محمد علي كلاي.السود في السينما الأمريكية. فصل في كتاب ( 35 سنة سينما.شخصيات ومذاهب سينمائية ) لصلاح هاشم..
إن الأهمية الفائقة لهذا الفيلم ( عندما كنا ملوكا ) WHEN WE WERE KINGS للمخرج الأمريكي ليون غاست من انتاج 1996 والحاصل على ” أوسكار ” أفضل فيلم وثائقي طويل عام 1997 ،تكمن فى أسلوبه الفريد المتميز، فى توظيف شرائط وصور وشرائح اللقطات التسجيلية التاريخية ، لرسم بانوراما للواقع الاجتماعى والسياسى الملتهب فى فترة السبعينات فى أمريكا والعالم
إذا كنت تريد أن تشاهد فيلما يشحنك ،بالعديد من مشاعر الحماس والقوة، وتكاد بعد أن تكون استمتعت بمشاهدته ،على وشك أن تحلق خفيفا، فى اجواء لندن مثل الطيور ومنتشيا بسحر السينما الفن، واختراع النظرة،نوصيك بمشاهدة هذا الفيلم الوثائقي الطويل بعنوان ” عندما كنا ملوكا” للمخرج الأمريكي ليون غاست الذى استغرق صنعه وتوليفه أكثر من 23 عاما، ولا نعرف أن فى تاريخ السينما فى العالم، فيلما استغرق عمله فترة طويلة جدا كهذا الفيلم..
لكن إن عرف السبب بطل العجب ، لأن الفيلم يعود بنا إلى الوراء ، وينتقل بنا منذ مشاهدة الأولى إلى مدينة كينشاسا – عاصمة زائير – ليقدم لنا بانورما لحدث رياضى دولى اهتز العالم لتفاصيله ووقائعه ، إلا وهو مباراة بطولة العالم فى الملاكمة للوزن الثقيل، بين محمد على كلاى وجورج فورمان عام 1974 ، لكنه إذ يستعرض تفاصيل هذه المباراة ، ويقدم لنا جولاتها فى حلقات مشوقة ، يتحول تدريجيا إلى فيلم فائق الأهمية، عن ” هوية ” الشعب الأسود فى أمريكا ، ومحاولته من خلال العودة إلى افريقيا، توثيق صلات الانتماء التى تربطه بالقارة ، وتعيده إلى تاريخه الأصلى ، وجذوره فى التربة الافريقية..
وهى محاولة،تحيل هذا الفيلم الوثائقى إلى فيلم تاريخى ورياضي وموسيقى، ودرس فى السينما العظيمة – بعيدا عن أوهام وحكايات الأفلام الروائية المفبركة المصنوعة – التى تبنى وتؤسس، على حقائق تاريخية مصورة ،و دعامات وهياكل بنيان فكرى متماسك،بحيث تتحول هذه المباراة التى يمكن ان نشاهدها على شاشة التلفزيون، ونحن مشغولون بالرد على التلفون، واستقبال الضيوف الذين يصلون فجأة، تتحول إلى معركة بين قطبين متصارعين: محمد على كلاى البطل المنافس، يصبح هنا المتمرد الثائر على المؤسسة الحاكمة فى أمريكا ،وحربها القذرة فى فيتنام، الرافض الانخراط كمجند فى قواتها المحاربة هناك..ويقول لنا في الفيلم قبل المباراة..
* سوف ألتهمه التهاماً . أنا أسرع منه بكثير . وسوف أجبره بضرباتى على التقهقر ، هذا الذى يطلقون عليه بطل العالم ! سوف يندهش العالم وهو يتفرج على المباراة يوم 25 سبتمبر ، أكثر مما اندهش لاعتزال نكسون الرئاسة ! انتظروا المفاجأة الكبرى ، حين أهشم عظام هذا الفورمان !
ثم يقول في أعقاب المباراة
* ” أنا شرير يحطم الشجر ، وهنا فى كينشاسا حاربت تمساحاً فى شخص جورج فورمان، وتصارعت مع حوت ، إلا أن لكماتى تنطلق بسرعة البرق لتحبس الرعد . فى الأسبوع الماضى ، قتلت صخرة وذبحت حجراً ، وأرسلت قالب طوب إلى المستشفى ، أنا أسوأ من أى شر لا يشفى ”
وبين جورج فورمان ، صاحب اللقب، ورمز (الفاشية الأمريكية) بهذه الكتلة من اللحم والعضلات، التى يجرها خلفه ، وهذا الكلب المفترس الذى يشبه الذئاب الجائعة الشرسة، ويصحبه معه فى طائرته الخاصة ، وفى كل مكان ، وعليك أن تنحاز فى هذه المعركة، إلى هذا القطب أو ذاك . وهى عملية الانحياز هذه ، ومن خلال السيولة السردية فى الفيلم، التى تكسبه انسيبايته الفائقة ، حتى يكاد أن يسيل بعذوبته فى عروقك، ويتسلل إلى مسام الجسد ، وهي التي تجعلك متحفزا أو متوترا ، حتى تكاد ان تقفز ،من فوق مقعدك، فى قاعة العرض، لتصبح مع كل أهالى كينشاسا الفقراء فى الفيلم، وهم يرددون كلما التقوا محمد على أن ” على بومابيه “ALI BOMAYE ” أى : ” يا على .. اصرعه “، وهى الصيحة التى اهتزت لها جدران الاستاد الرياضى الضخم فى كينشاسا، الذى أقيمت المباراة فى ساحته ، بعدما قضى الراقص الفنان على خصمه بالضربة القاضية .ونسعد نحن الفقراء بانتصار الحق على الباطل، والعقل على القوة الغاشمة..
إن الأهمية الفائقة لهذا الفيلم، تكمن فى أسلوبه الفريد المتميز فى توظيف شرائط وصور وشرائح اللقطات التسجيلية التاريخية ، لرسم بانوراما للواقع الاجتماعى والسياسى فى فترة السبعينات فى أمريكا والعالم ، وربط هذه البانوراما بحركة تحرر الشعب الأسود فى أمريكا ، للحصول على حقوقه المشروعة ، ومزجها أيضا بالتاريخ الشخصى أو السيرة الذاتية لمحمد على كلاى ، حيث تسرد علينا أمه مثلا في الفيلم كيف سرقوا دراجته فى صغره ، فقرر أن يصبح ملاكما ، حتى إذا التقى سارق الدراجة ، نجح فى تأديبه كما يجب ، وثأر فى الحال لنفسه..
كما أن فيلم ” عندما كنا ملوكا ” هو رحلة فى ذاكرة كلاى فى أمريكا ، عندما كان سيدا فى وطنه ، وهو يشمخ فى المكان، مثل النسور الافريقية المحلقة فوق القمم ، ومن حقه أن يتذكر فى الفيلم، كيف كان فى وطنه ، وأن يتفاخر مثل كل الأفارقة الحقيقيين ،بتراث هذه القارة ومجدها ، وهو من هذا المنظار ، يمكن اعتباره ،درسا فى ” الهوية ” ، وتحية ورد اعتبار إلى القارة السوداء وبلدانها وتاريخها وأهلها.كما تكمن أهميته أيضا فى أمتلاكه لعنصر التشويق SUSPENSE فى السينما الحديثة، الذى يعود الفضل فى ترسيخه إلى المعلم الأكبر المخرج الانجليزى هيتشكوك ملك أفلام الرعب ،لذلك يمكن اعتبار فيلم ” عندما كنا ملوكا ” بمثابة ” فيلم هيتشكوكى ” يحكى بالصورة فقط ، مثل حكواتية من قديم الزمان ، وهو يستخدم هنا ،كلام حكواتية كبار حقا فى الفيلم :
المخرج الأمريكى الأسود سبايك لى SPIKE والروائى الأمريكى نورمان ميلر والمعلق الرياضى المعروف جورج بليمبتون ، فيستخدم مخرج الفيلم ليون غاست كلامهم فى الوقت المناسب ، ويوظفه فى صحبة الصورة توظيفا دقيقا ، بحيث يخدم انسيابية السرد، ويحبس انفاسنا، كما لو كنا من فرط التشويق والتوتر المتصاعدين ، نشاهد فيلم ” نفوس معقدة ” PSYCHO لهيتشكوك ، وهو يقطع، عندما يستعرض علينا وقائع المباراة التى جرت فى 30 أكتوبر ( تشرين الأول ) 1974 على أرض كينشاسا فى زائير ، يقطع على الحفل الموسيقى الذى أقيم فى مسرح المكان،وغنى فيه المطرب الأسود جيمس براون، ملك الصول SOUL ميوزيك : ” قل بصوت عال . أنا أسود وفخور بذلك ” . ليقدم استعراضا، لفن الجاز فى أمريكا أيضا ..
ويصل الفيلم الذى يتحول من فيلم عن ” مباراة ملاكمة ” إلى ” مجموعة أفلام ” عن أسرار وكواليس هذه اللعبة ، عن السيرة الذاتية لمحمد على كلاى ، عن تاريخ وحركة تحرر الشعب الأسود الزنجى فى أمريكا ، وعن نضال ملاكم فرد، أمام مؤسسة سياسية ضخمة، وقوة عظمى وماكينة شر ودمار منظم، لسحق الانسان الأسود فى أمريكا ..
يصل إلى قمة تألقه الفنى فى مشهد من أعظم مشاهد فن المونتاج CUTTING فى العالم ( يذكرنا بالطبع بمشهد SEQUENCE سلالم أوديسا الشهير فى فيلم ” المدرعة بوتمكين ” للروسى سيرجى ايزنشتين، وبالطبع يكتسب الفيلم قيمته هنا من كل هذه ” الإحالات ” فى بنيته الفنية، حيث يتم القطع على أحداث المباراة فى تصاعد متواتر / من خلال لقطة مكبرة تملآ الشاشة لوجه المغنية الافريقية ماريام ماكيبا MIRIAM MAKEBA من جنوب افريقيا ، وهى تغنى بصوت أقرب ما يكون إلى همس وحفيف الشجر، وفحيح الأفعى
وكأنها ” كوبرا ” افريقية تنفخ سمها الزعاف، فى روح جورج فورمان ، ثم تروح تلتف حولها لتمنعها من الحركة، وبسحرها تشلها تماما، حينئذ تسقط ضربة محمد على كلاى ولا أحد يدرى من أين ، وتهبط على فك جورج فورمان مثل مطرقة ، فينطرح أرض ولا يقوى على القيام ، فى الوقت الذى يروح فيه محمد على، يرقص مثل فراشة ، وهو يصبح أنا الملك ، ويملآ وجه ماريام ماكيبا الشاشة ، وكأنها رأس الأفعى التى نفخت فى روح فورمان من سمها ،فأصابته بالعجز ، فإذا به يتهاوى فى الحلبة مثل الثور المذبوح، وتشدنا أحداث الفيلم ،على الرغم من أننا نعلم مسبقا نتيجة المباراة، مشهد مازلت كلما تذكرته وتمثلته يقشعر له جسدي..
أن انتصار محمد على فى هذا الفيلم، هو انتصار للقيم التى يطرحها الفيلم علينا ، وهو فى النهاية، حين يعيد الاعتبار إلى الشعب الأسود فى أمريكا ، ويعيد الاعتبار إلى افريقيا ، ويؤكد على أن “موسيقى الجاز “،هى أعظم إضافة ثقافية أمريكية للتراث الموسيقى العالمى وثقافة القرن العشرين، هو انتصار فى النهاية لكل القيم التى يتفاخر بها الانسان ، من أجل مجتمعات- مثل تلك الهند الأخرى التي أحلم بها في ما وراء التلال – أكثر عدالة وانسانية ، وضد حركات التعصب والعنصرية فى العالم ..
” عندما كنا ملوكا ” سوف يحتويك بمشاهده ،ويسكنك بإيقاعه،وتطوره الدرامى وعناصره الفنية المتعددة، فى تكاملها وانسجامها ، ولسوف يستولى عليك بموسيقاه وبصوت هذه المغنية الافريقية العملاقة ماريام ماكيبا، ليصبح فى نهاية المطاف،صيحة لتلك المظاهرات ضد العنصرية ” إن علي بومبايا “، ولكل حركات تحرر الإنسان الأسود في أمريكا والعالم الوليدة..
صلاح هاشم