“عايزين نتعلم..”صرخة فيلم تسجيلي عن الجزيرة المنسية. بقلم كمال القاضي
في أقصر مده زمنية كانت الصرخة المدوية التي أطلقتها المخرجة الشابة أسماء المصري عبر فيلمها التسجيلي «عايزين نتعلم»، لتكون حجة على مسؤولي التربية والتعليم في مصر، والعاملين على محو أمية الكبار والصغار، الفيلم لا تتجاوز مدته الزمنية خمس دقائق، لكنه الأغنى بالتفاصيل الإنسانية، التي تحمل أكثر من عنوان لعشرات الصور التراجيدية، للأحلام الغائبة والآمال المفقودة لأهالي جزيرة العزبي، التابعة لمحافظة الدقهلية، حيث يعيش سكان الجزيرة ما بين الماء واليابسة، ينتظرون الإغاثة من أصحاب القرار، لعل شيئاً في حياتهم البائسة يتغير، بالقضاء على عتمة الأمية وإطلاق شُعلة التنوير.
يكتب السيناريست حلمي ياسين الفكرة والسيناريو والحوار، مُستلهماً الأجواء والصور والمفردات والأبعاد، من طبيعة المناخ ورقّة الناس الطيبين المنسيين داخل الجزيرة النائية، فتأتي اللغة السينمائية شجية ومؤلمة، رغم شاعريتها، إذ تركز الرسالة التي تعهدت المخرجة أسماء المصري بتوصيلها للمشاهد، على ما تتضمنه الصور الحياتية لأولئك العائشين على هامش الهامش، في جزيرة لا يربطها بالعالم الخارجي إلا حيوية سكانها وأنفاسهم المتصاعدة من صدورهم، لمقاومة الجهل والفناء، فكل شيء لديهم يعني المغامرة، الأكل والشرب والنوم والزواج والتعلم والضحك واللعب والتنزه، ليس هناك ما يحدث من أوجه التفاعل والتعايش إلا مصحوباً بالخطر.
الأعمار تمضي وتنقضي داخل الجزيرة البعيدة على متن القوارب الصغيرة التي تسهل لأصحابها مهمة الصيد ليحصلوا على قوت اليوم الواحد، بينما يتركون لليوم الثاني رزقه الجديد، بلا ضجر أو تذمر، بيد أن جُملة واحدة يرددونها باستمرار، وتلهج بها ألسنتهم هي الحمد لله، يقولونها بيقين المؤمنين الصابرين، فتنفرج الضائقة وتُفتح أبواب السماء لاستقبال دعائهم، فيظلون متمسكين بالرجاء بعدما يئسوا من خطاب الحكومات المتعاقبة عن التنمية المتلاحقة، والدخل المتزايد للفرد، بدون تحقيق شيء يُذكر على أرض الواقع.
لقد باتت كل آمالهم مُتعلقة بما يفيض به البحر من رزق، وما تأتي به شباك الصيد من قوت يسد الرمق، ويُسكت صراخ الأطفال، ويقوي الأمهات على القيام بأدوارهن إلى جانب أزواجهن. ليس وحدهم الرجال من يلبسون ملابس الصيد ويركبون البحر بحثاً عن ثرواته الغذائية، بل النساء والبنات يشاركونهم أيضاً في المهمة نفسها، فهن خبيرات بمواطن تجمع الأسماك في الجزيرة، ولديهن قوة الاحتمال والصبر، غير أن فئة منهن قد تمرست في قيادة القوارب بالمجاديف، وصرن محترفات في هذا الشأن، حتى الأطفال والصبية من الجنسين، تراكمت لديهم الخبرات فأصبحوا ماهرين في التغلب على صعوبات الحياة، فالفيلم يعرض في ثوان معدودات ما يدل على ذكاء النشء الجديد وقدراته المتوارثة على عبور الأزمات اليومية، حيث مشقة الذهاب والإياب من وإلى جزيرة العزبي، الموطن الأصلي ومحل الإقامة الجبرية.
ترسل المخرجة رسائلها التليغرافية البليغة للمعنيين بالأمر، في مشاهد كالومضة كأنها تضيء في عيونهم أشعة الخوف من المجهول، الذي يحيط مئات الأسر ويكتنف حياتهم، ففي صورة من الصور العابرة، تركز الكاميرا على طفلة تقطع مسافة داخل عمق البحيرة، وهي تترنح فوق الأمواج جالسة القرفصاء داخل وعاء من الألومنيوم الخفيف، تستعين به بديلاً عن القارب الذي لا تملكه، وتحرص كل الحرص على أن لا يصل إليه الماء فيغرق وتغرق معه، وهو ما يؤكد على المعنى المتضمن بالمشهد بأن الحياة في الجزيرة تقوم على شفا الموت، الذي لا يفرق بين كبير وصغير. وتظل أصوات الشخصيات الرئيسية المتمثلة في البنات والشباب والأطفال وأولياء الأمور، تتصاعد في ما يشبه الكورال للمطالبة بالالتحاق بالمدارس، وتحقيق حُلم التعليم النظامي لتأهيلهم للارتقاء إلى مراحل التعليم الثانوي والجامعي، أسوة بالمجتمعات المدنية الأخرى، وبينما يتسابق الأطفال على الظهور أمام كاميرات التصوير، لإعلان رغباتهم وتوصيل أصواتهم، يأتي صوت الأمهات مؤيداً فكرة تعليم الكبار، ومناشداً المسؤولين بتفعيلها بوصفها طوق النجاة ومفتاح الحياة، وعندئذ تكتمل رسالة الفيلم وتنزل تترات النهاية على مأساة الجزيرة المنسية!
كمال القاضي*
٭ كاتب من مصر
عن جريدة ” القدس ” 23 يونيو 2020