قراءة في كتاب ” جاز وأفلام ” لصلاح هاشم .بقلم د.سمية عزام
ترى الروائيّة الأمريكيّة توني موريسون أنّ أميركا ستدخل التاريخ بثلاثة أشياء، هي الدستور الأميركي ولعبة البيسبول وموسيقى الجاز. وأنّ الجاز هديّة الزنوج الذين اختطفوا من أفريقيا إلى العالم الجديد حيث استعبدوا؛ وتاليًا هو هدية أميركا للعالم. يورد صلاح هاشم هذا الاقتباس في كتاب يحمل عنوان “جاز وأفلام” سينما السود..المقاومة بأنغام الجاز، من إصدارات مهرجان الإسماعيليّة السينمائي الدولي للأفلام التسجيليّة والقصيرة 2019 (الدورة 21).
ويبدو أنّ هذه المطبوعة إضاءة على أبرز ما جاء في كتاب «موسيقى الجاز» لصلاح هاشم، مع عنوانه الجزئي: نشأة وتطوّر موسيقى السود في أميركا (إصدار “مركز الحضارة العربيّة”). يوضّح صاحب الكتاب سرّ اهتمامه بموسيقى الجاز، تاريخًا، وذاكرة، وإسهامًا في ما تضيفه إلى ثقافة القرن العشرين، وصولًا إلى تأسيسه مهرجان «جاز وأفلام» (2015)؛ ذلك أنّ هذه الموسيقى تعود في جذورها إلى موطنه مصر. فهي أمريكيّة النشأة إفريقيّة الجذور.
تحكي فصول المنجز بعناوينها الخمسة، عن تاريخ الجاز وحضوره في مصر، وفي السينما العالميّة. ويرى أنّ ثمة علاقة بين الجاز والإسلام، أفارقة وأميركيين وعرب، من خلال اعتناق بعض العازفين دين الإسلام، أبرزهم دولار باند من جنوب أفريقيا، وقد غيّر اسمه إلى عبد الله إبراهيم المناضل بموسيقاه، وقد سعى من أجل تحرير نيلسون مانديلا. وبرز في مصر اسم يحيى خليل الذي مزج الموسيقى الشرقيّة بالجاز، مؤسّسًا فرقة موسيقيّة عام 1979 ، وواضعًا مؤلفات موسيقيّة، مثل «حكاوي القهاوي»، و«دنيا»، و«يعيش أهل بلدي».
حضرت، بدايةً، موسيقى الجاز بوصفها شريط صوت مصاحب للفيلم، في عروض السينما الصامتة في الربع الأول من القرن العشرين. إنما مع ظهور السينما الناطقة أخرج آلان كروسلاند فيلم «مغني الجاز» عام 1927، كما استعان المخرج الفرنسي لوي مال بمؤلف الجاز الأميركي مايلز ديفيز – مؤسّس تيّار «كول جاز»/ الجاز الهادئ – ذلك لشريط الصوت الموسيقي لفيلم «مصعد إلى المقصلة» (إنتاج 1958) وقد حصلت موسيقى الفيلم على جائزة أفضل أسطوانة موسيقية تمنحها أكاديميّة شارل كروس في فرنسا
. ويتوقّف الكاتب عند فيلم «أنا أسود» (1958) التوثيقي لمخرجه الفرنسي جان روش الذي يمزج بين الواقعي/التسجيلي والتخييلي/الروائي في فيلمه، مفتتحًا عهدًا جديدًا في تاريخ الأفلام التوثيقيّة. كما يُعدّ مؤسّسًا للإنثروبولوجيا البصريّة. يصوّر في فيلمه بؤس حياة جماعة من المهاجرين من نيجيريا للبحث عن عمل في ساحل العاج؛ حيث يسكنون في الجيتوهات على هامش العاصمة أبيدجان. وقد عرض في مهرجان جاز وأفلام في دورته الثالثة (2017). ويعقّب هاشم بأنّ الرجل الإفريقي غدا ذاتًا/ فاعلًا لأوّل مرّة في السينما، بعد أن كان موضوعًا، في الفيلم الذي ترافق بعض مشاهده الموسيقى الأفريقية بما هي أصل موسيقى الجاز. وظهر فيلم «بيرد» Bird ( 1988) لمخرجه كلينت إيستوود، ليصوّر حياة أحد عمالقة موسيقى الجاز تشارلي باركر(1920-1955). أمّا عن صورة الزنجي في الوعي الجمعي الأميركي، فتبدو متأرجحة بين تهميش ومناصرة لقضاياه، وبين عنصريّة واستنارة في المواقف. وقبل أن يسوق أمثلة عن أفلام ضمن تيّار السينما الزنجيّة – من صنع الزنوج وللزنوج- يصدّر أحد الفصول بقول الناشط السياسي وعالم الاجتماع وليام ديبوا DU BOIS ( 1868-1963) وهو أميركي من أصول إفريقيّة: «إنّه لشعور غريب هذا الوعي المزدوج بأن ينظر الإنسان دائمًا إلى ذاته من خلال عيون الآخرين.. الواحد منا يشعر بأنه أميركي وأنّه زنجي. مثالان متحاربان داخل جسد أسمر واحد؛ لا يحفظه من التمزّق سوى قوّته العنيدة».
ففي أواخر الستينيّات ظهرت «السينما الزنجيّة» بحسب تعبير الكاتب، والتي تطرح قضايا هذه الشريحة وواقعها في أميركا. نحو «افعل ما هو صواب» (Do the right thing)/ 1989، للمخرج سبايك لي. جاء تطوّر موسيقى الجاز السريع نسبيًّا خلال المئة سنة الأخيرة، لقدرتها على استيعاب تعبيرات موسيقيّة أخرى وهضمها؛ إذ تأثّرت بموسيقى الشوارع، ونداءات الباعة والمارشات العسكريّة الشعبيّة، وصيحات العمل التي ابتدعها عمّال الحقول، وعروض المنستريل، وأغاني البلوز الحزينة والمفعمة بالحنين إلى الديار، وموسيقى الراغ- تايم، فضلًا عن التراتيل الدينيّة الروحيّة.
إذ يذكر المؤرّخ الموسيقي جيمس لينكولن كولييه في كتابه «صناعة الجاز»، أنّ الإنسان الإفريقي حين اقتيد قسرًا إلى أميركا، كان يحمل أسماله البالية وما اختزنته ذاكرته من تقاليد وأساليب في صنع الأشياء. استطاع أن يطوّع موسيقاه وفق ظروفه المستجدّة في مزارع التبغ والقطن.
الكاتب والناقد صلاح هاشم مؤلف كتاب ” جاز وأفلام “
كما يشير الناقد السينمائي المصري المكرّم في مهرجان «جمعيّة الفيلم» للسينما المصريّة في دورته 46-2020، إلى ظاهرة انتشار نوادي – أو مقاهي- عشّاق الجاز في مختلف أنحاء العالم. وهو يتميّز بعنصر «السوينج» أي الهزّ والرّقص. ويصفه المؤلّف بأنّه موسيقى الروح. ويشبّه الجاز بالشجرة التي تفرّعت عنها أشكال موسيقيّة أخرى مثل الروك والصول ميوزيك والراب. وبما أنّه فنّ الارتجال ويتميّز بحرية الإضافة، فهو يستوعب أشكالًا فلوكلوريّة شرقيّة ولاتينيّة. ويضرب أمثلة على محاولات الدمج الموسيقي الناجحة لدى كلّ من زياد الرحباني وربيع أبو خليل (لبنان)، وأنور إبراهيم (تونس)، ويحيى خليل (مصر).
يؤكّد هاشم أنّ موسيقى الجاز لغة تَخاطُب ومشاركة عالميّة؛ ولا غرو إن وجدها جان بول سارتر ذات قدرة على تطهير النفوس من الغثيان والملل الناجم عن حضارة الاستهلاك. ولعلّه يتّكئ على ما جاء في رواية الفيلسوف الفرنسي «الغثيان»؛ إذ يصف الراوي المتكلّم فيها موسيقى الجاز التي تصدح من الفونوغراف بأنها أنغام لعشرات الآلات من الانتفاضات الصغيرة. نظام صارم يولّدها ويهدمها من غير أن يترك لها وقتًا تستدرك فيه نفسها.. الموسيقى تخترق هذه الأشكال المبهمة وتمرّ عبرها.. فما أقواها ضرورة! ويتابع الراوي بوحه إذ حين ارتفع الصوت في السكون أحسّ بجسمه يقسو، وتلاشى الغثيان. بدأ يدفأ وشعر بنفسه سعيدًا.. كان زمن الموسيقى يتمدّد وينتفخ كالإعصار، وكان يملأ القاعة بشفافيته المعدنيّة، فيما هو يسحق على الجدران زمننا البائس. بهذا الاقتباس يتأكّد – مع هاشم وسارتر- أنّ الجاز، طفل أفريقيا اليتيم، بما هو أسلوب في العزف مفتوح على الإضافات الموسيقيّة من أذواق ثقافيّة مختلفة للشعوب، ليس مقاومة بالنغم للتعبير عن الوجود فحسب، بل هو فلسفة حياة، وعنصر تواصل، وموقف.
د.سمية عزام
د.سمية عزام