في هجاء الفكر المنعزل بقلم نبيل عبد الفتاح

الفكر العربى الراهن يبدو بعيدا عن حركة الفكر العالمى، وتطوراته الكبرى، وتزداد الفجوات بين الإنتاج العلمى والمعرفى السائد، وبين الدراسات، والبحوث التى يتم إنتاجها داخل الجماعات الأكاديمية والبحثية فى شمال العالم، وآسيا الناهضة حول الصين، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، والهند، وماليزيا، واليابان، وفيتنام. من هنا تبدو مقاربات حالة العالم علميا، ونظريا، وفلسفيا وسوسيولوجيا بعيدة عن الجماعات البحثية والأكاديمية العربية، والاستثناءات محدودة.
من هنا لاتزال مقارباتنا للظواهر والمشكلات داخل كل بلد عربى، تقليدية، وتعيد إنتاج منظورات ومفاهيم، ومصطلحات تم تجاوز غالبها فى المدارس العلمية المختلفة فى عالمنا، والاستثناءات محدودة عربيا! هناك فجوات أخرى بين الإنتاج النظرى والتطبيقى العربى السائد، وبين الواقع الموضوعى فى كل مجتمع عربى، خاصة للقيود السلطوية المفروضة على الإنتاج العلمى، وعلى الدراسات الميدانية، وغياب حريات الرأى والتعبير والبحث، والضوابط المفروضة على الحريات الأكاديمية. من هنا لايزال الفكر العربى أسيرا لنزعة ماضوية تقليدية، سواء فى المقاربات النقلية اللاتاريخية التى ترتكز على بعض الأيديولوجيات الوضعية حول الدين، أو ضعف مستويات البحث الاجتماعى، والفلسفى، وعدم الدقة فى توظيف الآلة النظرية والاصطلاحية المستعارة من المتون النظرية والفلسفية، والسوسيولوجية الغربية، التى تم تجاوز بعضها فى الدرس الأكاديمى العالمى.
من هنا يتجلى الانفصال بين البحوث النظرية عن الواقع الموضوعى المتعدد وخصوصياته فى عالمنا العربى، وبين مشكلات الواقع المتفاقمة. الانفصال عن حركة تطور الفكر العالمى -فى مصادره وتعددياته المختلفة- أدت إلى جمود الإنتاج العلمى والمعرفى، ومن ثم بات رهنا لدوائره وقضاياها شبه المغلقة، ويبدو بعيدا عن زمن العالم فائق السرعة، وأيضا عن زمن المجتمع وتحولاته التى تتم بعيدا عن عيون البحث السوسيولوجى، والسياسى، والقانونى، والفلسفى فى الواقع الموضوعى. من هنا نستطيع القول إن هذا الفكر بات سلفيا يعتمد على بعض متونه التى تغيرت، وتم تجاوزها فى مصادر إنتاجها الغربى أساسا، وفى ذات الوقت يعيد تدوير الأفكار والتنظيرات التى سادت قبل، وما بعد الكولونيالية، او فى سياق تاريخى ارتبط بالدولة الوطنية ما بعد الاستقلال، حتى عقد الستينيات من القرن الماضى. الأخطر أن مشكلات الواقع. الموضوعى فى كل بلد عربى، باتت رهينة نظرات سلفية شبه حداثية، لا تزال تدور فى ثنائيات ضدية لم تعد صالحة لمواجهة مشكلات التحديث والحداثة المبتسرة والمبتورة فى تطبيقاتها عربيا، ومشكلات العلاقة الضدية بين النقل والعقل، بين المقدس، وبين الوضعى المتغير!. الأخطر سيادة نظرة كسولة لمشكلات عالمنا فائق السرعة، والتطور، وأثرها على الحياة فى المجتمعات العربية من خلال هيمنة المنظورات الموروثة من ماضى الفكر العربى، منذ نهاية القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، وبعضها يمتد إلى ما بعد هزيمة يونيو 1967، ونهاية الحرب الباردة وسقوط حائط برلين، ومعه الإمبراطورية الفلسفية والسياسية الماركسية، والسوفيتية.
من هنا لا تزال مقاربة مشكلاتنا وأزماتنا رهينة فكر أصبح جزءا من الماضى، ومن ثم يبدو التطور فى الفكر العربى محدودا، واستثنائيا من بعض المفكرين، بينما الجماعات الثقافية العربية فى عمومها لا تزال أسيرة مقارباتها الماضوية فى تناول مشكلات الواقع التاريخى الموضوعى المتغير. لا شك فى أن المقاربات التحليلية البسيطة فى مجملها انساقت وراء المشاعر الفياضة المحمولة على التفكير الرغائبى الأيديولوجى لا تحليل الواقع الموضوعى، وعلى مستوى الممارسة السياسية، حدث انكشاف لمستويات الجماعات الإسلامية السياسية، وافتقارها للمعرفة والخبرات السياسية الحديثة، وثقافة الدولة وإدارتها والسياسات العالمية المتغيرة رغم رأسمالها التنظيمى الصارم، وقدراتها التنظيمية فى ظل فكر سياسى دينى مؤدلج، وخارج تطورات تاريخ مجتمعات عالمنا العربى، وزمن العالم المتغير. هذه النزعة فى المقاربات السلفية الدينية، والمدنية والعلمانية هى التى سيطرت على الفكر العربى، ومدارسه على اختلافها، وظلت جميعها فى حالة عزلة وانفصال عن تحولات المجتمع فى أعماقه، وتطورات عالمنا السياسية، والفكرية، والتقنية، وظلوا جميعا أسرى بعض متون مراجعهم الفكرية التاريخية، وتحول جميعهم إلى دعاة ومبشرين لمتونهم التاريخية التأويلية الوضعية، دونما نظر إلى واقع تحولات العالم، ومجتمعاتهم، فى ظل غياب الحرية العقلية والسياسية، ورفض الآخر والاختلاف الفكرى والتعايش معه. ظل غالب هؤلاء أسرى المقاربات التاريخية الماضوية فى النظر إلى مشكلات قديمة، وجديدة متغيرة، دونما تجديد وانما إعادة انتاج وتدوير مجموعة من الأفكار، والنظرات الموروثة التى تفسر كل شىء ولا تفسر شيئاً، وهو ما رأيناه ولا نزال منذ ما قبل الاستقلال، وما بعده فى ظل الدولة الوطنية التى لا تزال غير قادرة على توطيد دعائمها فى ظل موت السياسة، واستخدام آليات العنف والخوف، فى فرض سيطرتها على حركة الجموع الغفيرة، وتفاقم أزماتها، ومشكلاتها الكبرى فى بناء الموحدات الوطنية، واستمرارية الانقسامات بين المكونات الأساسية داخل غالب هذه المجتمعات.
من هنا يبدو غالب الفكر العربى. والاستثناءات قليلة من المشرق للمغرب العربى ماضوى، وتراثى، وتغيب عنه إلا قليلا مقاربة الحاضر، والأخطر المستقبل ومؤشراته فى الواقع الموضوعى المتحول، وتبدو شحيحة، ونادرة فى الفكر المسيطر على العقل العربى، ويعود ذلك إلى عدم المتابعة، وانقطاع البعثات العلمية إلى جامعات العالم الأكثر تطورا، وسيطرة مفاهيم الحداثة المبتورة على العقل المسيطر، وقلة حاولت مقاربة ما بعد الحداثة وقلة قليلة جدا، دخلت إلى مجال البحث فى عالم المابعديات، والسيولة. الأخطر هذا الغياب شبه الكامل عن عالم الثورة الصناعية الرابعة، وعالم الأناسة الروبوتية، والذكاء الاصطناعى، حيث كان الغياب مسيطرا إلا لقلة قليلة تتابع تطورات عالمنا. الأخطر أن المجتمعات لا تزال لم تحقق مهام التحديث والحداثة.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح باحث و مفكر مصري ومستشار مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية
***
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ 6 يوليو 2023 لمختارات سينما إيزيس