من عصر الجماهير الغفيرة الى عصر العاديين بقلم د. نبيل عبد الفتاح
إستهلال
هذا المقال ” التاريخي ” الرائع،- إعلان وفاة المثقف النقدي – يوثق من خلال قراءة سياسية وإجتماعية وثقافية وتحليلية، وجد عميقة وصادمة أيضا، يوثق لظاهرة أصبحت الآن واقعا معاشا ومؤلما في حيااتنا ، الا وهي ظاهرةتحول الجماهير الغفيرة الى أناس عاديين جدا – ومبتذلين ؟ – مثلي ومثلك ، في مجتمعات الإستهلاك الكبرى، ليس فقط في الغرب ، بل وأيضا في المجتمعات النامية الحديثة والعالم، التي سطت فيها وسائط التخاطب والتراسل والتواصل الاجتماعي الحديثة على أرواحنا، وغربتنا داخل مجنعاتنا، ففى عصر العاديين، تحول الفرد، – كما ينوه د.نبيل عبد الفتاح في المقال – والاتجاهات الرقمية ، إلى سلعة من السلع الرقمية، بحثا عن المتابعين، وما يحصل عليه العادى من أموال من الشركات الرقمية الكونية، وتحول نجوم الماضى والحاضر فى السينما وغيرها من الفنون إلى عاديين ،يحاولون جذب انتباه الآخرين، من خلال خطاب التفاهة والسذاجة والسطحية، والتعرى الجسدى الذى يجذب عيون العاديين مثلهم.، وحتى الكتّاب تحولوا على منصات التواصل إلى جزء من مجتمع العاديين، ويلهثون سعيا وراء الذيوع، ويمارسون الكتابة العادية، سعيا وراء بيع رواياتهم ومجموعاتهم القصصية، ولذا فقد مات ( المثقف النقدي ) عن جدارة للأسف وبإمتياز. شكرا لـلكاتب والمنظر الاستراتيجي الكبير الأستاذ د. نبيل عبد الفتاح على المقال التاريخي التنويري البديع
صلاح هاشم
مؤسس ورئيس تحرير موقع سينما إيزيس
–
منذ عقد الستينيات من القرن الماضى، شاع مصطلح عصر الجماهير الغفيرة، وذلك كنتاج للانفجارات السكانية، وتزايد نسب التعليم، واتساع قاعدته، وسط فئات اجتماعية عديدة، وتوسع الفئات الوسطى، وازدياد فعالية مطالب هذه الجموع الغفيرة، وسعى السلطات السياسية إلى محاولة تلبية بعض مطالبها! فى مصر ازدادت الانفجارات السكانية، وتم ترييف السلوك الاجتماعى فى المدن، و ذلك لارتفاع معدلات الهجرة من الأرياف إلى المدن سعيا وراء الرزق، والفرص الاجتماعية للحراك الأعلى اجتماعيا، وذلك تعبيرا عن ازدياد فرص التعليم العام والفنى، والجامعى، واستمرارية تخلف الأرياف، وهامشية الاهتمام بها على الصعيد التنموى مقارنة بالمدن الكبرى، القاهرة والإسكندرية والمنصورة وبورسعيد، وازدادت مساحات المناطق الهامشية والعشوائية لاستيعاب الوافدين من الأرياف مع التأميمات وقانون الإصلاح الزراعى، والتزام الدولة بالحق فى التعليم، والخدمات الصحية، والاجتماعية فى مقابل مصادرة الحريات السياسية، والحق فى المبادرة الفردية، فى المجال العام المحاصر! الجماهير الغفيرة من الكتل الاجتماعية المختلفة تعاملت معها السلطة السياسية، بوصفها جموعا مصمتة رغم تباين المصالح الاجتماعية، والاحتياجات فيما بين بعضها بعضا.
من ناحية أخرى تم التعامل مع هذه الكتل الجماهيرية بوصفها موضوعا للسيطرة، ووعاء للتعبئة الاجتماعية، فى ظل نظام الحزب الواحد المتعدد فى تكويناته الاجتماعية، لكن فى إطار مفهوم تحالف قوى الشعب العامل، المستمد من المفهوم السالزارى – فى البرتغال -، والماوى فى تنظيره –فى نهاية الأربعينيات – عن تحالف القوى الثورية المعادية للاستعمارية!. ساعد على نشأة الجماهير الغفيرة، وفق جلال أمين، الصحافة والتليفزيون، وأيضا يمكن القول ثورة الاستهلاك فى عقب ثورة الطلاب فى جامعتى بيركلى، والسوربون، والتحول إلى مجتمع الاستعراض فى أوروبا، وأمريكا. فى مصر ساهمت هزيمة 5 يونيو 1967 فى تزايد الهجرة إلى المدن الكبرى، وساعد ذلك على تدهور كفاءة المدن من حيث البنيات الأساسية – الطرق والمواصلات والمبانى والخدمات الصحية والتعليمية، وتدهور السلوك المدينى، وانهارت الطبيعة الكوزموبوليتانية للقاهرة والإسكندرية، بسبب هجرة المتمصرين من الأجانب، ومن ثم تآكل طابعها الثقافى المتعدد المصادر الثقافية، والمتنوع دينيا، ومذهبيا، ومن ثم أثر ذلك سلبا على ثقافة التعايش الدينى، وحاضنته المدن شبه الحديثة.
أدت الانتفاضات الطلابية الجامعية عقب هزيمة يونيو، فى 1968، و1972/1973، إلى تمرد جيلى مهم، لاسيما من جيل السبعينيات، ونزوعه اليسارى والعدالى، ورفضه السياسات الحكومية، ومطالباته بالحريات والعدالة الاجتماعية، والتصدى للعدوان الإسرائيلى، وتحرير الأراضى المصرية والعربية المحتلة.
أدت الحركة الطلابية، ثم حرب أكتوبر 1973، والتحول إلى سياسة الانفتاح الاقتصادى، والهجرة إلى النفط إلى شروخ فى تركيبات الكتل الاجتماعية للجماهير الغفيرة، مع ازدياد دور الإعلام التلفازى، وبروز التناقضات الاجتماعية، وازدياد الفجوات بين بعضها بعضا، والأهم التراجع المتدرج عن قيمة ثقافة العمل، والتعليم، والثقافة لصالح قيمة الثراء ايا كانت مصادره. هذه التباينات الاجتماعية، وصراعاتها حول المصالح أدت إلى تفكيك الإجماع القومى، وتآكل الاندماج الوطنى، وإلى التغير الاجتماعى، الذى أدى إلى التحول من الجموع إلى عمليات متعثرة لميلاد الفرد كإرادة ومشيئة وفعالية فى الحياة الاجتماعية، وانكسار البطريركية التقليدية، إلى بطريركية سياسية محدثة مع السادات ومبارك.
حاولت الجماعات الإسلامية السياسية، والسلفية السيطرة من أسفل على المجتمع، وتديين الجموع تحت السيطرة الرمزية الدينية، وإحداث انشقاق رأسى بين المصريين المسلمين، والأقباط وإثارة الفتن الطائفية، وهو ما وظفته السلطة الدينية فى السيطرة على جموع التابعين لها، وحمايتهم، وإعادة تشكيلتهم،على نحو ما فعلت الجماعات الإسلامية السياسية طيلة عقود الثمانينيات والتسعينيات، والعقد الأول من الألفية الجديدة. على الرغم من ثقل الأيديولوجيا الدينية التأويلية الوضعية، وتديينها للمجالين العام والخاص، إلا أن القوة الهائلة للإعلام المرئى مع القنوات الفضائية العربية والأجنبية، ودور الصحافة الورقية أدى إلى تفكك نسبى داخل الكتل الدينية، خاصة بعد الانتفاضات الجماهيرية الكبرى فى تونس، ومصر، والثورة الرقمية المتغيرة على نحو ساهم فى التحول من الجماهير الغفيرة إلى عصر العاديين والأحرى عصر المواطن العادى، ونقصد بذلك الانتقال إلى عصر توظيف العاديين لوسائل التواصل الاجتماعى، كمجال حر للتعبير عن ذواتهم الفردية، وآرائهم فى كل تفاصيل الحياة الاجتماعية، والسياسية، والدينية، والثقافية، والفنية، والجنسية والحواسية، وذلك من خلال خطابات فردية، من خلال التغريدات، والمنشورات، والفيديو، والصور، والاستهلاك السريع والمكثف لكل هذه الخطابات المكتوبة والمرئية والمصورة، حيث تسيطر التعبيرات الجسدية والغنائية، والموسيقية المرقصة، على خطاب الفيديوهات، وحول الأكل، والشرب، والتجارب الشخصية، والجنسية، والعشق، ومشاكله، وإبداء الرأى من خلال خطاب السخرية السياسية، والاجتماعية، وتحرير اللغة من البلاغة السائدة، ومن تحريمات البذاءة، والتعبيرات السوقية، وفق المحرمات اللغوية باسم الأدب، والأخلاق، والرقى الاجتماعى… الخ.
لا شك أن عصر العاديين، وعصر الإنسان العادى، هو نتاج للفردانية التى تتمدد، وتتبلور، ويصعب السيطرة عليها، لأنها ترتبط بالثورة الرقمية وتحولاتها فائقة السرعة، والأهم بعصر البيانات الضخمة (Big Data)، الذى توظفه الشركات الرقمية فى إعادة تشكيل السلوك الاستهلاكى الكونى، وتحقق أرباحا مليارية ضخمة، ومعها شركات الخدمات، والسلع الاستهلاكية، ومن ثم يعاد تشكيل الرغبات، والحواس..الخ.
فى عصر العاديين، تبدو النظم الديمقراطية الغربية فى أزمة، وعدم قدرتها على التعبير عن المصالح الطبقية وتمثيلها، ومن ثم تلجأ إلى محاولة السيطرة الرقمية لكنها لا يمكنها مواجهة عصر العاديين الذى يحتاج إلى تعديلات، وتجديد فى النظم السياسية الديمقراطية . فى عصر العاديين، تحول الفرد، والاتجاهات الرقمية إلى سلعة من السلع الرقمية، بحثا عن المتابعين، وما يحصل عليه العادى من أموال من الشركات الرقمية الكونية. وتحول نجوم الماضى والحاضر فى السينما وغيرها من الفنون إلى عاديين يحاولون جذب انتباه الآخرين من خلال خطاب التفاهة والسذاجة والسطحية، والتعرى الجسدى الذى يجذب عيون العاديين مثلهم. الأهم هو سرعة استهلاك العاديين لمثل هذه الخطابات التافهةعلى شاكلتهم. حتى الكتاب تحولوا على منصات التواصل إلى جزء من مجتمع العاديين، ويلهثون سعيا وراء الذيوع، ويمارسون الكتابة العادية، سعيا وراء بيع رواياتهم ومجموعاتهم القصصية. فى عصر العاديين، تنتشر ثقافة الترفيه، والاستهلاك السريع للصور والفيديوهات، والميل للخروج عن المألوف الأخلاقى والسياسى والاجتماعى بها والدينى.. الخ!
مع عصر العاديين، مات المثقف النقدى، والصحافة الورقية وسيطرت خطابات العاديين، وحضورهم الرقمى، ويغادرنا عالم إلى عالم جديد سائل، ومتغير.
بقلم
د. نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب ومحلل ومنظر وباحث استراتيجي مصري مقيم في القاهرة .مصر
–
والمقال مأخوذ عن جريدة ( الأهرام ) بتاريخ 13 يناير 2022 لباب ( مختارات سينما إيزيس، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع )