فيلم ” ريش ” يهز المهرجانات.قراءة ومحاولة للفهم. بقلم يوحنا دانيال
يواصل فلم ريش للمخرج عمر الزهيري تحقيق النجاحات والجوائز في المهرجانات السينمائية المختلفة مثل كان والجونة .. وكان آخرها في مهرجان قرطاج العريق في تونس، حيث فاز بأربع جوائز كبيرة من بينها جائزتي أفضل فلم وأفضل ممثلة للبطلة دميانة نصار. بالطبع هذا الفلم تسبقه سمعته من مهرجان الى آخر، ولذا يفوز بسهولة بالجوائز والاعجاب من النقّاد والمختصين ..
المخرج المصري عمر الزهيري
لكن بما انه فلم روائي، فإنه ينتظر اختبارا في دور العرض السينمائي، من خلال إقبال الناس على مشاهدته، والحكم على التجربة السينمائية المختلفة الجديدة. إذ أن الفوز بالجوائز لا يعني بالضرورة نجاحا جماهيريا أو قبولا بين المشاهدين، الذين تربّوا على تقاليد سينمائية تقليدية معروفة، لكي ترضي هذه الجماهير، وتكسب أموالهم في شباك التذاكر. لكن هذا الفلم ليس هكذا، بل أبعد ما يمكن عن تقاليد السينما المصرية المعتادة. إذ يبدو للمشاهد كفلم فقير، مصنوع بامكانيات متواضعة، بعيدا عن ستوديوهات الصوت، بحوار قليل، ببطلة صامتة، من الناس العاديين، وممثلين لا علاقة مسبقة لهم بعالم التمثيل، أما الحكاية فإنها فانتازية وغرائبية جدا، لكن في أجواء فقيرة وواقعية بامتياز. لذا يمكن اعتبار الفلم منذ التخطيط حتى التنفيذ، مغامرة سينمائية متماسكة الأركان، متناسقة في أركانها المختلفة. وهذا الذي جعل اعضاء لجان التحكيم منبهرين بهذه المغامرة السينمائية .. التي رغم الفنتازيا المحيرة التي تتضمنها، والتي يعرفها جميع من سمع بالفلم، فإن الفلم لن يخرج أبدا من شروط الواقع والواقعية السينمائية. وهذا يوصل الفلم الى نهايته المحتومة والمنطقية، ورغم أن النهاية لا تشبع المشاهد تماما، الا انها تؤدي إلى تغيير كبير في شخصية البطلة الصامتة الصابرة كل شيء، فتصبح انسانة جديدة تماما. وربما هذه هي الرسالة النهائية في الفلم التي على المشاهدين الانتباه لها، بدل التوقف كثيرا عند الجانب الفنتازي ..
الأم بطلة الفيلم
وبهذا المعنى فإن الفلم فيمنستي أو نسوي، يعزز دور المرأة وحضورها في المجتمع. وهذا يحصل في الواقع والحياة مع البطلة دميانة الصعيدية، التي تصبح فجأة نجمة المهرجانات، وضيفة متكررة على برامج التوك شو. ولا يمكن فصل البطلة دميانة (أم ماريو) والممثلين الآخرين عن البيئة التي تدور فيها احداث الفلم، ولا عن الإخراج والتصوير وباقي العناصر الفنية والتقنية، مما يجعل الفلم تجربة مختلفة ينغمس فيها المشاهد في عالم يبدو له كأنه غير موجود واقعيا، لأن الفلم لا يشير بوضوح الى موقع الأحداث أو زمنها، الا من خلال إشارات بسيطة ومن خلال الكلام بالطبع. وكان بالإمكان حتى الاستغناء عن الكلام وجعل الفلم صامتا كليا، لكن الكلام كان مهما كي نشاهد ان البطلة صامتة ومستكينة طوال معظم وقت الفلم. فلم ريش تمكن من إيصال رسالته الفنية والإنسانية بسهولة إلى المشاهدين في مهرجان كان وقرطاج، لكن في مهرجان الجونة ورغم فوزه بجائزة الفلم العربي، فقد واجه اعتراضات من بعض ممثلي وممثلات السينما المصرية، ونظروا اليه للأسف كأنه تشويه لسمعة مصر، ومتاجرة بآلام الفقراء. أمر لم يكن في الحسبان أبدا، وربما يساهم في أبعاد الجمهور عن مشاهدة الفلم عند عرضه في دور العرض السينمائي. كما تعرض للنقد السلبي بين بعض نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي، لكن الفلم أصبح لاحقا موضع تنازع بين بعض التيارات السياسية، المعارضة والموالية للنظام. ومن وجهة نظر النقد “الثقافي” .. فان الطريقة التي عامل بها الإعلام المرئي بطلة الفلم دميانة او ام ماريو .. كشفت عن سطحية بعض هؤلاء الاعلاميات، واستصغارهم لهذه السيدة من خلال ملاحظات واسئلة غير لائقة. إحداهن في مهرجان الجونة تقول لها ان المخرج قد فتح لك “باب رزق” جديد .. عشان تحسّني عيشتك. وللأسف ان هذه الإعلامية المعروفة جدا، والتي كانت زوجة لواحد من أهم الممثلين في مصر .. لا تدرك معنى أو قيمة ان يكون الإنسان بطلا لفلم .. فلم نال جائزة مهمة في أهم مهرجان سينمائي عالمي .. البطولة السينمائية يا هانم، تعني مزيد من الكرامة والرفعة للإنسان .. تعني مزيد من المكانة والتأثير الاجتماعي .. السينما مش دكانة أو بوتيك يسترزق منها الانسان. وعلى القنوات التلفزيونية كانت الأسئلة الموجهة لها ساذجة ايضا، وتستصغر عقل هذه السيدة. ويبدو أن هناك بالفعل فجوة ثقافية بين القاهرة والصعيد. وبالمقابل هناك تطرفا لا مبرر له في الدفاع أو الهجوم على الفلم بين النقاد وناشطي وسائل التواصل الاجتماعي .. وكأن الأمر هو مجرد تصفية حسابات ايديولوجية غير مبنية على تحليل موضوعي للفلم نفسه. وشخصيا لا اعترض على خروج فنانين من العرض أو انتقاد بعضهم للفلم علنا .. بل اعتبره شجاعة أدبية خصوصا انهم جميعا كانوا يعلمون أن الفلم سيفوز بجائزة الجونة الكبرى للفلم العربي. وعلينا أن نقبل وتشجع ثقافة الاختلاف في القضايا الثقافية والفنية، بدل التهييج والتسييس التي يلجأ إليها بعض النقّاد والأكاديميين. لكن من الضروري أيضا الانتباه إلى إنجاز هذا المخرج الشاب عمر الزهيري .. الذي يعيد اسم مصر والسينما المصرية .. الى عالم الجوائز والمهرجانات بعد غياب طويل.
يوحنا دانيال
يوحنا دانيال ناقد سينمائي عراقي مقيم في السويد