كيف صورت السينما ” الحرب ” في أفلامها، ضد ” منطق” الحرب، و” شريعة ” الغاب ؟ بقلم صلاح هاشم
صورت السينما العالمية ” الحرب ” في أفلامها، حتى صارت الحرب ، وبرور الوقت،موضوعا لنوع سينمائي، أطلق عليه أفلام الحروب – WAR FILMS– وصار هذا النوع – GENRE– ومنذ أول فيلم يصور الحرب في تاريخ السينما – التي نشأت كفن في الربع الأول من القرن العشرين – فيلم ” هجوم لتنفيذ مهمة حربية في الصين “للمخرج البريطاني جيمس ويليامزصن من إنتاج 1900، يضم مجموعة من روائع الأفلام،من ضمنها فيلم –FULL METAL JACKET – من إنتاج 1987، للمخرج الأمريكي العبقري ستانلي كوبريك، الذي سبق أن أتحفنا بـ”رائعتين” من هذا النوع، ونعني بهما فيلم دروب المجد ” LES SENTIERS DE LA GLOIRE “من إنتاج 1957،وفيلم ” دكتورفيلامور” من إنتاج 1963، فقد دأب ستانلى كوبريك ،على تناول مجموعة من القضايا شديدة الأهمية،المطروحة للبحث والنقاش على عصرنا، في كل فيلم من أفلامه، أوأغلبها، كما في فيلمه الملحمي العبقري ” أدوديسة الفضاء 2001 ” الذي يطرح فيه تساؤلا حول ما سوف يؤدى إليه هذا ” الكشف ” الفضائي مستقبلاً، ترى هل ستكون فيه سعادة للإنسان والبشر حقا، أم أنه سيوصلهم إلى طريق مسدود؟..
وفى معظم أفلامه،يركز ستانلي كوبريك، على التعارض والتناقض العظيمين،القائمين بين شيئين،بين السعادة التى يطمح الإنسان فى الوصول إليها، عن طريق الانجازات التقنية والاختراعات العلمية، وبين المشاعر البدائية الهمجية الدفينة، التى تسكن أعماقنا.ويتساءل كوبريك. ترى هل تنجح التكنولوجيا فى تهذيب هذه المشاعر ؟..هل يعتبر الإنسان بالتكنولوجيا ، أفضل منه بدونها ؟ أم أنها – على العكس من ذلك – ستمنحه التكنولوجيا، أدوات جديدة، للقتل والدمار، والنهب والسيطرة ؟.ما قيمة هذا الشيئ – التكنولوجيا – غدا، إن لم نتأمل أولاً ملياً هذا”الوحش” الذى يسكننا، وهو لا يكف مزمجراً عن الحركة بجنون، جيئة وذهابا ، داخل قفصنا الصدرى الضامر، قليل اللحم ، وماقيمة التكنولوجيا، ماقيمة التكنولوجيا والذكاء الإصطناعي، إذا لم نروض ذلك الوحش الذي يسكن داخلنا، ونتحكم فيه..
فى فيلمه الحربي – WAR FILM– البديع ( فول ميتال جاكيت ) ” FULL METAL JACKET ” أى الغطاء المعدنى الكامل – من إنتاج 1987، وهو الاسم الذى يطلقه الجيش الأميركى على رصاصة تخترق الجسم، من دون أن تنفجر داخله ، وتستعملها قواته، يناقش كوبريك في فيلمه ذاك ،الذي يعتبرأحد أفضل الأفلام التي صنعت عن الحروب – وسوف تلاحظ أن أغلبية أفلام هذا النوع،وثائقية كانت أم روائية، تتميز بثلاث ملامح أساسية: إنهاأولا من إنتاج أمريكي،ويمكن ثانية أن نضم الى نوعين، نوع “الفيلم السياسي”، ونوع “الفيلم التاريخي” في ذات الوقت، وأنها تجمع ثالثا بين ” الحركة “- ACTION– و” التأمل والتفكير”- REFLECTION في ذات الوقت – أوبالأحرى أعظمها قاطبة،يناقش قضية حرب فيتنام، بفيلم يتجاوزبفنه وبأسه،عظمته وصنعته، أفلاما جد مهمة – حربيا وتاريخيا وسياسيا – وكبيرة، مثل فيلم “بلاتون”لـ أوليفرستون ، وفيلم “القيامة الآن ” لفرانسيس فورد كوبولا، وفيلم ” صائد الغزلان ” لمايكل شيمينو، وغيرها..
منطق الحرب وشريعة الغاب
يقدم لنا كوبريك هنا فيلما جديدا ورائعا عن حرب فيتنام، لا وجود فيه لفيتنام هذه على الإطلاق، اللهم إلا لقطة واحدة، لطائرة عمودية، تعبر محلقة غابة ما، ولا نعرف أن كانت الغابة فيتنامية أو في فيتنام،ولايهم أبدا ذلك..
لأن كوبريك في فيلمه، يريد أن يكشف فى الأساس عن ” منطق الحرب “، والإنسان الذى تعده مصانع الجيش الأمريكي،وثكنات ومعسكرات التدريب، ليصبح قاتلا، قبل أن تزج به في الحرب. هذا الإنسان ،هو هؤلاء الجنودمن الشباب، الذين تسحق إنسانيتهم سحقا، فى الجزء الأول من الفيلم،وأثناء التدريبات التى يتلقونها، وهم يتعرضون لأبشع عمليات غسيل المخ، ويتعلمون خلالها من الضابط المكلف بالتدريب، وهو ينتزع منهم إنسانيتهم بالقمع والضرب والقهر والسب والقذف ،أن أمهاتهم لم تنجبهن – BORN TO KILL– إلا للقتل..
كلا ليست البندقية هى التى تقتل إذن، إنها كما يقول الضابط المكلف بالتدريب في المعسكرفي الفيلم، بل هي القلوب المتحجرة للجنود ،التي تقتل بالفعل، ومهمة التدريب إذن، تخريج دفعات من “القتلة ” من ذوى القلوب التى قدّت من صخر..
وفى النصف الثانى من الفيلم، يدفع بهؤلاء الجنود إلى ساحة المعركة فى فيتنام، فنكتشف ضياعهم كالغنم ، إذ يتبينون أن المواقع التى يحتلونها، لا وجود لها على الخريطة في حوزتهم، ، فيقررون الانتقال إلى الموقع الصحيح، لكن أى جهة يقصدون ؟. إلى الشرق أم الغرب، يتجهون شمالاً، ام جنوباً.؟.اللعنة.
فيلم “فول ميتال جاكيت” لكوبريك، هو فيلم كلاسيكى عن حرب كلاسيكية ، لا محل فيه للنمطية،أو التقليد، أوإستخدام صرعات و “أكروبات ” – شقلبات – بصرية جديدة تبهرنا ، لكي تضاف من جديد، إلى ما قدمته لنا بعض “أفلام الحروب ” الهوليوودية الإستعراضية في السينما العالمية من قبل، كما في فيلم ” أطول يوم في التاريخ ” بطولة جاري كوبر، لعلكم تتذكرون، الذي شاهدته في ” سينما إيزيس ” وأنا صغير، في حينا العريق السيدة زينب.
حرب أمريكا على فيتنام
وحسابات كوبريك الفنية في هذا الفيلم، هي حسابات “تاجر البندقية “اليهودي البخيل الذي لايتورع كما في مسرحية شكسبير – التي تحمل ذات الإسم – عن إسترداد أمواله المقترضة، بإقتطاع أجزاء من لحم صاحب الدين، ولا يهمه في سبيل إسترداد حقه، أن يسيل الدم، أو أن تزهق روح، ولامحل فيه للعواطف، والمشاعر الإنسانية..
فيلم كوبريك – FULL METAL JACKET – هو أشبه ما يكون بمعادلة رياضية، لا مكان فيها لـ “ربما”،أو حلول الوسط. فيلم مقطّر، من كل لحظة أو لقطة، فيها رائحة الإنسانية. فيلم على مسمى، يقتلنا كهذه الرصاصة الفول ميتال جاكيت التي تحمل إسم الفيلم، والتى ترديك صريعا ، من دون ألم،عبرهذه القصيدة الكوبريكية- إن صح التعبير – المكثفة، والخالية من جنس المحسنات البديعية، واللفظية، والغنائيات الفجة، والحشو الهوليوودي “الإستعراضي” الصاخب المعتاد كما في أفلام ” رامبو ” – بطولة سيلفستر ستالون – الحربية..
فيلم عن بشاعة الحرب الفيتنامية، التي خاضتها أمريكا وعبثيتها، وفي عبارة واحدة ينطقها أحد الجنود في الفيلم، يبلور ستانلى كوبريك منطق هذه الحرب، على لسان أحد الجنود، حين يقول.. ” والله ..لقد كنت أحلم منذ زمن طويل،بأن أسافر إلى الهند الصينية ، لؤلؤة قارة آسيا ، لكى التقى بأبناء هذه الحضارة القديمة، التى يمتد عمرها إلى آلاف السنين، وأقتلهم “..
فيلم كوبريك هو شهادة “إدانة” ضد شريعة الغاب،يصنعها كوبريك بفيلمه ،ليقول لنا إن حذار. إنتبهوا. فالديمقراطية الأولى فى هذا العالم – أمريكا – تصنع من مادة خام، مؤلفة من الشباب الأميركى، من بين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و20 ، قتلة و سفاحين وسفاكى دماء، عندما تمنحهم من خلال أبرزإختراعات تكنولوجيا الحروب،أدوات للقتل والدمار، فتيسر لهم العودة إلى بدائية السفك، وغابة الغرائز المتوحشة. وعندما يسأله فجأة أحدهم ، ماهي وظيفة السينما في رأيك يا سيد كوبريك بربك، فإذا به يجيب وهو يربت على كتف صاحب السؤال.وظيفتها ترويض ذلك ” الوحش “- MONSTRE– الهمجي البربري، الذي يسكن داخلنا..
بقلم
صلاح هاشم .باريس
صلاح هاشم كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في فرنسا.رئيس تحرير موقع ” سينما إيزيس ” الجديدة
***
عن جريدة ” القاهرة ” .العدد 1215 الصادر بتاريخ الثلاثاء 31 أكتوبر 2023