قصة الفنان اليوناني الكبير ” الجريكو” في فيلم. بقلم د. أحلام فكري
مهرجانات السينما العالمية، ليست في اعتقادي أعيادا للسينمائيين فقط، ولكنها أيضًا إحتفالات للفنانين التشكيليين
ولايعود هذا فحسب، إلى أن فن السينما ينطوى على شكل من أشكال الفن التشكيلى ، متمثلًا فى الصورة السينمائية، والضوء والظل والديكور والإكسسوارات وغير ذلك من عوامل، تدخل فى باب الفنون المرئية، وإنما يعود أيضًا إلى أن بعض الأعمال السينمائية، تتخذ من الفنانين التشكيليين أبطالًا لها، ولم يكن مهرجان القاهرة السينمائى الدولى منذ نشأته استثناء من ذلك، بل كان للفن التشكيلى نصيب لا بأس به فى دوراته السابقة، وعلى سبيل المثال شهدت الدورات الأخيرة بداية من الدورة التاسعة والعشرين وحتى الدورة الثالثة والثلاثين مثلا، اهتمام بعض الدول والمنتجين والمخرجين أيضًا ،بصناعة أفلام تتخذ من الفنان التشكيلى محورًا رئيسيًا فى العمل الدرامى .
فمثلا في الدورة التاسعة والعشرين عرضت اليابان فيلم “أدان” إنتاج 2005 ويحكى قصة فنان تشكيلى يعيش مع أخته، ويصور مدى معاناته فى عرض أعماله وتحقيق حلمه ليصبح فنانا مشهورا ، وفى نفس الدورة تم عرض الفيلم الإيطالى “بونتورمو”وهو انتاج إيطالى 2004 والذى يتناول علاقة الفنان بالموديل الخرساء الذى قطع لسانها أثناء الحروب الهولندية وتصبح الفتاة مصدر إلهام له، وتتهم أنها ساحرة وتطالب محاكم التفتيش الكاثوليكية بحرقها ويستخدم هذا الفنان نفوذه من أجل إنقاذها
فيلم ” الجريكو “
وفى مهرجان القاهرة السينمائي الدولي32 لعام 2008 تم عرض ثلاثة أفلام تتناول سيرة حياة ثلاثة فنانين تشكيليين هم اليونانى “الجريكو” ، الإيطالى ” كارافاجيو “، الفرنسية “سرافين” ..ونبدأ بالجريكو أو “دومانيكوس ثوتوكولبولس ــــ Domenicos theotoko poulos “، قام بإخراج الفيلم المخرج اليونانى “ينيس سمازا جديس ـــ Yannis Samza Gdis” وهو من مواليد جزيرة كريت ، وقام بكتابة الفيلم سيناريست يونانى وكاتبة إنجليزية وهو إنتاج أوروبى (أسبانيا – اليونان – المجر)
لقطة من فيلم ” الجريكو “
وقد فاز الممثل اليونانى خوان ديجو بوتو بجائزة أفضل ممثل عن دوره فى هذا الفيلم ، وقد قاموا بتحضير هذا الفيلم فى عشرسنوات وتم عرضه فى 140 دار عرض سينمائية فى أنحاء العالم وشاهده فى اليونان فقط أكثر من مليون مشاهد ، وشاهدته ملكة أسبانيا فى عرض خاص باللغة الأسبانية وسألت المخرج لماذ إختياره للرسام ا” الجريكو” ؟ فرد قائلاً : ” إن منزله يبعد عن منزل الجريكو مسافة حوالى 300 متر فى نفس الجزيرة “كريت ” ، وأنه قد سبح فى نفس البحر الذى سبح فيه، وتنفس من نفس الهواء الذى تنفسه ،وسار تحت السحاب الذى يحجب الشمس عنه ،ونفس الشوارع والطرقات التى سار فيها أيضًا ، وكان حلم حياته أن يخرج له هذا الفيلم، الذى يسجل مرحلة تاريخية هامة فى الحضارة اليونانية ، وقد إعتمد هو وكاتب الفيلم، على مستندات حقيقية فى حياة الفنان ،ولم يلتزم بالسيناريو إلتزامًا حرفيًا ، لأن الفن من وجهة نظره يعتمد على الخيال .
وسألت المخرج أيضًا عن تلك اللوحات التى شاهدتها فى الفيلم ،هل كانت لوحات حقيقية، أم مطبوعة بطريقة الأوفست ؟
فكانت إجابته انها نسخ حقيقية مرسومة بيد ثلاثة فنانين يونانيين معروفين فى اليونان، ورسمت بنفس المقاسات الأصلية، وهى نموذج مطابق للأصل ، وسوف نقيم لها متحفًا خصيصًا لهذه الأعمال فى كريت، وقد تنهد المخرج فى سعادة قائلًا الآن أستطيع أموت وأنا مطمئن لأن حلمى قد تحقق .
وتدور أحداث الفيلم الناطق باللغة الإنجليزية في خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادىين، ويبدأ الفيلم بأسلوب السرد ،حيث يحكى البطل الجريكو قصة حياته، منذ شب فى مسقط راسه كريت التى كانت فى تلك الفترة واقعة تحت حكم البندقية، وهناك تعرف على الفن البيزنطى الذى آثاره كانت لاتزال قائمة ، وعندما رحل إلى البندقية بعد عام 1560 تعلم فن عصر النهضة الإيطالى من أساتذتها المصورين مثل “تيسيانو” ، “تتثورتو”
لوحة للجريكو
كما تعرف على فنون رافاييل ومايكل انجلو عندما ذهب إلى روما ،وشاهد بدء ظهور طراز النهضة فى وسط أوروبا ، وإذا كان الجريكو قد تشرب ملكة التعبير اللونى من فينسيا ،فإنه استمد من روما براعة التعبير بالشكل، وبعد أن استقر فى مدريد وأنجز بعض الأعمال، إتجه إلى طليطلة 1577، فعثر فيها على الجو الملائم لإبداعاته ، واتصلت الأسباب بين الجريكو وبين صفوة عصره من المفكرين والكتاب ورجال العلم ، إن أشخاص الجريكو فيها غرابة، وشئ من الضياع ،كأنها كائنات معلقة بين الحياة والموت ، وبين السماء والأرض، فلم يكن يعنيه تصوير السماء، وإنما كان معنيًا ، بأن يودع روحه وتأملاته فى ملامح الوجوه التى يرسمها، فكان لا يهتم بالتجسيد ، بقدر مايهتم بالتعبير عن العمق النفسى للشخصية، من خلال إستطالة الجسد الغريبة ، والنظرات الغارقة فى الحيرة ، واستخدام أقصى درجات اللون التعبيرية .
ومن المشاهد الرائعة فى الفيلم ،ذلك المشهد داخل أستوديو “تيسيانو” والذى كان يعج بالزائرين من إيطاليا ومن جميع أنحاء العالم .وتلك الأعداد الهائلة من الرسامين والموديلات، بأزيائهم المتنوعة وأوضاعهم المختلفة الشاقة، مابين الراقد والمستلقى والواقف والجالس والمعلق ، والعارى من نساء ورجال ، حتى الأطفال كانوا يجسدون بأجنحتهم أشكال الملائكة، وأحيانًا يعلقون ففى حبال تتدلى من السقف، فيجسدوا خيال الفنان ، كما يريد ، وهذه الإمكانيات الضخمة فى إستخدام الإضاءة الطبيعية والصناعية من زوايا متعددة ، وأيضًا من المشاهد الهامة فى الفيلم، التى تبرز روعة الحوار ،ذلك المشهد الذى دار داخل محاكم التفتيش بين الكاهن” جيفارا”، والرسام “الجريكو”
حيث دار ذلك الحوار الذى يعتبر محور الصراع الحقيقى فى الفيلم، بين النور والظلام ،وبين الخير والشر ، فقد سأله الكاهن، لماذا ترسم الناس كالقديسين ؟ فأجاب الجريكو، إن رسمها ساعدنى عن التعبير عن القوى الإلهية، فنحن نؤمن فى كريت، أن الحياة ترسلها الآلهة ..فأنا أحول الناس إلى قديسين، لتسير أرواحهم فى النور ..لأن النور قادر على هزيمة الموت .
فسأله الكاهن : هل رأيت الملائكة بتلك الأجنحة الكبيرة ؟
فقال : لا
الكاهن : ولكنك ترسمها، والناس سوف تعرف كيف تبدو الملائكة
فأجاب الجريكو : أليس الله هو الخالق الوحيد ..إننى أمنح العالم ألوانًا جديدة، وضوء جديد …فأمر الكاهن بحرقه، فقال الجريكو : ” إنك لا تستطيع أن تحرقنى، لأننى كنت أحترق طوال حياتى، فى النور ..إننى أرثى لك ياصديقى، فأنت لست مخطئًا عندما تخاف “.
أيمكن للظلمة أن تدين النور ..!!
ونفس الأشخاص الذين نادوا بإعدامه عند دخوله قاعة المحاكمة، هم أيضًا نفس الأشخاص الذين هتفوا أيضا بحياته ، يعيش الجريكو،عندما خرج للحرية والنور
د/أحلام فكرى
د. أحلام فكري فنانة تشكيلية مصرية