فيلليني يسافر الى مصر.صورة عن قرب بمناسبة الاحتفال بمرور 100 سنة على ميلاده في مهرجان القاهرة السينمائي 42 . بقلم صلاح هاشم
يسافر المخرج الإيطالي الساحر” فردريكو فيلليني ” الى مصر، في صحبة مجموعة من روائعه السينمائية ،التي دخلت تاريخ السينما من أوسع باب، في الفترة من 2 الى 10 ديسمبر، ويبعث هكذا من جديد، لأصحابه وأحبابه ” السينيفيليين” أي من عشاق السينما ، في بر مصر العامرة بالخلق والناس الطيبين، وكذلك رواد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الكثر، من كتاب ونقاد، وطلبة وصعاليك وفنانين وفضوليين وغيرهم..
حيت ينظم المهرجان خلال دورته42، في الفترة من 2 الى 10 ديسمبر، إحتفالية كبيرة ، للمخرج الايطالي المتوسطي العملاق، وأحد أعظم المخرجين السينمائيين في العالم، بمناسبة مرور مائة سنة على ميلاده..
ويعرض المهرجان خلالها نسخا مرممة ، لأربعة من أشهر أفلامه، هي؛ “ليالى كابيريا” من انتاج عام 1957 ، و”الحياة الحلوة” عام 1960، و”½ 8 ” عام 1963، و”أرواح جولييت” عام 1965.
تأثيرات فيلليني في مصر وفرنسا
كما يقيم المهرجان في دورته 42 بالتعاون مع المركز الثقافى الإيطالى، “معرض صور خاص ” لكواليس أفلام فيلليني، للمصور الإيطالى الكبير ميمو كاتارينيتش.
بالإضافة إلى عرض الفيلم التسجيلى “أرواح فيلليني” من إخراج سيلما ديلوليو وإنتاج مشترك – إيطاليا وفرنسا وبلجيكا- 2020، ويعد الفيلم محاولة جديدة للكشف عن بعض أسرار وكواليس أعمال فيللينى الخالدة، ومن ضمنها رائعته ” الحياة الحلوة ” التي كان لها تأثيراتها الكبيرة ،من وجهة نظرنا، على جيل كامل من الكتاب في مصر- “جيل الستينيات “– على مستوى الشكل والمضمون..
من خلال تعاملهم مع “الأساليب ” الفنية الحكائية السردية الحداثية التي ابتدعها فيلليني المخرج الايطالي المتوسطي العبقري، و”الشخصيات” التي خلقها و”الموضوعات” التي تطرق اليها في أفلامه..
ولم يكن غريبا أن يتأثر بعض كتاب ذلك الجيل الذي أطلق عليه الناقد الأدبي الكبير د غالي شكري” جيل الستينيات ” في مصر، بأعمال فيلليني، وبخاصة على مستوى ” حداثة ” القصة القصيرة المعاصرة، ونماذجها المتفردة والمتوهجة في تلك الفترة – التي كانت ربما ، من أخصب الفترات الثقافية التي مرت بها مصر في أجواء ” النكسة ” وهزيمة 67 ..
فقد تأثر بها أيضا جيل كامل من المخرجين السينمائيين في فرنسا، في أفلامهم، كما يذكر الناقد الفرنسي رينيه برادال في كتابه ” أساليب الاخراج السينمائي”، حيث شرعوا بعد مرور عشرين عاما على عرض فيلمه ” البيدوني” IL BIDONE اي” المحتال ” من انتاج 1955ي طرق ذات الموضوعات، وابتداع ذات الشخصيات ” الوجودية ” المشحونة بالملل والقلق والخوف من المستقبل ، التي صورها فيلليني في ذلك الفيلم،واقتبسوها في أفلامهم..
عندما يحكي فيلليني عن نفسه
في فيلم ” المقابلة ” INTERVISTA لفيلليني تظهر مع المشاهد الأولى قافلة سيارات تخترق شوارع مدينة روما ، ثم تصل الى مكان مسور، وتفتح لها الأبواب فتدخل. بعد قليل تضاء المصابيح الكهربائية الضخمة المرفوعة على حوامل عملاقة، فإذا بالمكان في الليل يتحول الى نهار ساطع الضوء.ماهي الحكاية بالضبط، ولماذا يصرخ هؤلاء الرجال في ميكروفونات خاصة، ويعطون الإشارات والتعليمات والإرشادات لتوجيه المصابيح..
الحكاية هي أن المايسترو – المعلم – فيلليني المخرج الايطالي العملاق – من مواليد20 يناير1920 في مدينة ريميني وتوفي في 31 اكتوبر 1993 ) قد تسلل في الظلام الى داخل التشيناتشيتي –CINECITTA مدينة السينما الايطالية وأكبر استوديوهات هذا الفن في أوروبا ليصور فيلمه الجديد.فيلليني يجلس في ركن مظلم ويعطي التعليمات لمساعده، وفجأة يتسلل فريق من العاملين في التليفزيون الياباني، ويضبطونه متلبسا بتصوير فيلمه في الخفاء..
” ماهذا ؟ ” يصرخ فيلليني. ” أيها السيد – ترد عليه بنت يابانية من الفريق- لاتناقش ، الكاميرا دائرة، ونحن نصور عنك فيلما للتليفزيون الياباني – ولاتنتظر البنت إجابة فيلليني أو موافقته، بل تنهال عليه بالأسئلة، ويكون أولها : كيف كانت علاقتك ولأول مرة بالسينما ؟، ويبدا الفيلم ( الانترفيستا ) أي المقابلة – بالعربية – وفيه يحكي فيلليني بنفسه عن ماهي السينما، كيف كانت وماذا أصبحت، ويتحدث فيه – أفضل من ألف كتاب- عن تصوراته الخاصةبهذا الفن، والفيلم الذي يخرجه، والمفروض أنه مأخوذ عن رواية” أمريكا ” للكاتب التشيكي فرانز كافكا.
فيلم ” المقابلة ” حصل على جائزة مهرجان ” كان ” الأربعين، كما حصل على جائزة أحسن فيلم في مهرجان موسكو لعام 1987، ويصور فيه فيلليني كيف تسلل كصحافي لأول مرة الى مدينة السينما في روما ليجري حوارا مع نجمة من أشهر الممثلات، فإذا به يقرر أن يكرس حياته لابداع هذه الشرائط من مادة السليولويد التي تحكي عن واقعنا وأحلامنا..
جمهورنا العربي مازال يتذكر روائع هذا المخرج الكبير ” المايسترو” فيلليني : فيلم ” لاسترادا – ” الطريق ” – بطولة أنطوني كوين و الممثلة الايطالية القديرة جولييتا ماسينا- زوجة فيلليني – وفيلم ” ساتيريكون ” وفيلم ” ثمانية ونص” وفيلم ” روما “، ثم رائعته ” الحياة الحلوة ” لادولشي فيتا الذي حصل على به على جائزة ” السعفة الذهبية ” في مهرجان ” كان “، وأعتبره النقاد إنجازا بل فاتحة للسينما المعاصرة الحديثة في العالم..
أفلام فيلليني مازالت تعرض في نوادي السينما في العالم، ويتهافت على رؤيتها المشاهدون، لما تتمتع به – وقد يبدو ذلك واضحا جليا في فيلمه الأثير ” أمار كورد- إني أتذكر ” بشكل خاص – من نكهة ” فيللينية ” يمتزج فيها حب الحياة الى حد الهوس والجنون، بمسحات من السخرية المريرة، والنقد اللاذع لجوانب عديدة في حياتنا المعاصرة..
لقطة من فيلم المقابلة يظهر فيها فيلليني مع نجمه المفضل مارشيلو ماستروياني
في فيلم ” المقابلة ” يحكي لنا فيلليني الذي أسره وكائناته البشرية . إنه عبارة عن ” رحلة ” في ذاكرة فيلليني يعود فيها الى ماضيه ثم نتوقف معه اثناءها على محطات في مسيرته السينمائية..
فن السينما – على حد قوله –هو شكل مقدس لرواية الحياة، ومنافسة “الأب الأكبر”، إذ لايوجد هناك فن آخر مثل السينما، يسمح لنا بأن نبدع عالما شبيها بهذا العالم الذي نعيش فيه، وعوالم أخرى مجهولة وتوازية ومركبة. المكان المثالي بالنسبة الي هو ستوديو 5 في مدينة السينما.هنا تنتاب المرء في رحاب الاستوديو، وقد خلا من البشر رعشة الإبداع الأولى، ويالها من متعة حقيقية خالصة. أن تجد نفسك في مواجهة هذا الفراغ الساكن الصامت، وعليك أن تحيل الصمت الى صخب، تملأ الفراغ ، وتشيد عالمك الفريد.
أنا لا أنتمي الى أسلوب محدد في الاخراج. أعشق كل الأساليب و”الأنواع ” السينمائية، وأحب عملي كمخرج قبل اي شييء آخر. أفكر في عملي أولا، ثم أفكر في علاقاتي بالآخرين، ومشاعري وأحاسيسي المتقلبة مع الفصول، وارتباطاتي الوقتية المتغيرة.
عملي في السينما هو الشييء الوحيد ” الأصيل ” في حياتي..إن أعلى درجات الحب وأشد اللحظات التي يعيشها المرء مشحونا بالتوتر، يؤديان الى نفس الشييء: لحظة غامضة من الوهم الخالد الأزلي، الوهم والأمل، الأمل في أن تشرق هذه اللحظة العظيمة في حياة المرء، فتظهر الإداع بأحرف من نار ، ويتحقق الوعد..
كل ذكرياتي سكبتها في أفلامي، وكل مافعلته أيضا في حياتي، ولم أكن أدرك أني لحظة عرض هذه الأفلام على الجمهور أمسح ذكرياتي، ويختلط علي الأمر، فلا أقدر أن أميز الفروق بين تلك الذكريات التي عشتها حقا، وتلك الذكريات التي اخترعتها في افلامي.
يرد فيلليني في ” المقابلة” على أسئلة فريق التليفزيون الياباني وينتقل معهم الى موطنه الأصلي، التشيناتشيتي، مدينة السينما الايطالية، ليكشف لنا كيف تصنع كل هذه الأفلام من الخشب والكرتون والورق المقوى.إنها السينما، هذا الواقع على الشاشة ، ليس في الحقيقة إلا ديكورات من كرتون وخشب..
لكن أي سحر في هذا الفن الذي يجعلنامن خلال عملية كيميائية فنية بحتة، نفضل هذا الواقع المتخيل على الشاشة ، أكثر من واقعنا الحقيقي..؟
هذا هو ” السر ” الذي لايبوح لنا به فيلليني في ” المقابلة “. نري في الفيلم فقط ” الأدوات ” التي تعينه على إبداع هذه الأعمال السينمائية العظيمة التي ينفخ فيها من روحه وحبه وخياله، ماضيه وحاضره وطفولته وذكرياته، وبكل اختراعات وإبتكارات الفن المدهشة، ولانشبع ابدا من فنها وسحرها في أفلامه ..
وفي فيلم ” المقابلة ” نلتقي أيضا، إضافة الى فيلليني بطل الفيلم ومخرجه، بأبطال أفلامه. نلتقي بالإيطالي مارشيلو ماستروياني – بطله المفضل – والسويدية انيتا اكبرج التي شاركت ماستروياني بطولة فيلم ” الحياة الحلوة “..
فيلم ” المقابلة” كما يقول فيلليني في الفيلم، ليس فيلما بالمعتى المعتاد .انه جولة في كهوف على بابا السحرية – فن السينما –في صحبة مخرج فنان من اعظم المخرجين في العالم وهي لاتخلو كما في معظم أفلام فيلليني من متعة حقيقية.ليس هناك وربما في معظم أفلام فيلليني وبخاصة بعد فيلم ” الطريق لاسترادا” قصة بالمعنى المالوف.انه مجرد ” ثرثرة” فيلمية أو ثرثرة حول هذا الفن لكنها تحمل تصريحا واحدا يبلور ” الخطر الأكبر ” الذي يواجه هذا الفن.خطر التليفزيون الشاشة الصغيرة الوباء..
يهطل المطر فجأة في المشهد الأخير من ” المقابلة ” فيهرع العاملون في الفيلم من فنيين وممثلين الى الاحتماء من المطر من المطر تحت خيمة من البلاستيك ويسود صمت ..
عند الفجر يلمح أحدهم أسلحة الهنود الحمر المشرعة في الفضاء وهي حراب على شكل هوائيات تليفزيونية، والهنود الممثلون يستعدون للهبوط والهجوم على الخيمة وسكانها من فوق قمة التل في مدينة السينما..
هوائيات أجهزة التليفزيون التي أصبحت تشق فضاء المدن هي – كما يري فيلليني-هي الوحش الذي سوف يفترس هذا الفن الجميل، ويبقى السؤال معلقا: والسينما..كيف ستواجه هذا التنين الخرافي الذي ينفث النار، ويسعى الى ابتلاعها..؟.وهنا ينتهي فيلم فيلليني ” المقابلة ” لكن يظل السؤال الذي طرحه فيلليني في فيلمه الذي حققه منذ أكثر من أربعين عاما مضت،يظل معلقا يبحث عن إجابة..
فيلليني يحب ويكره
يحب ماتيس وأفلام الإخوان ماركس وجيمس بوند
فيلليني ماذا يحب و ماذا يكره ؟.ذكر فيلليني في إجابة على سؤال ماذا يحب وماذا يكره لمجلة فرنسية، أنه يحب طبعا ويكره مثل بقية البشر.
يحب مثلا : محطات القطارات الكبرى،والنمور، ولوحات الفنان الفرنسي ماتيس، ويحب المطارات والأخوان ماركس في السينما .
يحب إنتظار حسناء لاتحترم المواعيد.، ويحب أن يسمع عن مكان لم تتح له زيارته.
يحب هوميروس جد الحكواتية شاعر اليونان العظيم وصاحب ملحمتي ” الأوديسة ” و ” الإلياذة “، كما يحب ثمار الكرز والجيلاتي ورائحة الأرض المبللة بالمطر.
يحب القطارات، وكل أنواع الكلاب ،والكنائس المنعزلة التي لايتطرق اليها بشر.
يحب رنين الأجراس ومدينة البندقية ويحب من الأدباء ديكنز وكافكا وجاك لندن.
يحب ركوب الاتوبيس، وأن يستقيظ من فراشه ثم يعود للنوم من جديد، ويحب المترو والشوكلاته المرة، والليل والأرواح والمسرح ولوريل وهاردي.
ويكره فيلليني أيضا مثل بقية البشر
يكره مثلا : الحفلات والمقابلات الصحفية والتوقيع في دفاتر المعجبين من الجمهور.
ويكره الوقوف في الطوابير، والجبال، والسفر والإذاعة والموسيقى التي تعزف داخل المطاعم، كما يكره النكات السخيفة ومشجعي كرة القدم المتعصبين وإحتفالات أعياد الميلاد
ويكره فيلليني أن يسمع الناس تتحدث عن بريخت مرة تلو أخرى، كما يكره الخطب والدعوات والمآدب الرسمية وأن يسأله أحدهم رأيه في أي شييء.
يكره فيلليني حفلات العرض الأولى في المسارح والممثل همفري بوجارت وصلصة الكاتش آب- عصير الطماطم، كما يكره الأسئلة والأفلام التاريخية والالتزام في الفن.
صلاح هاشم
صلاح هاشم كاتب وناقد سينمائي مقيم في باريس.فرنسا.مؤسس ورئيس تحرير موقع ” سينما إيزيس” في باريس عام 2005 الذي يعني بفكر السينما المعاصرة وفنون الصورة
—