قراءة في فيلم ” حكايات الغياب “لصلاح هاشم عن الروائي الكبير محمد ناجي، ومشروعه لمصر. بقلم أيمن الحكيم
محمد ناجى ( 1947 – 2014 ) هو بشهادة المنصفين من النقاد أكثر الروائيين موهبة فى أجيال ما بعد نجيب محفوظ ولكنه أقلهم حظا … رصيده 8 روايات فقط ، من (خافيه قمر) التى نشرها فى العام 1994 وصولا إلى ( قيس ونيللى ) روايته الأخيرة التى نشرت قبل رحيله بشهور ، وبينهما ( لحن الصباح ، مقامات عربية ، الأفندى ، العايقة بنت الزين ، رجل أبله .. امرأة تافهة ، ليلة سفر ) وهو إنتاج قليل العدد ولكنه كبير القيمة . هل قرر الزمان أخيرا أن يعتذر لمحمد ناجى بعد خمس سنوات من رحيله ؟
محمد ناجى من كبار الموهوبين الدارويش ، ولم يسع إلى ناقد أو جائزة ، مع أنه كان جديرا بالاهتمام والجوائز .. ولم يسع إلى شهرة مع أنه كان الأحق بها من أنصاف الموهوبين الذين يملأون حياتنا ضجيجا بلا طحن .
بل واستكثرت عليه الحياة قصة حبه ( الأسطورية ) مع زميلته بالجامعة والتى كللت بالزواج وبإنجاب ولد وبنت ، كانت الزوجة ابنه لطبقة ارستقراطية رأت أن الزيجة غير متكافئة اجتماعيا ، فقررت أن تستعيد ابنتها بأى طريقة من هذا الفقير القادم من أرياف الدلتا لا يملك إلا موهبته وحلمه !
ثم كانت مأساته ( الاغريقية ) فى محنته مع المرض اللعين ، والذى بدأ فيروس C ، دخل جسده على سبيل الخطأ فى عملية نقل دم ، واستوطن كبده وأصابه بتليف كامل استدعى زرع كبد جديد ، وبلغت التراجيديا ذروتها عندما فشل وزير الثقافة فى استصدار قرار علاج له على نفقة الدولة ، وحدثت ضجة وقتها احتجاجا وغضبا ، وخلال شهرين نشر 150 مقالا بأقلام أكبر الكتاب تطالب بسرعة سفر ناجى للعلاج ، ولما نجحت عملية زرع الكبد فى باريس .. مات فى فترة النقاهة !
ومن سمنود حيث جذور عائلته إلى باريس حيث ودع الحياة تمتد رحلة طويلة عريضة ، إنسانيا وإبداعيا ، شق فيها محمد ناجى اسمه فى الصخر ، ونجح بلا ضجيج ولا دعاية أن يكون رقما صعبا فى الرواية المصرية .. فى ربع القرن الأخير على الأقل .
بعد سنوات التجاهل الطويلة يعود محمد ناجى إلى النور ، حيث ضمته قائمة المكرمين فى الدورة الخمسين لمعرض القاهرة الدولى للكتاب ، حيث تقام له ندوة يعرض فيها الفيلم الوثاقى ( حكايات الغياب ) لصديق عمره الناقد والمخرج السينمائى المصرى صلاح هاشم ..
والمدهش أن تكريم ناجى فى المعرض جاء مصادفة ، فعندما عرفت الروائية القديرة سلوى بكر من صلاح هاشم فى زيارته الأخيرة للقاهرة أنه انتهى من مونتاج فيلم عن محمد ناجى ذهبت إلى مكتب د. هيثم الحاج رئيس الهيئة العامة للكتاب والمشرف على تنظيم المعرض ، وبجدها الخاص نجحت فى إدراج ندوة لتكريم محمد ناجى فى اللحظات الأخيرة .
فيلم ” حكايات الغياب ” ووصف مصر من تاني
وصلاح هاشم ناقد ومبدع يقيم فى باريس منذ سنوات طويلة ، وفيلمه عن ناجى هو فيلمه الوثاقى رقم 6 ضمن مشروع شخصى طموح لحفظ الذاكرة المصرية وتوثيق تاريخها ، ربما كان أبرزها فيلمه ( البحث عن رفاعه ) الذى قدم فيه رؤية جديدة لسيرة واحد من أكبر رواد التنوير فى مصر الحديثة .. الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى .
أما فيلمه الجديد عن محمد ناجى فله ملابسات مثيرة لعبت فيها المصادفة دورا مهما فى أن يجلس ناجى أمام عدسته ليحكى حكايته فى نحو خمس ساعات .. يحكى لى صلاح هاشم التفاصيل بحماس وبذاكرة متقدة لم تسقط منها التفاصيل : ” تعرفت على ناجى منذ سنوات دراستنا فى جامعة القاهرة التى التحقتنا بها عام 1962 ، كنا زملاء فى كلية الآداب ، هو فى قسم الصحافة وأنا فى قسم اللغة الانجليزية .. جمعتنا الموهبة الأدبية وجمعية ( آمون ) التى ضمت فى عضويتها وندواتها مجموعة من ألمع مثقفى الستينيات منهم أهداف سويف وزين العابدين فؤاد وأسامة الغزولى وعبد العظيم الوردانى ، وكان محمد ناجى هو ألمع شعراء الجامعة فى جيلنا ، وكنت مفتونا بشعره المعجون بلغة صوفية رمزية وأردده عنه فى المنتديات ، وكنت مفتونا بالقصة القصيرة وكتبت قصصا مهمة نشرتها فى ملحق جريدة (المساء) وكان يشرف عليه حينها رجل يدين له جيلى بفضل كبير .. عبدالفتاح الجمل عليه كل الرحمات والتحيات .
” تخرجنا فى الجامعة وجراح نكسة يونيو مازالت طرية وقلوبنا تنزف ألما ، ودخل ناجى ليؤدى الواجب الوطنى سنه 1969 ليشارك فى حرب الاستنزاف وليظل فى الخنادق وعلى خطوط النار حتى ربيع العام 1974 بعد أن وضعت الحرب أوزارها ..وفرقت بيننا الظروف، وهاجرت أنا إلى باريس ، وسافر هو إلى شطآن الخليج ليعمل فى صحافته ، وفى زيارة لى لمصر بعد سنوات التقينا وتعانقنا وتجددت الذكريات ، ولأنه اعتاد منذ سنواتنا بالجامعة أن يقدم لى قصائده الجديدة لأقول له رأيى وملاحظاتى ، فقد فوجئت به يعطينى مخطوطة روايته الأولى ( خافية قمر ) فإذا بى أمام روائى فذ .. ومع توالى رواياته صنع ناجى لنفسه عالما مسحورا متفردا فى لغته وشخوصه وأحداثه .
” وبعد محنة مرضه جاء ناجى ليتلقى علاجه فى باريس ، وبحكم إقامتى الطويلة فى العاصمة الفرنسية ومعرفتى بها أصبحت مرشده ومرافقة ، كنا لا نفترق طوال فترة إقامته ، وخلال تلك الفترة قفزات إلى ذهنى تسجيل قصة وتجربة ناجى الطويلة والثرية مع الحياة ، وجلس أمام الكاميرا يحكى ، وكأنه كان يشعر أنها شهادته الأخيرة فقد حكى كل شئ ، وأصبح عندى كنز مدته خمس ساعات متصلة ، اكتشفت عندما راجعتنا أنها ليست شهادة ناجى الشخصية .. بل شهادة على عصر .. شهادة على جيل متفرد فى إنجازاته ونكساته.. واستعنت بمن يزيد تلك الشهادة عمقا وأبعادا جديدة ، فسجلت مع ثلاثة يعرفون ناجى عن قرب : أحمد الخميسى .. نبيل عبدالفتاح .. ومحمود عبدالشكور ..وشاركنى الحماس للتجربة صديقى وشريك تجاربى السينمائية المصور والمونتير اللبنانى سامى لمع ، وتولى إنتاج الفيلم ، واستغرق مونتاجه فترة طويلة ، إذ كانت مهمتنا غاية فى الصعوبة أن نستبقى من كل ما صورناه 74 دقيقة فقط هى كل زمن الفيلم “.
ويتيح لى صلاح هاشم فرصة ذهبية لأشاهد ( حكايات الغياب ) معه ، ويطل محمد ناجى بصوته وصورته ، يحكى بطريقة روائى متمكن يعرف كيف يسرد حكاياته بصورة مشوقة تجعل حواسك كلها منتبهة له ..
يحكى كيف ولد غريبا بحكم عمل والده الذى اضطرته ظروفه لينقل محل إقامته إلى بلدة (أبو حماد) بمحافظة الشرقية ، وطوال عشر سنوات عاشها هناك كان يسمع حكايات أسرته عن موطنها الأصلى فى مدينة ( سمنود ) الواقعة على نيل الغربية ، وكان من مصادر فخار الأسرة أنها تنتمى بصلة قرابة ( من ناحية والدته ) لزعيم الأمة فى سنوات ما قبل ثورة يوليو مصطفى باشا النحاس ، ولما حانت اللحظة المرتقبة وعاد والده إلى سمنود إذا بالأسطورة التى رسخت فى عقل الطفل الصغير عن مسقط رأس أسرته تنهار فى لحظة ، فقد كان حال أسرته من الفقر وحال مدينته من البؤس ما جعله يبكى على ( أبو حماد ) ، ولم يصدق أنها هى التى كانت آخر عواصم مصر الفرعونية !
ويحكى عن النقلة الهائلة فى حياته عندما جاء ليلتحق بجامعة القاهرة ، وكيف طلب من سائق التاكسى أن يدور به دورتين حول أسوار الجامعة ليشاهد مبانيها الفارهة وقبتها المهيبة ويسمع دقات ساعتها التى طالما صافحت أذنيه من الراديو قبل نشرات الأخبار .
ويحكى عن فترة تجنيده فى القوات المسلحة المصرية فى تلك السنوات الفارقة من عمر الوطن بين النكسة والعبور ، وكيف داخله شعور بالملل من منظر الصحارى القابض لنفسه التى اعتادت على مناظر النيل والطبيعة الخلابة فى الدلتا ، وإذا به يكتشف أنه فى قلب كنز لا يدرك قيمته ، ففى تلك الخنادق التى يعيش فيها مع زملائه من الجنود هو على موعد مع مصر الحقيقة ، ونماذج مبهرة من البشر ، جاءوا من بيئات مختلفة ومستويات اجتماعية وتعليمية متباينة ، وكل واحد فيهم عالم متفرد من الدراما الإنسانية .. وبعيون الروائى راح يلقتط تلك النماذج ويخزنها فى وجدانه لتخرج بعد ذلك نماذج حية على صفحات رواياته وعوالمه المسحورة …
ويحكى عن محنة المرض وكيف تعايش معها رغم آلامها المبرحة : ” المحن دروس قاسية من الحياة والشاطر هو من يستوعبها ويستفيد بها ” .. هذا ما خرج به من محنته مع السرطان الذى نهش كبده .. ويتذكر أنه يوم دخوله غرفة العملات لإجراء جراحة شديدة الخطورة لم يجد ما يخفف عنه آلامه سوى أن يأتى بأوراقه وأقلامه ويندمج فى استكمال فصول روايته الأخيرة ( قيس ونيللى ) ، وعاش فيها منفصلا عن الدنيا وآلامها حتى جاءه ابنه ليصطحبه إلى مشارط الجراحين .. وبعدها لم يخفف عنه آلامه سوى أن يعود إلى أوراقه ويستأنف الكتابة ، ثم كانت رسالة الرحمة الإلهية التى ظهرت على جدران غرفته عندما شاهد هذا المخلوق الجميل الذى كانت أمه تستبشر به وتراه مبعوثا سماويا مهمته تخفيف آلام المرضى والحزانى .. رغم أنه لا يزيد على عقلة الأصبع والذى يسمونه فى الريف ( فرس النبى ) .. ويصيغ محمد ناجى تلك الجملة البليغة : ( ما بين الألم والألم عشت أجمل فترات حياتى ) .. وعن رحلته مع الألم كتب كتابه المدهش ( يوميات الغياب ) ، ومن عنوانه استوحى صلاح هاشم اسم فيلمه ( حكايات الغياب ) .
وربما يكون أخطر وأهم ما فى ( حكايات الغياب ) هو ذلك المشروع الذى يقترحه ناجى وكأنه وصيته الأخيرة لمصر .. إنه يحلم بمشروع جديد لوصف مصر يعيد ما فعله علماء الحملة الفرنسية .. وفكرته ببساطة هى استغلال طلبة الجامعات الإقليمية وأغلبهم ينتمون إلى القرى المصرية فى جمع وتوثيق التراث الشعبى المصرى .. كل واحد منهم يكتب ما يعرفه عن قريته : أساطيرها الشعبية ، أغانيها فى أفراحها ومناسباتها ، عائلاتها وحكاياتها .. والمحصلة النهائية بعد التنقيح والتدقيق والغربلة هى أننا أمام توثيق جديدة للذاكرة المصرية الشعبية يحفظها من الضياع ويصونها لأجيال قادمة ، ويمكن أن يكون مادة ثرية للمبديعن …
كان محمد ناجى يتحدث عن مشروعه بحماس ويراه المنقذ اللهوية المصرية التى تتعرض لضربات موجعة ومؤامرات لا تنتهى ….
أسرار خاصة
ومع نزول تترات الفيلم يقول لى صلاح هاشم بأسى وتأثر واضح : مصر ظلمت محمد ناجى ولم تعرف قدره كمبدع حتى الآن .. ولا أعرف سببا مقنعا لعزوف السينما عن تحويل رواياته إلى أفلام .. أذكر أنه جاءنى مرة ليخبرنى أن الفنانة الكبيرة ماجدة اتصلت به لتشترى حقوق إحدى رواياته ولا أعرف لماذا لم يتم الاتفاق .. وأعرف أن السيناريست الكبير وحيد حامد اشترى منذ سنوات حقوق رواية ( قيس ونيللى ) لتحويلها إلى فيلم ، ولا أعرف متى سيبدأ فى تنفيذه .. ما أعرفه أن روايات محمد ناجى أكثر قيمة ومتعة من تلك الأفلام البائسة التى أفسدت ذوق الناس فى الفترة الأخيرة .. “
وأسأل صلاح هاشم أخيرا عن الأسرار التى احتفظ بها لنفسه عن ناجى ولم تظهر فى (حكايات الغياب) .. وبعد أن يشعل سيجارته يرد : فى أيامه معى فى باريس كنا نقطع شوارعها سيرا على الأقدام ولا نتوقف عن الحكى .. فضفض ناجى بالكثير عن حياته الشخصية .. بينها حكايات أحتفظ بها لنفسى .. لكن ما أستطيع أن أذكره أن ناجى فى فترة خلافاته مع عائلة زوجته والتى وصلت إلى المحاكم رفض أن يستعين بمحام ووقف أمام القضاه يقوم بدور المحامى فى قضيته .. كان شخصية ذات حضور إنسانى ملفت .. وأتمنى أن يكون فيلمنا عنه بداية رد اعتبار لصاحب ( خافية قمر ) ..
أيمن الحكيم
عن مجلة الإذاعة والتليفزيون