ساتيا جيت،نتساءل عن طبيعة هذه العلاقة، التى تنشأ بين الانسان والسينما.ثم كبرنا وعرفنا ان السمة الجوهرية للسينما، هى انها تمارس تأثيرها على الانسان،فى نفس الوضع والمكان، الذى يوجد فيه المتفرج ،وهى تستبدل بتحرياتنا تحرياتها، وهكذا دركنا أنها السينما، تتخيل من أجلنا، ونتخيل بدلا منا ،وفى الوقت نفسه تتخيل بعيدا عنا، تخيلا أكثر كثافة وأكثر دقة.وعرفنا أنها أكثر قدرة من الانسان الواقعى، كما يقول الفيلسوف الفرنسي إدجار موران، حين تتجاهل فوراق المكان والزمان ، عندما تقدم لنا فى مكان واحد، وفى زمان واحد، احداثا متتالية ، فى أزمنة متباعدة، أو منفصلة عن بعضها بعضا جغرافيا، فى مكان واحد ..
إنها تجعلنا نرى عملية اختراق الانسان للعالم، وهى تجعلنا ايضا نرى اختراق العالم للانسان ،وهذه العملية ،هى فى البداية “عملية استكشاف ” لما هو خارجنا ،وهى فى النهاية كما يقول المفكر الفرنسي الكبير إدجار موران، “عملية كشف “عما هو فى داخلنا..
السينما تضع العالم ومدنه فى متناول اليد، أو على وجه أدق تضعهما فى متناول العين . أنها تضع العالم المجهول، لا بمدنه فحسب، بل بقاراته وأنهاره وبحاره وأناسه، فى متناول عيوننا. أنها العين الأقوى والأعمق من العين الانسانية، وأن كانت هى عين الانسان..
السينما تعكس التبادل العقلى ،بين الانسان والعالم ،وهذا التبادل هو استيعاب نفسى تطبيقى للمعرفة أو الوعى، ودراسة أصل السينما كما يؤكد موران، تكشف لنا عن أن السحر والمشاركات الخيالية بصفة أعم ،يجرى تبادلها بنشاط مع العالم بقدر هام من الخيال.ومن الممكن فى رأيه أن نقول عن قاعة السينما، أنها قاعة واسعة للعلاج النفسى، لأنها اداة نفسية بالدرجة الأولى.وإذا أراد أحدنا أن يعرف حقيقة ما بداخل نفسه، فليسأل نفسه أثناء مشاهدته الفيلم، عن معنى رد فعله ،وإذا أراد أن يعرف حقيقة ما بداخل شخص آخر، فليناقشه فى الأفلام التى يراها
هكذا إرتبطت السينما بالمدينة ومنذ نشأتها
والأفلام التى سوف تشاهدها ، في أي معرض خيالي لمدن السينما،،وأنت تنتقل من ديكورات حى سكني ما، وليكن مثلا حي” بلفيل ” في باريس وهو حي شعبي يسكنه المهاجرون العرب واليهود والأفارقة، الى حى أخر مثل حي “الشانزليزيه” في فيلم ” مصعد الى المشنفة ” للمخرج الفرنسي الكبير لوي مال وبطولة جان مورو..
لم تكن في واقع الأمر إلا “أيقونات”، أو ” ألبومات” طرحتها السينما عن المدن، وعلاقة الانسان بها، وهي تعكس مجموعة كبيرة من أفكار وتصورات المخرجين عن المدينة الحديثة، وتوضح كيف ارتبطت المدينة بالسينما ، منذ افتتاح أول صالة عرض للأفلام فى العالم، فى 28 ديسمبر عام 1895 ، فى بدروم مقهى ” الجراند كافيه ” فى شارع كابوسين بباريس، وأصبحت من موضوعاتها المفضلة ..
هذا المعرض الخيالي بأفلامه وديكوراته وأحيائه وجوه ،حين تكون قد انتهيت من مشاهدته، وسلمت سماعتك إلى المضيفة، وأنت فى طريقك الى الخارج، لتلتقى مرة أخرى بفضاء باريس، سيثير فى نفسك سؤالا : أو ليس من الغريب، وبفعل سحر هذا الفن، أن نعيش فى مدن ترزخ بثقلها على كاهلنا، فلا نشعر بها ،فى الوقت الذى يتعاظم فيه احساسنا، بتلك المدن الأخرى التى صورتها لنا السينما وقدمتها لنا على شاشتها وعبر أفضل افلامها ؟..
غريب ان تعيش فى “مانهاتن” فى قلب نيويورك، كما حدث لي في رحلة إسنطلاع قمت بها الى ذلك الحي في قلب نيويورك لكتابة تقارير لمجلة ” الوطن العربي” التي كانت تصدر في باريس في فترة الثمانينيات، لكنك ستكون مشغولا عنها ، بـ” مانهاتن” أخرى ، من ديكور وورق مقوى وخشب وقش، من إبداع مخرج اسمه وودى آلن..يا له من أمر عجيب حقا، ان تسكننا مدن السينما الأخرى، من صنع الخيال والوهم وخداع البصر، أكثر من هذه المدن التى نعيش فيها..
المجد اذن لروح الخيال الانسانى، كما يقول الشاعر الفرنسي العظيم ابولينير . المجد لروح المخاطرة والمغامرة، فى هذه المدن الأخرى من الخيالات والأحلام والأوهام والأفكار المكبوتة، التى تجعلنا نحن البشر، ننطلق من عقالنا لنتجاوز الزمان والمكان، ونخترق الحدود والابعاد، لنحلق فى الفضاء مع الطيور السابحات، وندور، وندور، ثم نهبط إلى أرضية هذا الواقع الصلدة. وتعالوا نستكشف هنا بعض الأفكار الخاصة التي تعتمل في ذهن بعض مشاهير المخرجبن عن المدينة بأقلامهم :
هيتشكوك . 24 ساعة في حياة مدينة
” أحب أن أصنع فيلما بعنوان ” 24 ساعة فى حياة مدينة أصور فيه حياتها . الفيلم يبدأ فى الصباح الباكر بذبابة تحط على أنف صعلوك، يكون قد أمضى ليلته نائما على عتبة باب، ثم تبدأ حركة الصباح فى المدينة، وأريد أن أًصور فيه دورة الغذاء كاملة : وصول الطعام فى الصباح، وكيف يتم توزيعه على البيوت، وحركة البيع والشراء، التى يثيرها، ثم ادخل إلى المطبخ، وأصور عملية مضغ الطعام ،وتوزيعه على فنادق المدينة، وما يحدث بشأن استهلاكه، واستيعاب عناصره الغذائية، وبحيث ينتهى الفيلم بلقطات مقربة فى نهاية اليوم ،لأكوام القمامة والنفايات التى يقذف بها إلى المحيط. مهلا يسألنى أحدهم ماذا أريد أن أقول بهذا الفيلم . حسنا أريد أن أكشف عن معنى هذه ” الدورة” ،التى يمر بها الانسان . وفيلم كهذا، لابد أن يكون حتما مسليا..” ..
بقلم
صلاح هاشم.باريس
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا
888
عن جريدة ” القاهرة “.العدد 1230 الصادر بتاريخ 13 فبراير 2024