فيلم ” عمر” لهاني أبو اسعد أو كيف صورت السينما ” الحرب والمقاومة”، فلسطين نموذجا. بقلم صلاح هاشم
يعتبرفيلم ” عمر “، في رأيي، من أنضح الافلام الفلسطينية ، التي اخرجها المخرج الفلسطيني الكبير هاني أبو أسعد، صاحب فيلمي ” عرس رنا ” و ” الجنة الآن ” ،بل ربما كان أنضج افلامه سينمائيا على الاطلاق، لأنه فيلم سياسي، يحكي عن شباب في فلسطين مع الحب والمقاومة، ويمنح المقاومة شرعيتها، في وطن محتل، ويتمير بـ ” حس إنساني ” نبيل..
يحكي الفيلم عن ” عمر ” ، وهو شاب فلسطيني يعمل خبازا، غير ان جدار العار الذي شيدته الحكومات الاسرائيلية الصهيونية المتعاقبة ، صار يحول بينه وبين رؤية ولقاء حبيبته نادية، التي تعيش في الطرف الآخر من فلسطين ، وعليه عمر، ان أراد زيارتها،أن يسافر بالطائرة ، لكي يصل الى منزلها، ويلتقى بأخيها طارق صديقه،غير أن عمر يحتال لرؤية حبيبته، فيجدل حبلا ويتسلق “جدار العار” الى الطرف الآخر من الحياة والحب والعشق، ويعرض نفسه هكذا للموت، ورصاصات جنود حراسة السور،ثم يقبض عليه ذات مرةويقف عقابا له على حجر، في لهيب الشمس الحارقة..
ونتعرف على ابطال الفيلم الثلاثة،في المشهد الافتتاحي، نتعرف على أصدقاء عمر، وهم طارق شقيق نادية حبيبته، وأمجد الذي يلعب يلعب على العود ويطلب منه في المشهد الافتتاحي ،اذا أراد ان يتحصل على قهوته، أن يقلد مارلون براندو والطريقة التي يتكلم بها ، في فيلم ” العرّاب أو الأب الروحي ” للامريكي فرانسيس فورد كوبولا..
أما طارق، الصديق الثالث لعمر، فهو انضج الثلاثة سياسيا،وهو مناضل يحرضهم على الكفاح، ومقاومة الاحتلال..
ويتدرب الثلاثة على اطلاق الرصاص، من بندقية بميكروسكوب، ويقوم عمر بسرقة سيارة ،ويقوم طارق بسرقة بندقية ،وعند مواجهة جنود حراسة جدار العار ليلا في عملية هجومية، يطلب طارق من أمجد أن يقوم باطلاق نيران بنقيته، فيردي أحد جنود حراسة السور قتيلا، ويسرع الثلاثة بالهرب ..
فيلم ” عمر ” يمنح المقاومة في ظل الإحتلال شرعيتها
غير أن الجنود يتعقبون عمر، ويقبضون عليه ويودع الحبس ، ومن هنا يبدأ الجزء الثاني من الفيلم ، فنرى عملية تعذيب عمرعاريا، وإجباره بكافة الوسائل على الاعتراف، والادلاء بشخصية القاتل..
ونشاهد ضمن عملية التعذيب، حرق اعضاء عمر التناسلية، بولاعة سجائر، غير مخرجنا هاني أبو أسعد من فلسطين،لايتوقف طويلا عند هذه اللقطة المرعبة التي كنا شاهدناها من قبل في فيلم مكسيكي، بدا لنا، كما لوكان مؤسسا بكامله وكليته الفنية ، على لقطة مماثلة، لقطة مؤلمة ودموية ومرعبة تقشعر لها الأبدان.حيث يقوم أحد أفراد عصابة، بالقاء البنزين على الاعضاء التناسلية للضحية بطل الفيلم، ثم يشعل فيها بولاعته النار، في مشهد من أفظع المشاهد الدموية التي عرضت ولحد الآن في السينما المعاصرة..
آليات تجنيد الفلسطينين داخل سجون الإحتلال
وعودة الى فيلم عمر، يلتقي عمرفي السجن ،بشيخ ذو لحية، يحرضه على عدم الاعتراف بأي شيي، لأي مخلوق من السجناء ، او الثقة في اي انسان في السجن، ولا يجب أن يخدع ، اذا حكي له أحدهم أسراره، ليكسب ثقته، ويجعله يعترف في مابعد عن شخصية الجاني أو الفاعل الذي قتل الجندي..
وفي المشهد التالي ،نكتشف ان ذاك الشيخ إياه ، لم يكن سوى أحد رجال المخابرات الاسرائيلية،وهومكلف بتجنيد المناضلين الفلسطيننيين في السجون، واقناعهم بالعمل، لحساب جهاز المخابرات ،والاشتغال كعملاء لاسرائيل في فلسطين المحتلة..
ويتعهد ضابط المخابرات ذاك، باطلاق سراح عمر، ان دلّه على مكان طارق، غير ان عمر يتساءل : لكن ، ومن أين عرف الضابط الاسرائيلي بأن طارق قد شارك في عملية الهجوم ، على جنود حراسة جدار العار؟..
ويتوصل بعد تفكير الى قناعة ، أنه لايمكن ان يكون الا أحد الثلاثة ،عمر وأمجد وطارق، الذين شاركوا في العملية بالطبع..
ويخرج عمر من السجن، بعد ان قطع وعدا بتسليم صديقه طارق وشقيق حبيبته نادية الى المخابرات، ولمعرفة من هو ذلك “الخائن” ، الذي أفشي للمخابرات الاسرائلية سرهم ..
وتتعقد القصة تدريجيا، وتصبح بعد انقضاء مشاهد لقاءات الحبيبين، عمر ونادية في الجزء الأول، أكثر تعقيدا ، إذ تتشابك خيوطها بشكل صاعد متوتر، كما في نوع الافلام البوليسية، وتنحو نحو التشويق،لاكتشاف الحقيقة، فيست هناك حقيقة واحدة،ويجب اكتشافها، بل عدة حقائق، معقدة ومتداخلة..
وعمليات توجيه MANIPULATIONS وتحريك بما يخدم مصالح المخابرات وهى تتلاعب بعقول الفلسطينيين، ويخرج طارق من الحبس، ويتهم بالخيانة، وهو لابد ان يدفع الثمن،ويحاول طارق ،ان يغتسل من عار الخيانة بأي شكل – فاذا كان اطلق سراحه بهذه السرعة، فلابد أنه قد خان، وباع القضية- وعليه أن يكتشف الخائن الحقيقي..
وتتوالي الأحداث في الفيلم، لتكشف عن ثلاث حقائق أساسية، تبدو لنا ولغيرنا جلية،بسبب ظروف القهر والاحتلال التي يعيشها الشعب الفلسطيني :
أولا- قسوة ظروف العزل،والنفى القسري، وتقسيم الفلسطيين، من خلال ذلك الجدار الذي شيد ، تقسيمهم أكثر،وتشتيتهم أقسىى، ووضعهم تحت ذل وقهرالرقابة.. وثانيا – يكشف الفيلم عن حقيقة “الطبيعة السيكولوجية” النفسانية الشاملة للشعب الفلسطيني، الذي يعيش تحت الاحتلال، جيث يحاصر ويعذب ويقتل ويهان ، وعن مناخات التخويف والتخوين، التي تستخدمها إسرائيل، للتلاعب تحت ظروف الاحتلال ،بمصير الشعب الفلسطيني، وتسفير الفلسطينيين من العملاء الى نيوزيلندا، كمكافأة لهم، على خيانتهم لأهاليهم ووطنهم، ولأصحاب القضية،،
ولايمكن تباعا، وفي ظل في أجواء كهذه ،أن تنتهى قصص الحب على خير، كما في بعض أفلامنا الساذجة، ويتزوج عمر من نادية، ياحلاوة، ويسافران معا لقضاء شهر عسل في الموزامبيق، أو بلاد الواق الواق..
فنادية لم تخرج ، ولن تخرج ابدا للأسف،من ذلك الزقاق الضيق، الذي حشرت فيه قسرا مع أهلها، وتقول نادية في الفيلم انها قد زارت الخليل فقط، وتحلم بقضاء شهر عسل في باريس..
ومن خلال سيناريو الفيلم، يطرح المخرج الفلسطيني الكبير هاني أبو أسعد، العديد من النكات، التي تعكس أجواء الانهزامية والمرارة، التي يستشعرها الفلسطينيون تحت الاحتلال،وهناك نكتة رمزية موحية، عن طريقة “صيد القرود في افريقيا” تفضح بين ثناياها، الطريقة التي تتعامل بها المخابرات الاسرائيلية ،مع افراد الشعب الفلسطيني ،تحت ظروف الاحتلال، ومن ضمنها نكتة، عن تحرير القدس، ثم مضاجعة نساء العدو، التي تقال لشيخ مسن، فيكون رده ، إن اذهبوا أولا لتحرير القدس، ثم تعالوا بعد تحريرها، وضاجعوا زوجتي
ليس هناك وطن آخر أفضل من فلسطين
وهناك في الفيلم ” كمين “، لتي تتكرر كثيرا، و” حفر ” للفلسطينيين، من صنع المخابرات، وقد يعتقد بعض الفلسطينيين، انهم اشطر واكثر ذكاء من جنود المخابرات الاسرائيلية ، لكنهم اذا بهم يكتشفون، انهم سقطوا في الكمين او الحفرة التي ارادوا حفرها للعدو الاسرائلي، الذي يتجسس عليهم وعلى أسرارهم، ويتلاعب بالعقول الفلسطينية المتعبة المنهكة الضعيفة ..
وهناك ايضا في الفيلم، عمليات تدجين و” تجنيد ” مستمرة ،من قبل المخابرات الإسرائيلية، لأن الاجواء والظروف النفسانية للفلسطينيين تحت الإحتلال، تساعد على ذلك..
المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد
فيلم ” عمر ” لهاني أبو أسعد، فيلم فلسطيني قوي، وجد شاعري ومؤثر، بفضل قصته وحبكته، وتشريحه لنفسية الشباب الفلسطيني المقاوم، الذي يتعرض لأبشع عمليات “التغريب”عن وطنه، تاريخه وذاكرته،وهو يعطي لهذه المقاومة ” شرعيتها ” واستمراريتها،رغم كل ظروف الاحتلال والتعذيب والقهرالمستمرة، في الأرض المحتلة، والتي لم تنته بعد، بعدما وصلت الى عملية “إبادة جماعية”، و”جرائم حرب” فاشية مروعة، في قطاع غزة، مازالت ترتكبها إسرائيل، على مرأى ومسمع من العالم.كما يتسامق ذلك الفيلم ” الانساني “، بتصويره الجميل، وإنسيابيية أحداثه، من دون إستعراض عضلات إخراجية،أومبالغات ميلودرامية بكائية عاطفية..
“عمر ” فيلم واقعي، جد “متوازن ” من أفلام الشخصيات CHARACTER MOVIE إن صح التعبير، ويقدم ولحد الآن في رأينا، أفضل معالجة سينمائية للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، من دون خطب ولاشعارات، ويمضي الفيلم الى هدفه، من دون ان نشعر بملل أو تطويل ، وينتهى الفيلم بـ ” عمر” الذي يثأر لنفسه من ضابط المخابرات. ذلك الضابط، الذي جعله يعيش طويلا في الوهم، وكان لابد أن يدفع الثمن في النهاية. كما يحذر الفيلم من ذلك الوهم ، وهنا تكمن القيمة الأساسية في الفيلم ، لكن عن أي ” وهم ” يتحدث ؟
وهم أن تكون هناك فلسطين اخرى أفضل، في مكان آخر غير فلسطين، في سيناء مثلا، فهذه أكذوبة،من صنع اسرائيل، لتهجير الفلسطينين قسرا خارج بلادهم، لتصفية القضية- ولن تسمح به مصرابدا – وضرب الفلسطيني بالفلسطيني في الفيلم، عملا بسياسة “فرق تسد”..
وهو ماينبه اليه فيلم “عمر”- من إنتاج2013- كاشفا من خلال تطور أحداث الفيلم عن ” آلياته “، كما يتألق الفيلم بمجموعة من المواهب الفلسطينية الجديدة الرائعة، التي تمنح الفيلم واقعيته، وشاعريته، ومصداقيته : الممثل آدم بكري، في دور عمر، والممثلة ليم لبنى، في دور نادية، والممثل سامر بشارة ،في دور أمجد، وسوف تقوم على أكتاف هؤلاء الممثلين الجدد، من الشباب الرائع لاشك ، سينما فلسطين الغد الوليدة، ولاعجب أن يفوز الفيلم، بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة ” نظرة خاصة ” في مهرجان ” كان 2013 . كما يحسب ايضالمخرجه ، إعتماده على فلسطينيين ،في كل طاقم الفيلم الفني ،من مدير تصوير ومونتير ومساعدين الخ، شاركوا جميعا في نجاح الفيلم، ومازلت أتذكر تلك اللحظات الجميلة التي عشتها عند عرض الفيلم في مهرجان ” كان “عندما وقف الجمهورلفترة طويلة، في نهاية العرض، ليصفق لذلك الإبداع الفلسطيني المتوهج – STANDING OVATION – في ساحة الفن..
بقلم
صلاح هاشم
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد ومخرج مصري مقيم في باريس.فرنسا
***
عن جريدة ” القاهرة ” – العدد 1220 الصادر بتاريخ 5 ديسمبر 2023