لماذا يتقدم الفيلم الوثائقي في فرنسا والعالم ويتخلف في بلادنا بقلم صلاح هاشم
لقطة من الفيلم الروسي” الرجل على الكاميرا” – أو المصور- لديغا فيرتوف. من الأفلام ” الضرورية ” التي عرضت في السينماتيك الفرنسي
لماذا تتقدم حركة السينما الوثائقية، أو “سينما الواقع ” في العالم، وتتأخر وتتراجع وتتخلف في بلادنا ؟..
تساؤل طرحته علي نفسي، وأنا اتابع أعمال تظاهرة إستعادية بعنوان :
“LES INDISPENSABLES DU DOCUMENTAIRES – (الأفلام الوثائقية الضرورية) عقدت حديثا في باريس- من تنظيم ” السينماتيك الفرنسي، بمناسبة الإحتفال بعام 2023، كـ “عام السينما الوثائقية” في فرنسا – عرضت أكثر من 25 فيلما وثائقيا ضروريا، من روائع الأفلام الوثائقية في فرنسا والعالم،لمجموعة من كبار المخرجين،من أمثال الفرنسية آنياس فارد، والهولندي جوريس إيفانز، والأمريكي فردريك وايزمان وغيرهم..
هذا ” الغياب ” المصري و العربي الملحوظ، في ساحة الفيلم الوثائقي في المشهد السينمائي الفرنسي ، وفي أغلب المهرجانات السينمائية الفرنسية والأوروبية التي أواظب علي حضورها منذ أكثر من أربعين عاما، والمخصصة لهذا النوع، مثل مهرجان ” سينما الواقع – CINEMA DU REEL FESTIVAL– في باريس..
تعود أسبابه الي” تراجع ” وتخلف الفيلم الوثائقي في بلادنا، علي كافة المستويات:
تخلفه الفني من ناحية ،علي مستوي الشكل والمضمون ، أو ما أحب أن أسميه بـ ” “الكلية الفنية ” للفيلم، حيث أعتبر أن أغلب الأعمال التي شاهدتها مصرية وعربية، تفتقد هذه الكلية، ولا تحمل في الأساس هما أو قضية ، بل تجاهد لكي تظل علي “رف السينما “بصعوبة، ولا تنزلق أو يلقى بها الى سلة المهملات..
مثل أغلب ” الريبورتاجات” المصورة التافهة، التي يعرضها التلفزيون في بلادنا، بل ويدرس بعضها كنماذج، للفيلم الوثائقي المثالي، ويحتذي بها ياللعجب في المعاهد والكليات، وهي كلها رغي وحكي، كما يرجع سر تخلف هذا النوع ، من ناحية أخري، الي إشراف الدولة الحكومي الرسمي علي إنتاجه..
وتعود أسباب التخلف الفني في رأيي الي ” عزلة ” سينماتنا العربية بشكل كبير، عما يحدث من تطور فني مذهل، في حركة الفيلم الوثائقي في العالم..
فهناك تطور مستمر، حتي علي مستوي مناهضة” ديكتاتورية التكنولوجيا الحديثة” ، وعدم الركوع كمثال،أمام متطلباتها الاستهلاكية، من ناحية خضوع المخرج لأستخدام أفلام ذات مقاسات معينة أو موحدة ” ستاندار ” في السوق، ورغبته في الانعتاق من أسرها،باختراع أدوات سينمائية جديدة، أو بتحسين أجهزة تصويرقديمة وتطويرها ، بل وأستخدام فائض التصوير، من المشاهد واللقطات التي لا تستخدم في مونتاج الفيلم النهائي، لتضمينها ” كتابات ” سينمائية جديدة،وصنع أفلام من ذلك الفائض..
أما أشراف الدولة علي أنتاج هذا النوع، فقد قيده وحبسه، داخل إطارات تقليدية عقيمة، جمدته وقولبته، و كتمت تماما علي أنفاسه ، وجعلته وهي تتحكم في انتاجاتاته. يدور في حلقة افلام البروباجندا، والدعاية للنظام، في مناخات القهر والقمع ، وغياب الديمقراطية ..
في حين صارت الأفلام التسجيلية الوثائقية من نوع سينما الواقع CINEMA DU REEL ” ممارسة للحرية ” في أروع أشكالها، للمخرج المؤلف، و المبدع الفنان..
جودار : الفيلم الوثائقي برميل بارود في حقل ألغام
أجل..ممارسة للحرية من أجل التعبيرعن ” وجهة نظر ” ببساطة – السينما فكر أولا – ضد كافة أشكال الحبس والخنق وكتم الأنفاس، حتي أن المخرج والمفكر السينمائي الفرنسي الكبير جان لوك جودار، يعتبر أن الفيلم الوثائقي – مثل تلك الأفلام التي صاغها وأبدعها وأخرجها المخرج الهولندي الوثائقي العظيم جوريس ايفانز علي سبيل المثال، ومن ضمنها فيلمه البديع ” المطر ” الذي يعتبر ” سيمفونية بصرية ” – هو ” برميل بارود ” في حقل ألغام ..
لقطة من فيلم ” صيد العصاري ” لـ د. علي الغزولي
ولذلك تحارب أفلام هذا النوع من ” سينما الواقع “ الوثائقية وتمنع، أو توضع في المخازن، أو يطولها مقص الرقيب،وأحيانا يتم تهريبها عبر الحدود، قبل أن تصل الي جمهورها في الدول الديكتاتورية..
.ذلك لأنها تكشف وتفضح وتدين – بوعي أو لا وعي منها – سياسات معينة، ونقول بلا وعي، لأن أي فيلم، يولّد “قراءات متعددة” ، تختلف باختلاف الذائقة الفنية، للجمهور المتلقي، والجمهور المتلقي بالضرورة ، ليس علي مستوي متوحد من الوعي..
المخرج المصري الكبير د.علي الغزولي
كما أن الهدف الأساسي، من صناعة أو إخراج أي فيلم وثائقي، لا يمكن أن يكون مجرد الإدانة والفضح، بشكل دامغ ومباشر، وإلا كان من الأفضل والأمر كذلك، أن يعوض المخرج عن صنع الفيلم، بكتابة عريضة، أو “منشور سياسي” يوزعه علي الجمهور، أو أعداد دوسيه أو ملف عن القضية، التي يريد طرحها ومناقشتها..
أي فيلم وثائقي هو صوت + صورة = سياسة.
كنوز مصر في المخازن
تتميز ” سينما الواقع “،عن مجموعة الأنواع الأخري للفيلم الوثائقي، تعليمية وانثروبولجية وغيرها،التي تعرضها القنوات التلفزيونية العامة والمتخصصة ،وتقصفنا بها، بسخفها وضحالتها وتفاهتها في كل لحظة..
تتميز باقترابها أكثر من هموم الناس ومشاكلهم وحياتهم، أثناء العمليات الأجتماعية، والتّغيرات التي تطرأ، علي تطور مجتمعاتنا الأنسانية، وفي إطار السياسات العامة ، التي تؤثر في حياة البشر، لأن بلد بلا سينما- كما يقول الشاعر والكاتب المسرحي الألماني العظيم برتولت بريخت – مثل بيت بلا مرآة ..
ولذلك فهي “سينما سياسية“ بالدرجة الأولي، لأنها تكشف- ونحرص علي أن لا نقول تفضح أو تدين – تكشف عن التناقضات، في قلب العملية الأجتماعية..
في عام 1998 دعتني إدارة قسم السينما في معهد العالم العربي الى الإشراف على ندوة عن ” السينما الوثائقية في مصر”، بمشاركة مجموعة من رواد هذا النوع للتعريف، بهذه الحركة السينمائية، التي ولدت كما نعرف بميلاد السينما عام 1895 على يد الشقيقين لوميير في فرنسا، وتشتمل” شجرة الفيلم الوثائقي” علي عدة تيارات ومدارس، مثل مدرسة ” السينما الحرة ” ومدرسة ” سينما الحقيقية ” و ” السينما الاثنوغرافية – نسبة الى علم دراسة الإنسان الانثروبولوجيا، كما تشمل”الجرائد السينمائية المصورة – الجريدة الناطقة في مصر” و مدرسة ” سينما الواقع ” والريبورتاجات التلفزيونية، ولكل مدرسة روادها وتاريخها وافلامها وأعلامها،وكان المعهد قبل الندوة، عرض مجموعة من الأفلام للمخرجين المذكورين، حيث عرض ” ثلاثية سيناء ” للتلمساني، و ” النيل أرزاق ” للنحاس ، و ” صيد العصاري ” لعلي الغزولي، كما عرض فيلما رابعا هو فيلم ” القشاش ” عن قطار الصعيد للمخرج التسجيلي عوّاد شكري، والأفلام الأربعة المذكورة ،عرضت في مصر والعالم، وشاركت في مهرجانات عالمية مخصصة لهذا النوع ، وحصدت جميعها أرفع الجوائز، وكانت ربما، أكثر وأعمق من بعض الأفلام الروائية المصرية، خير ” سفير “، لحضارة السينما المصرية العريقة وتطورها في الوطن..
وقد عكست الأفلام الاربعة اتجاهات السينما الوثائقية في مصر منذ نشأتها ولحد الآن، مع ملاحظة ان السينما في العالم بدأت تسجيلية أو وثائقية، بعرض أفلام الاخوين لوميير في 28 ديسمبر 1895 ، في قاعة الصالون الهندي بالمقهى الكبير ” لو جراند كافيه ” بشارع ” كابوسين ” بجوار الأوبرا..
وربما كان الملمح الأساسي الذي يكشف عن نفسه، بين كل هذه الأفلام الأربعة مجتمعة، التي عرضها المعهد يوم السبت 28 مارس 1998 قبل عقد الندوة المذكورة التي أدرتها، حب الناس والبلد والأرض، وذلك العشق الأثير للإنسان المصري العامل البسيط الغلبان، وهى تشكل بتلاحمها أو تجاورها، مع الغالبية العظمي، من الافلام التسجيلية التي صنعت عن مصر، قصيدة في حب مصر، وتدبج كتابا جديدا ” في وصف مصر”، يحرضنا أكثر على اكتشافها أم الدنيا، وفي كل لحظة..إنها أفلام أعتبرها- بعد أن قضيت عمري، ولفترة تزيد على الأربعين عاما في مشاهدة الأفلام، والكتابة عنها، من موقع عملي وسكني هنا في باريس.فرنسا – بمثابة ” كنوز ” سينمائية ، لأنهاتحكي ببساطة عن” هوية ” مصر، وعبقرية المكان، وهى جديرة بأن تعرض في كل وقت، على شاشات التلفزيون، لتجعلنا نحب بلدنا أكثر، تاريخها وذاكرتها، بدلا من الاحتفاظ بها في المخازن والعلب..
بقلم
صلاح هاشم.باريس
صلاح هاشم مصطفى كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا
مؤسس ورئيس تحرير موقع ” سينما إيزيس ” 2005
***
عن جريدة ” القاهرة “- رئيس التحرير طارق رضوان – العدد 1212 الصادر بتاريخ الثلاثاء 10 أكتوبر 2023