من يصنع في العالم سينما الغد ؟ . أمير رمسيس وفيلم ” يهود مصر ” بقلم صلاح هاشم
المخرج أمير رمسيس
” يهود مصر ” لأمير رمسيس
آفيش فيلم ” يهود مصر ”
سعدت حديثا أثناء تواجدي في مصر ، في الفترة من 18 مارس وحتى 20 إبريل 2013، سعدت بمشاهدة مجموعة من الأفلام المصرية الجديدة، التي خرجت للعرض حديثا، وهي من صنع شباب، لم يتخطى الثلاثين من عمره بعد في معظمه..
وقد أعجبت، ليس فقط بالحرفية السينمائية العالية التي تميزت بها تلك الأفلام، وأسايبها الفنية المتميزة، بل بالقضايا والمشاكل والهموم ،التي طرحتها أيضا، وإرتباطها بواقع وتناقضات المجتمع المصري، بعد ثورة 25 يناير 2011
مما يعكس وعيا متقدما، عند هؤلاء الشباب، بقدرة السينما على النفاذ الى ماتحت الجلد، وبالإمكانيات الهائلة ، للصورة،في الإمساك بتوهج الحياة ذاتها، والنفاذ الى روح مصر الحقيقية، وكيانها الروحاني..
وربما يكون العامل المشترك، الذي يجمع بين كل تلك الأفلام، إنها أفلام ” ديالكتيكية ” أي مثيرة للجدل ، وتحفز هكذا، على التفكير والحوار – الديالوج – وترفض بوعي أو من دون وعي، بأن يكون هناك طرفا واحدا متسلطا، يفرض بإستبداده وجبروته، وعناده وتشدده، إسلوب حياة بعينها على المصريين، لكي يعود بنا الى عصور التخلف، وظلمات العصور الوسطى، ويروح ينصب لنا محاكم التفتيش، ويطعن في وطنيتنا، ويتهمنا بالتخوين ..
ومن ضمن تلك الأفلام التي أعجبت بها كثيرا، يبرز في التو ،فيلم ” يهود مصر “، وهو من النوع الوثائقي، مدة العرض 90 دقيقة، تتخللهما إستراحة، للمخرج الشاب أمير رمسيس، والذي خرج حديثا للعرض، وهذه هي المرة الأولى، التي يغامر فيها منتجه وموزعه بدفعه الى جمهور السينما في مصر..
الجمهور الذي تعود على مشاهدة الأفلام الروائية فقط، في دور العرض، ويعتبر أن الأفلام الوثائقية الطويلة، مكانها الطبيعي في بلادنا ، في التليفزيون، ولعلها تمرح على شاشاته،و كذلك في عروض هيئة الإستعلامات وأفلامها التي تعرض في الحدائق والميادين العامة ، وعلى إعتبار أن تلك أفلام، كما يظن ذلك الجمهور، تصنع بهدف البروباجندة، والدعاية للنظام، والترويج لمشروعاته وخططه و ” الهراء ” الحكومي العام ، مثلها في ذلك مثل الأغاني الوطنية المصرية المباشرة المبتذلة، التي تروج لحب الوطن، بخبط الحلل، والقباقيب، وتروح وسائل إعلام النظام ، تقصفنا بها في المناسبات الوطنية، وتجعلنا نستاء، ونقرف من حياتنا..
وأيضا على إعتبار أن السينما هي وسيلة للتسلية والترفيه، ولذلك لاتصلح الأفلام الوثائقية كما هو شائع ، لمشاهدتها في دور العرض،، لأنها أصلا تكون خالية من المتعة، ومجرد ” بوق ” أو ” منفاخ ” للنظام ..
وهي أفكار سينمائية ، جد متخلفة، بطبيعة الحال، وقد عفى عليها الزمن،ومن الخطورة بمكان أن تظل هكذا، قائمة ومترسخة ومتجذرة في المشهد السينمائي المصري العام، أو هكذا كانت، حتى خروج فيلم ” يهود مصر ” لأمير رمسيس..
وهذه أول حسنة ربما تحسب للفيلم الوثائقي المتمير البديع، الذي قد يسمح بتغيير، أو بإعادة النظر في تلك المفاهيم ..
يحكي فيلم أمير عن هؤلاء المصريين اليهود، فلايحكي عنهم بتلك الصفة المقلوبة والمغلوطة كـ” يهود” لكي يطعن في وطنيتهم، ويتهمهم بالخيانة، يلقي بهم في الحبس، ثم يقوم بترحيلهم قسرا، وسحب جنسيتهم المصرية منهم ، كما فعلت تلك الأنظمة التي تعاقبت على مصر، من أيام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وحتى الرئيس السادات..
بل يحكي عنهم كمصريين أولا، وكبشر، ومواطنين مصريين شرفاء، أخلصوا في حب الوطن، وعشق ترابه، ومن ضمنهم محامين، وتجار، ورأسمالية وطنية، وشيوعيين كافحوا من أجل مجتمع مصري أكثر عدالة وحرية وكرامة وتسامحا، ومنذ أيم الزعيم الوطني سعد زغلول وثورة 1919..
لكن، إذا بهم يتحولون، وفقط بسبب ديانتهم، وحتى قبل ميلاد دولة إسرائيل ” الصهيونية، الى ” كبش فداء “، لكافة الأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر، ومنذ ذلك الوقت..
ويظهر في فالفيلم ” إخوانجي ” عتيق، يكيل لهم التهم، ويعتبرهم ” وباء ” على مصر وشعبها، وهويتها الأصيلة..
كما يكشف الفيلم كيف ناصبتهم ” جماعة الإخوان المسلمين ” العداء ،على طول الخط، ومنذ أيام حكم الملك فاروق، وكيف مارست الجماعة المذكورة ضغوطاتها وسياساتها، ” الإرهابية ” عليهم، وقامت بإحراق بعض متاجرهم، حتى أجبرت البعض منهم على الرحيل الى جنوب إفريقيا والبرازيل وإستراليا..
بل والمضحك أن مؤسس الحركة الصهيونية هرتزل حضر الى مصر، في فترة الأربعينيات، لكي يتفقد المصريين اليهود، ويرى مدى إستجابتهم لمشروعه الصهيوني، ثم إذا به يصرخ ملتاعا، عند خروجه، أنهم متدينين جدا، ..وماينفعوش.. أي لايصلحون لتجنيدهم في تلك الحركة، لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فلم يكن أي منهم ..في حاجة الى ” وطن ” آخر إصطناعي مفبرك، غير بلدهم مصر، ..ومؤسس على طرد الفلسطينيين من بلادهم ،وتشريدهم في أنحاء العالم، وبه يستغنون عن وطنهم الأصلي..لا يا سيد هرتزل..مش عايزينه !
وتتعاقب شهادات المصريين اليهود في الفيلم ،بين القاهرة وباريس، وتتقاطع مع شهادات المفكرين ورجال السياسة والمؤرخين من أمثال أحمد حمروش وسعد الدين وهبة، ورئيس حزب التجمع وغيرهم، وتتداخل ببراعة مع المشاهد الوثائقية المأخوذة من جريدة مصر الناطقة، و الأرشيف السينمائي المصري، لتؤسس لهذه الرحلة السينمائيةالتاريخية الممتعة، التي تحكي، وياللغرابة، عن ” مأساة ” ومعانات وألم..
ولكي تصبح في التو ، وبفضل مونتاج الفيلم، المتمهل الهاديء الذكي الرصين وحده، درسا في السينما الوثائقية العظيمة، وإضافة مصرية أصيلة، الى تلك الروائع التي حققتها السينما الوثائقية عبر تاريخها الطويل، على يد مخرجيها الكبار، من أمثال الهولندي الطائر جوريس إيفانز، والأمريكي روبرت كرامر، والروسي ديجا فيرتوف، وغيرهم، ..ونموذجا يحتذى.
كما يعتمد أمير رمسيس في تصوير مشاهد الفيلم من الناحية التقنية على اللقطة المتوسطة، التي تخلق نوعا من الحميمية مع أصحاب الشهادات، وتبسط مساحة أكبر، للتعقل والفهم الصحيحين، وبشكل محايد، ولذلك يجعلنا نطلب المزيد، ولا نشبع من الشهادات في فيلمه، لأن كل شهادة في الفيلم، تصلح لعمل فيلم مكتمل، وقائم بذاته..
لايحكي فيلم أمير رمسيس إن تأملته مليا، وتعمقت فيه، عن يهود مصر،أو المصريين اليهود كما يزعم، أو كما قد يتصور البعض، بل يحكي في الواقع عن تراجيديا حب مصر،وألم الفراق، حين تنتزع منا قسرا هويتنا، أو مصريتنا الأصيلة، التي تمثل كياننا الروحاني، فإذا بنا نتحول الى ” مسخ “، ونصبح غرباء عن أنفسنا والعالم،..بل وحتى تحت جلودنا..
مثل هؤلاء المصريين اليهود، الذين تشتتوا في أنحاء العالم، لا لإثم إقترفوه، بل بسبب من عقيدتهم، وصاروا لاهم مصريين، ولافرنسيين، ولا مغاربة، ولا شييء على الإطلاق..
فما يصنع للمرء هويته وإنسانيته يقينا، هو إرتباطه بوطن وأرض..
ولذلك تكون المأساة أفدح وأشد قسوة ومرارة، عندما يكون هذا الإرتباط كما يبين الفيلم، يخص بلدا بذاته هو مصر، أم الدنيا، ونكون معرضين في أية لحظة – ونحن نخاف عليه من الهواء الطائر- وبخاصة في ظل هذه الظروف العصيبة التي تمر بها بلادنا، تحت حكم وسلطة الإخوان، للتشكيك في وطنيتنا، تحت أي مسمى..وتخويننا..
ولذلك، تكمن الأهمية القصوى لهذا الفيلم ، في أنه يشير بوعي أو بدون وعي منه، الى أن الدور حتما سوف يأتي علينا، إذا إستمرت تلك الحكومات المتعاقبة الجاهلة، في ممارسة سياسات التمييز، والتفريق والتقسيم، بين المصريين، على أساس من دين، أو مذهب، أو فكر، أو عقيدة..
تهاني لأمير رمسيس السينمائي المبدع، وأدعو كل مصري الى مشاهدة هذا الفيلم الوثائقي البديع، وسوف يكتشف بنفسه، كيف كان ” ضرورة”..وسر روعته..إنه فيلم عن الذاكرة والنسيان، ومخاطبة للعقل والوجدان، وقبل أن تلحق بنا جميعا شبهات التجريم والتخوين ، ونتهم في وطنيتنا، ومصريتنا، وعشقنا لهذا البلد، في ظل النظام الإستبدادي الذي يحكمنا، أو جعلناه يحكمنا، الى متى ؟
عن كتاب ” مغامرة السينما الوثائقية . تجارب ودروس ” – صفحات 54و55و56 الصادر عن الدورة 19 لمهرجان الاإسماعيلية عام 2017
بقلم
صلاح هاشم
صلاح هاشم كاتب مصري وناقد ومخرج أفلام وثائقية مقيم في باريس.فرنسا.مؤسس ورئيس تحرير موقع “سينما إيزيس”.تأسس في باريسزفرنسا عام 2005