صلاح هاشم يكتب من باريس لجريدة ” القاهرة ” عن ” سينما إيزيس” و” الهلال ” و ” الأهلي ” في حي السيدة زينب ومصر المكان
في حديث رمضاني بعد الإفطار، حيث يحلو السهر والسمر مع الحكايات والروايات، في جلسة حلوة، جمعتنا ببعض الأصدقاء الأعزاء من المشاءين الدراويش الكبار في ” أتيليه ” الفنانين والكتاب في القاهرة، على بعد خطوات من مقر حزب” التجمع “وتمثال طلعت حرب في قلب الميدان،تطرقنا الى الكلام عن التأثيرات التي أحدثتها “القاعات السينمائية ” الكثيرة التي كنا نترددها عليها ونحن صغارفي حينا العريق “السيدة زينب” في “الوعي الجمعي المصري” وفي تربيتنا وثقافتنا، وعشقنا للسينما الحلال – حضارة السلوك الكبرى كما أحب أن أسميها – والتي كانت بمثابة ” الجامعة الشعبية ” الأهلية التي تعلمنا فيها ” دروس الحياة ” كما يذكر الروائي المصري الكبير بكر الشرقاوي في فيلم ” وكأنهم كانوا سينمائيين.شهادات على سينما وعصر”، ولم يكن التلفزيون في فترة الخمسينيات آنذاك، قد دخل مصربعد..
بيرت لاتكستر.القرصان الأحمر. سينما إيزيس
فقد كانت تلك التأثيرات، وكما تبين لي، وبعد بحث ودراسة وتنقيب “هائلة” بالفعل، وتستحق أن يكرس لها فيلما وثائقيا بأكمله، لتشرح للناس- وبخاصة للفرنسيين، بعد أن إتخذت من باريس سكنا – لماذ أحب المصريون السينما هكذا لحد العبادة ، وجعلوها تستحوذ بحكاياتها ومغامراتها وأبطالها على أفئدتهم. وحيث كان بإستطاعة سكان حينا العريق” السيدة زينب ” رجاله ونسائه وأطفاله، التردد على 4 قاعات سينمائية شعبية ” ترسو ” من الدرجة الثالثة، في محيط لاتتعدى مساحته بضع كيلومترات،هي :
” سينما إيزيس ” التي كانت تعرض الأفلام الأجنبية فقط، وبخاصة أفلام السينما الأمريكية من إنتاج استوديوعات هوليوود الكبرى ” الماجور ” في فترة الأربعينات فصاعدا، وجعلتنا نعشق أبطال أفلامها من النجوم، ونقلدهم في حركتهم وكلامهم وتمثيلهم، مثل بيرت لانكستر – نجمي المفضل وأنا صغير-.في فيلم ” القرصان الأحمر “، من أفلام السيف، والمغامرات في البحر. وكنت احب مثل الأديب يحيى حقي – هؤلاء علموني ،افلام الشجاعة والفروسية ،وركوب الخيل تسابق القطار، وقفز البطل من هذا الى ذاك ، كما يقول يحيى حفي في كتابه ” في السينما “..
كما احببت بيرت لانكستر في فيلم ” فيرا كروز ” من أفلام ” الوسترن ” أو أفلام ” الكاوبوي” أي رعاة البقر، ويشاركه جاري كوبر في بطولة الفيلم، كما أعجبت بكلارك جيبل ، وآفا جاردنر، وجريس كيلي في فيلم ” موجامبو” ووقعت في حب آفا جاردنر من أول لقطة وأنا في الخامسة من عمري..
و” سينما الهلال ” الصيفي في شارع ماراسينا، التي كانت تفتح أبوابها فقط خلال فترة الصيف،و” سينما الشرق”..
و ” سينما الأهلي ” التي كانت تقع على بعد خطوات من مطعم ومسمط ” الركيب ” الشهير في ميدان السيدة، وكانت تعرض فقط الأفلام المصرية..ويمكنك بعد أن تكون تفرجت على صور بالأبيض والإسو،د للقطات ومشاهد من الفيلم ،وأنت تقف وتتأملها طويلا، وتبحلق في أبطالها من النجوم أيضا، من أمثال ليلى مراد ونجيب الريحاني وأنور وجدي في فيلم ” غزل البنات ” – ومحمود المليجي في فيلم ” الأرض ” – وفاتن حمامة في فيلم ” لك يوم ياظالم” – وفريد شوقي ونادية لطفي في فيلم ” سلطان ” – وإسماعيل يس وشكوكو في فيلم ” ليلة العيد ” – وهند رستم ويوسف شاهين في فيلم ” باب الحديد ” – وشادية وتحية كاريوكا وعبد الوارث عصر وشكري سرحان في فيلم ” شباب إمرأة “– وشاهدت غيرهم من أبطال ونجوم السينما المصرية،وقررت أن تشتري تذكرة وتدخل الفيلم..
وربما كان المصريون، يعتبرون الشعب الوحيد في العالم الذي يسأل : دخلت فيلم ” سلطان ” ؟ ولا يسأل هل شاهدت فيلم ” سلطان ” ؟، حيث لاتقتصر خبرة المصريين، في علاقتهم بالسينما، على فعل ” المشاهدة والفرجة فقط من الخارج ” بل على “الدخول “في لحم الفيلم، والتلاحم معه وإختراقه في الظلام، وبالتالي ” التوحد ” والتماهي ” معه..
السينما كمكان في كتابات الأدباء المصريين المحدثين
في كتابه ” مصر المكان. دراسة في القصة والرواية ” الصادرعام 2012 عن دار الكتب والوثائق المصرية يتحدث الكاتب والروائي المصري الكبير محمد جبريل عن مصر المكان شقة – شجرة – حي -تكية – سينما – جامع الخ، من خلال حضور المكان في اكثر من 200 رواية وأكثر من ألف قصة، فيذكر أولا في ما يخص السينما كمكان ، أن العالم عرف فن السينماتوغراف، أو الصور المتحركة في أواخر القرن التاسع عشر ( 1896 – 1897 ) ثم إنتقل الى مصر من خلال المقاهي التي يديرها الأجانب، في الأسكندرية أولا، ثم في القاهرة، وكانت السينما في بداية القرن العشرين ظاهرة تثير الدهشة والعجب ، وكان حي باكوس بالأسكندرية أول شارع في مصر شيدت فيه دار للسينما، هي سينما الأهرام ..
ويروح محمد جبريل الروائي الفنان إبن الأسكندرية البار، في حديثه عن السينما كمكان، ينهل من بعض روايات نجيب محفوظ ، فيحكي مثلا من رواية ” بين القصرين” :
” واللافت أن احمد عبد الجواد ورفاقه لم يترددوا على سينما سيتي – مثلا – أو مسارح روض الفرج، رغم أنهم كانوا من المولعين بالطرب واللهو والغناء ، لإحساسهم بأن ذلك إنتقاص لهيبتهم ( بين القصرين )..
ثم يورد جبريل الفقرة التالية من رواية ” بداية ونهاية ” ( وقد اقتصرت عروض دور السينما منذ إنشائها -ولسنوات طويلة – على عرض السادسة والربع، والتاسعة والربع مساء، وكان البرنامج يتكون من 3 فقرات: الجريدة المصورة، فيلم قصير، فيلم طويل هو المادة الرئيسية في العرض. وتعبر نفيسة عن التخوف من التأثيرات السلبية للسينما : ” قالت لي أمي مرة، أن الفتاة التي تتشبه بالعشاق، كما يظهرون في السينما، فتاة ساقطة خائبة الأمل..
وقد حلت السينما في الثلاثينيات محل سهرات المسرح في عماد الدين وروض الفرج، فلم يثبت أمامها إلا صالة بديعة مصابني، وبعض ملاهي اللهو الرخيص. ولان عماد الدين كان مشهورا بالمسارح ودور السينما، فقد أيقن رشدي عندما غادرت نوال وشقيقها الأصغر ترام الجيزة في محطة عماد الدين أنهما ذاهبان الى الى دار سينما، وصح يقينه ( من رواية خان الخليلي.نجيب محفوظ ) ..
بل أن الشاب قد يتعرف إلى فتاته للمرة الأولى في السينما، من خلال تلامس الأيدي عفوا في ظلام السينما ( ذراعان ). وربما إتفق الشاب والفتاة، بواسطة شخص ثالث على أن يلتقيا في دار سينما، بما يبدو كأنه مصادفة ليتعارفا، ويبثها في الظلام نجواه، ويحدثها عن مشاعره وأحلامه وتطلعاته. وفي معظم الأحيان، فإن أول تلاصق للجسدين يكون في ظلام السينما . تتعانق اليدان ، وتتلاحم الأصابع، وكانت ظلمة السينما داغعا أن يأخذ صابر الرحيمي راحة يد إلهام في يده فيلثمها، وإنشغل بمداعباته ليدها عن متابعة أحداث الفيلم . وعندما تصور الشيخ عبد الحميد نفسه في مكان منفرد مع فتاته، فقد كان ذلك المكان ” سينما الأهلي” بالسيدة زينب، فيبتاع تذكرتين، ويجلس الى جانبها ، يتظر الى الشاشة، ويده تحيط خصرها، ونظراته تتسلل الى فخذها العاري ( أحلام الشيخ ). وربما تتحول دار السينما إن كانت معروفة بنوعية أفلامها، وقلة روادها بالتالي إلى مكان للقاءات الخاصة جدا،وبالذات مقاعدها الخلفية، وسينما أوديون مثلا كانت متخصصة في عرض الأفلام الروسية، ولذلك لم يكن غريبا في دار سينما أوديون أن تتناهى أصوات الضحكات المكتومة وحفيف الثياب والهمسات العصبية. وقد يلودذ البعض بدار السينما لمجرد الفرار من صهد الطريق، يشغله فحسب نوع دار السينما، هل هي مكيفة الهواء أم لا، ويختار حفلة الساعة الثالثة بعد الظهر، فينام على مقعده، وقد يدخل المرء السينما وبخاصة سينما الشرق أو الأهلي في السيدة زينب لينام..
والسينما من الأمكنة التي يلوذ بها طلبة المدارس عندما يقومون بـ ” التزويغ ” أو ا”لهروب من المدرسة” لإرتياد حفلة العاشرة صباحا، كما كنا نفعل نحن الأطفال الأشقياء في حينا العريق ” قلعة الكبش ” حيث كنا نهرب من “مدرسة حسن باشا طاهر الإبتدائية ” في الحلمية، ونتوجه الى ممر تجاري في ميدان السيدة ملاصق لسينما الأهلي، وكان الممرمتصلا بساحة خارجية للسينما تقع بها دورة مياه، فكنا نتأكد أولا من غياب حارس الممر، ثم نتسلل واحدا بعد الآخر بسرعة ، ونتسلق السور، ونهبط الى تلك الساحة، ثم ندلف منها الى الباب الموصل بقاعة العرض، فنفتحه، و..نتسلل الى القاعة في الظلام، وليس اي ظلام..بالطبع ..
بل ظلام يبدو جماله – كما يحكي عنه إبن السيدة زينب أديبنا الكبير يحيى حقي، عندما يكتب عن علاقته بالسينما في صغره في كتابه الرائع ” في السينما. الكتابات النقدية 10 “، من ضمن سلسلة مؤلفات يحيى حقي اعداد ومراجعة فؤاد دوارة، و الصادر عن الهيئة العامة للكتاب 1988 –إذا شقه عمود من الضوء، ياحبيبي كأنه الروح في الجسد. وآه يافرحتي. أطبق الظلام، وضاعت مني الصالة والعالم كله، ولم يبق في إلا عينان مسمرتان على الشاشة “..
عن “الطاقة الروحانية ” بقوة الضوء التي تمنحنا لنا السينما
درويش من جماعة الحاج سيد محمد مرزبان الصوفية في حينا العريق ” قلعة الكبش” وأقطااب الحضرة النبوية، كانت له طريقة كما يقولون في ” النوم “، تشبه الى حد كبير إستدعاء صور الماضي في السينما عبر لقطات الفلاش باك الإسترجاعية..
الدراسات النفسانية الحديثة، عبر تجاربها على الإنسان والسلوك البشري عموما، تؤكد على أن إستدعاء النوم لدى معظم الناس، يتم عبر طريقة الشريط السينمائي، فعندما يطبق المرء على جفنيه، ويغمض عينيه، ويشرع في النوم، تدور ماكينة عرض داخل رأسه، ويبدأ شريط ما في العرض، ولدى كل إنسان خزانة من الشرائط السينمائية المحفوظة في علب، يختار إحدى هذه الشرائط عند النوم، وتبدأ الفرجة ..
يختار البعض شريطا يكونون فيه داخل حديقة، يتجولون فيها على راحتهم،ببطء شديد، يتأملون كل زهرة من الزهور على حدةن يدققون في شكل كل وردة، ينشدون مع سحب الصيف التي تحلق فوق الحديقة، يدندون مع عصافيرها، ويتفرجون فيها على الأسماك الملونة في بحيرة..
أحيانا تكون صور الشريط القصير بالألوان الطبيعية، وأحيانا تكون الصور باللونين الأسود والأبيض فقط، ولكل لون من الألوان دلالة معينة ..
تتلون السحب بألوان البحر وأمواجه. وتتلون الأرض بألوان الشجر.ويصبح الشريط الى الحلم والنوم أخضرا سندسيا. يصبح ذلك الطريق الصاعد الى الجبل، معبرا الى الصفاء والضياء ، وصفاء النفوس المتواضعة..
منذ زمن طويل وسحيق، اخترع الإنسان الشريط السينمائي، وكانت الصور المتحركة سبيله إلى إكتشاف العالم، وكما يكتشف المرء ذاته في المرآة، أصبح الإنسان يشكل عالمه بالصور. تعلم الإنسان أن يمسك بالأزميل،وأن يبدع..
أجل الصوفيون والقديسون ليسوا بحاجة – كما يقول الكاتب والفيلسوف الفرنسي من أصل أرمني سيوران – الى أعين. إنهم لا ينظرون الى العالم.
قلوبهم عيونهم.
بقلم
صلاح هاشم
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد ومخرج مصري مقيم في باريس.فرنسا.مؤسس ورئيس تحرير موقع ” سينما إيزيس”.تأسس عام 2005 في باريس