مقتطف من كتاب( محمود درويش يتذكر في أوراقي : أكتب لأنني سأعيش ) لشربل داغر
كان ذلك، ذات غروب، في “فندق الرشيد” في بغداد، عندما سمعتُ درويش يقول، بعد أن تناول سماعة الهاتف: “… أهلا بكِ”. قمتً طالبًا مغادرة جناحه، فكان أن قال لي: “لا، أرجوكَ. ابقَ معي… لن يطول الحديث معها”.
بعد قليل، فتحَ درويش الباب من جهة الصالون، حيث كنا نجلس، وإذا بصبية ذات ضفيرة ممتدة على ظهرها، وعينَين تبرقان بأكثر من الكلمات المتعثرة فوق شفتَيها، تقف مقابلنا. ارتبكتْ بمجرد دخولها إلى الغرفة، بمجرد السلام بالأيدي بينها وبين… شاعرها الحبيب. دعاها إلى الجلوس. ترددتْ. تعثرتْ في مشيتها، ثم جلستْ، بعد أن سوَّتْ قعدتَها، وشدَّتْ بفستانها على ركبتَيها. كان درويش شديد البرودة، بينما كنت أراقب من دون كلام ما يجري أمام ناظري. راحت الصبية الفلسطينية، التي كانت تدرس الهندسة الكهربائية في بغداد، تتقاذف جملًا من بين شفتَيها، بعد أن حفظتْها وكررتْها في صدرها، إلا أنها ما أن طلبت استعادتها حتى تعثرت فيها، فكانت تأتي الجملة مقطوعة من طرفها، أو تأتي هذه قبل تلك…
قالت الصبية ما في صدرها، إلا أن التماع عينيها، وارتباك أصابعها، وارتجاف ساعدَيها فوق حضنها، كانت تشي بأكثر مِما تقوله الكلمات والحركات.
قالتْ ما عندها، ما في جعبتها، و… انتظرت. شكرَها درويش على كلامها، من دون أي إضافة مزيدة. ارتبكتْ الصبية، بعدما ران الصمت بينها وبينه. وقفتْ، واستأذنتْ بالخروج. رافقَها درويش في اتجاه باب الصالون. قلتُ في نفسي: المشهد ناقص! قبل أن تخرج الصبية، وتغلق الباب وراءها، عادت على أعقابها، بل استدارت، فيما كان درويش يستعد للاستدارة لكي يعود إلى جلسته السابقة، وبادرتْه بجملة لم تُعدّْ لها قبل الموعد، لكنها أدارتها في صدرها قبل شهور وسنوات، وحدها مع نجمِها: لو كان لي أن أختار زوجًا لي، لاخترتُكَ.
قلتُ في نفسي: اكتملَ المشهد.
كان ذلك في باريس. التقتْ عيناها بعينَيه في بيتي، في عشاء نظمتُه زوجتي وأنا، إثر خروج درويش سالمًا من بيروت غداة الاحتلال الإسرائيلي لها. كانت مدعوة إلى العشاء بحكم كونها جارتنا في بناية مقابلة لبنايتنا في الدائرة الثالثة عشرة في باريس، وبحكم كونها تكتب الشعر بدورها، ولكن بالفرنسية. علمتْ بحديث العيون بعد شهور، عندما طالبتْني جارتنا (بدل ذكر اسمها) باللقاء معًا خارج بيتي أو بيتها، وهو ما كان، في مطعم: اختارت – وهي من عائلة تونسية بورجوازية – مِما لها أن ترويه من قصة غرامهما. كانت مرتبكة، ووميض عينَيها لا يتوقف عن اللمعان، وإن يتخله أحيانًا خفوت مريب. تحادثني، فيبدو عليها أحيانًا كما لو أنها تحادث نفسها، كما لو أنها تريد إقناعي بما تقوله، إذ تقوله لي من دون غيري، وللمرة الأولى. كانت أكيدة ومترددة في آن. تسعى إلى التقدم، لكنها تطلب التأكد من خطواتها.
كانت رقيقة مثل بطلة رومنسية ملتاعة في رواية لتولستوي.
كنتُ أستمع إلى ما تقوله متقطعًا من دون أن أعلم المقصود من سردها هذه الأخبار المتطايرة على مسامعي عَما جرى لها معه منذ العشاء في بيتنا. لم أعلق. لم أوقفْها. نركتُها تحكي، مدركًا صعوبة ما تقوله إذ تقوله. وإذا بالجملة الصاعقة تُنهي كلامها المتعثر والمتمادي: هل تعتقد أن درويش سيتزوجني؟
راعني ذلك الموقف، وحرتُ جوابًا على ما تطلبُه مني. سألتُها: ما الذي دعاكِ إلى التوجه صوبي؟ فأجابتْ بتصميم مثبتةً نظرها في وجهي – لأول مرة في تلك الجلسة: لأنني عرفتُ، في أحاديثي مع محمود، أنك أعدتُه إلى رشده، عند تأزم علاقته بزوجته رنا، وتسارعِها صوب الطلاق. كنتُ بين المستمع والمتشكك مِما كانت ترويه. كانت جملتها الأخيرة أقرب إلى إفشاء سر، وهو ما لا يتحدث به درويش لهذا أو لتلك من العابرين والعابرات في حياته.
لم يتكرر هذا الحديث مرة ثانية. لم أستعدْه، أو تستعدْه معي، في جلسة تالية، على الرغم من لقاءاتنا معًا، أو مع درويش. فقد دعاني إلى عشاء معهما، في غمرت، في ضاحية تونس ذات الألق المتوسطي. تنبهتُ، في عشاء المطعم البحري – وكنت أجلس قبالتهما -، أن يده اليسرى كانت تختفي من على الطاولة، في الوقت الذي تختفي فيه يدُها اليمنى بدورها، في حوار لطيف ما كان يخفيه البريق في عيونهما الثابتة في وجهي.
لم يكن الوقت كافيًّا بعد العشاء، وبعد الانتقال إلى الدارة التي استأجرَها درويش في سيدي بو سعيد، لتأمل جمالاتها، إذ وجدتني مضطرًا لمغادرة المكان لأكثر من سبب: بات وجودي عائقًا أمام ما له أن يمتدَّ بينهما في امتداد أصابعهما، عدا أنني كنت أقيم في فندق “أنترناسيونال”، وسط شارع الحبيب بورقيبة، في مدينة تونس، على مسافة تزيد على عشرين كيلومترًا.
وجدتُني في المكان الغلط، ولكن كيف الخروج من الدارة، ولا سيارة أجرة في المدينة الصغيرة، في ذلك الشتاء القارس! ضحكتُ، عندما دعاني درويش للنوم في غرفة الأصدقاء. لم يكن أمام جارتي سوى نقلي بسيارتها الفرنسية الخفيفة إلى المدينة. لم ندرك ليلتَها، هي أو أنا، هول العاصفة الناشبة في طبيعة تونس، ولا في ذلك اللسان البحري الممتد بين الضاحية ووسط العاصمة. هذا ما تحققتُ منه في اليوم التالي، عندما استعدتُ الطريق نفسها، فتنبهتُ إلى الأشجار العالية المنتَزعة من جذورها، والمرمية على أطراف الطريق البحري. لم أكن أدرك ليلتها هولَ العاصفة، لأن نظري الكليل حال دون ذلك، فيما كان المطر يحجب النظر من زجاج السيارة. وهي لم تكن تدرك بدورها لأن عاصفة أخرى كانت تنشب في أطرافها، ولا سيما في كلامها المشبوب عن حبهما.
جارتي لم تتزوج من محمود، لكنها سارعت إلى فيينا للاطمئنان عليه بعد عملية القلب الأولى التي أجراها. هذا ما أبلغتْني به بعد وقت… ذلك أنني لم أكمل حديثي معها عن زواجها المحتمل منه، إذ قلتُ لها بأنه لا ينوي الزواج من أحد، على ما أظن، بعد فشل زواجه من رنا قباني، زوجته الأولى. لم يكن هذا جواب درويش لي، إذ تناولتُ أمامه بشكل غير مباشر الحديث عنها (بعد عشائها معي، وطلب الاستفسار)، فكان أن أجاب جوابًا أظهرً لي بأنه لا يبادلها الغرام عينه.
لم يكن يصلح درويش للزواج، على ما تحققتُ أكثر من مرة معه: في المرة الأولى مع رنا قباني، ابنة السفير السوري صباح قباني، أخ الشاعر نزار قباني. وهي قصة معروفة بتفاصيلها، ولا سيما زواجه منها بعد أمسية شعرية، في النهار عينه، وانتقالها معه إلى بيروت، ثم إلى باريس. التقيتهما معًا أكثر من مرة، في مكاتب مجلة “الوطن العربي”، أو في مقهى أو في مطعم بباريس، من دون أن أعلم مكان سكنهما في تلك الشهور القليلة من سنة 1979 في باريس. كان يبدو عليهما التوتر غالبًا، ولا سيما الصمت من قبلها.
أسرَّ إليَّ درويش، مرة، أنه طلَّقَها ثم تزوجها مرة ثانية، مضيفًا أنني من أعدتُه إلى الزواج منها من جديد. لم أعلم، يومها، سبب كلامه هذا، بعد سنوات على طلاقه القاطع معها؛ وعندما طلبتُ الاستيضاح منه عن ذلك، قال لي: إنها مزحة.
كان درويش شديد التكتم، قليل الإفصاح، في نوع من “الحماية” الأمنية، المستدامة له، فكيف في حياته الزوجية أو الغرامية! كان يروي أحيانًا الحكاية وعكسَها لي، أو يرويها لغيري في حضوري بصيغة أخرى. أهذه من عادات “النجم”؟
غير أن درويش يبدد، في أحوال أخرى، ما كان قد شاع عنه، فكيف إن شارك في تبديد الحكاية نفسها اثنان: درويش نفسه وصديقه سميح القاسم. كان ذلك في جلسة، في أحد المطاعم اللبنانية، في باريس، في دعوة غداء أردتُها لي معهما لإنهاء الخصومة بينهما: “على صحن كبة”، كما كتبتُ الخبر (مرفقًا بالصور) في مجلة “كل العرب”. سألتُ درويش – في لحظة تباسط الأخبار بين صديقين تباعدت المسافات والأخبار بينهما – عن حقيقة غرامه بالمطربة نجاة الصغيرة، فكان أن تعاونا معًا على روايتها.
قال درويش إن الخبر ذاع بعد أن دبَّجَه أحد الصحفيين المصريين، مِمن كانوا يعملون في نشر أخبار مدفوعة الثمن عن نجمات ونجوم مصريين، ومن بينهم: نجاة الصغيرة. نشر الصحفي خبرًا، بعد عشاء نظمَه أحمد بهاء الدين (“الراعي” الأول لوجود درويش في القاهرة بعد حلوله فيها قادمًا من موسكو)، أفاد فيه أن “أطراف قصة إعجاب متبادَل نشأت في ذلك العشاء بين الشاعر (الذي فاز بنجوم الشهرة الأولى) والمطربة الشهيرة، التي حلَّتْ إلى جانبه في العشاء. أما تتمة الحكاية فقد استكملَها القاسم: كان درويش، قبل رحيله من إسرائيل، قد طلب من القاسم أن يَبقى على صلة بأمه للعناية بها. فكان أن تبلغَ القاسمَ، في مكاتب الجريدة في حيفا، أن حورية، أم درويش، تطلب منه المجيء على عجل إلى بيتها: انتقلتُ، يومها، على وجه السرعة، فإذا بالوالدة غاضبة، حانقة من تصرفات ابنها محمود الرعناء… بلغ الأمَّ، من إحدى صاحباتها، أن محمودًا مقبلٌ على زواج قريب من… نجاة الصغيرة، السيئة السمعة… لم يكن أمامي (يتابع القاسم)، وأنا ما كنتُ على علم بهذا الخبر أساسًا، سوى التخفيف من صدمتها، فكان أن قلتُ لها: لا، يا عمتي. نجاة الصغيرة ليست سيئة السمعة، وهي ليست مطربة في كباريه… إنها مُنْشِدَة. ارتاحت عمتي حورية لكلامي، وعرفتُ بعد وقت أنها كانت تترك الإذاعة المصرية “شغّالة”، وعندما كانت تستمع إلى أغنية لنجاة، في حضور غيرها، كانت تُنهيهم عن التكلم، صارخة: اسكتوا… اسكتوا.. هادي كنتنا (الكُنَّة) المُنشِدة بتنشد.
يومها، لم نتوقف عن الضحك والتعليق بين خبر وآخر، إلا أن الضحكة الأقوى انطلقت بعد أن
سأل درويش القاسم: أقالت أمي فعلًا أن تصرفاتي… رعناء؟
“غراميات” درويش معروفة في بعض أخبارها، ولا سيما غرامه ممن جعل لها اسم: ريتا، التي باتت على كل شفة ولسان مع غناء مارسيل خليفة القصيدة التي حملتْ اسمها. تعرَّف إليها في ريعان شبابها، وهي راقصة في فرقة، في احتفال نظمه حزب “راكاح”، والتي ما لبثنا أن عرفنا اسمها الحقيقي، وصورتها، بعد سنوات وسنوات، وقد باتت تقيم في ألمانيا، في فيلم وثائقي عن درويش.
غراميات عابرة، ،سريعة، أو استدامت لشهور وربما أكثر، وقد عرفتُ بعضها ما لا حاجة لذكره، ومِما يدخل تمامًا في النطاق الحميمي والخاص (حتى بعد وفاته).
لم يكن درويش يحب الكلام عن الزواج، ولا عن الأطفال، على الرغم من أنه ما كان يتأخر، في غير زيارة أو لقاء، عن سؤالي عن ابنتي: هالة، التي عرفَها طفلة تحبو…
سعيتُ، في غير مرة، إلى مفاتحته بالأمر، فكان يتهرب أو يُرفق جوابه بنكتة. لكنه بدَّلَ موقفه، ذات يوم، عندما طَلبَ مني المجيء معه إلى المطبخ، في الجهة الخافية عليَّ في شقته الباريسية (في ساحة “الأمم المتحدة”). هذا لم يحصل في مرة سابقة، كما لو أنه يريد أن يتباسط معي في أمر مفاجئ، ربما في ما يؤلمه أو يزعجه…
بعد أن أعدَّ القهوة، انتقلَ معي إلى الشرفة جنب المطبخ، التي تقع في الجهة المقابلة للشرفة التي كنا نجلس فيها تحت أنظار برج إيفل. كان في تصرفه ما هو غير مألوف… ركنتُ إلى الصمت. كنتُ قد انتبهتُ، يومها، إلى غياب زوجته الجديدة. كان حزنٌ شفيف يرشح من عينَيه، ومن كيفية ارتشافه فنجان القهوة. الصمت ثقيل. بادرتُه: أليس من مفاجأة جديدة، اليوم؟ سألني: عمًّ تتحدث؟ فأجبتُه من دون تردد: ألا تذكر أنك، في زيارة سابقة، فاجأتني بزواجك؟
هذا ما حصل فعلًا في تلك الزيارة، إذ انتبهتُ، بمجرد دخولي إلى صالونه المترع بلونه الأبيض، إلى قيام سيدة فارعة الطول، وجميلة للغاية، لاستقبالي. لم أنقطع عن النظر إليها بعد جلوسي: مَن تكون؟ فكان أن بادَرَني: توقف، شربل… إنها زوجتي. لم أصدقْه. أهي مزحة جديدة؟ ثم راح، أمام ابتسامتي غير المبالية بكلامه الأخير، يعرِّفني بها: إنها حياة الهيني… تعمل في اليونسكو، في “الترجمة الفورية”، وهي صديقة صديقك المترجم مصطفى مرجان، المصري…
راح درويش يحادثني من دون أن ينظر إلى وجهي… كانت الجلسة مناسبة لذلك الغروب، الذي كان يتباطأ في النزول علينا. لعله اختار الجلوس في هذه الشرفة غير المشرفة (بعكس الأخرى) إلا على عمارات كالحة اللون، لكي يقوى على البقاء مع نفسه، في جلوسه معي. كان حديثًا متفرقًا، يسألني فيه عن زواجي، عن “غرامياتي”، ليجد في الحديث مناسبة للكلام، فلا يكون اعترافًا أو بوحًا. إلا أن كلامه كان أقل من الإيحاء بالشيء. كما لو أنه يبدي رأيًا في أمر، ولا يعترف بمرارة أو بخيبة، أو بشأن حميمي يخصه ويوجعه في تلك الأيام.
لم يتزوج درويش بعد ذلك، لكنه لم ينقطع عن الغرام.
قلما وجدتُه من دون بدلة – قاتمة اللون، بين رمادية وزرقاء معتمة. وإن ارتدى قميصًا، فهي طويلة الكمين. رسمي، محتشم، من دون ربطة عنق، في غالب الأحوال.
قلما تبينت شعرة بيضاء في شَعره، إذ كان يصبغه من دون توقف…
مع ذلك كانت الفراشات لا تتوانى عن الدوران حول هالته…
كان لحديثه الفَكِه والعذب، ولالتفاتاته اللطيفة إلى المرأة، لهداياه (على ما عرفتُ من حديث رنا قباني عنه)، ما يجذب أكثر من معجبة، أكثر من عشيقة: استقبلتُه في المطار ببيروت، عند حلوله في لبنان بدعوة من جامعتي، وما أن وصلتُ معه، ومع مدير العلاقات العامة في الجامعة إلى فندق “روتانا جوفينور” في الحمراء، حتى وجدتُ معجبة (لم تفارقه عندما كنت ألتقيه في تلك الأيام، بين بيروت والجامعة) تنتظره في بهو الفندق، بينما كانت تستقبلنا باقات زهر حمراء أمام الجناح الذي كان له أن يحلًّ فيه من نجمة غناء مشهورة…
شربل داغر
(من كتاب “محمود درويش يتذكر في أوراقي: أكتب لأنني سأعيش” لشربل داغر،الصادر عن “مؤسسة العويس” دبي، 2019
محمود درويش