نصوص ساحرة على جدارية فرعونية.قراءة في مجموعة قصص ” الحصان الأبيض ” للمبدع الكبير صلاح هاشم. بقلم د.منار حسن فتح الباب
طالعت المجموعة القصصية الرائعة للمبدع الكبير صلاح هاشم ..وعنوانها ” الابيض الأبيض ” وتلك كانت رؤيتى لعالمها الواسع، وقراءتى لمكنونها الساحر، وقد عرفت من المؤلف انها نوقشت بـ ” البرنامج الثاني ” الثقافى فى فترة السبعينيات، من قبل اساتذة ونقاد كبار هم د عبد الغفار مكاوى وبهاء طاهر ودكتور صبرى حافظ ..وقد اثنوا عليها، وموهبة صاحبها، ..ولاعجب..
ذلك أن مجموعة ” الحصان الأبيض ” سحرتني..وأنا لم اقرأ منذ فترة قصة قصيرة بجد، قصة قصيرة حقيقية بهذا المستوى..
ذلك أن المستوى في جيل صلاح هاشم، وأعني به جيل الستينات الذي ينتمي إليه ، كان أقوى من وجهة نظري،على مستوى اللغة، والتشكيل البصري، والإنسيابية ،ورهافة الحس، ليشكل، كما في كل الأعمال الأدبية العظيمة،.. قطعة من الإنسان على الورق ..
مجموعة تبدو لي نصوصها الساحرة، وكأنها سطور قادمة من جدارية فرعونية..
لقد شدني في قصص المجموعة تداخل الحواس، والتضفير أيضا، أعني غزل وتضفير العناصرمع التداعي والزمن والمكان، لذا تبدو قصص المجموعة كأنها ” كتلة نحتية ” واحدة، تتداخل وتتسامق برموزها، لتغني النفس، وتشبع الروح، وبها أيضا.. رقة الشعراء.. بشفافية أسطورية محلقة ..
وفي المجموعة متتاليات قصصية تسكن خطابا عضويا واحدا لاينفصل عن بعضه، فالقاريء الذي يشارك الكاتب النص كما يقول المفكر والناقد الفرنسي الكبير رولان بارت وينطبق تماما وكلية على ” الحصان الأبيض “، جعلني اقرأ قصص المجموعة كـ ” رواية ” .. وحدة واحدة ..بل لقد جعلني من فرط جمالها – رواية الحصان الأبيض – اقرأها مرة أخرى من جديد..
الحصان الأبيض – خارج تداعيات النص ولغة الكاتب الساحرة- وكما قرأتها وخبرتها وفرحت جدا بها كمن عثر على درة مكنونة، هي ” فعل إنساني روحاني” وأشبه ماتكون بـ ” طقس ” تطهيري أو ” تعويذة ” ضد غوائل الزمن، وقسوة الواقع، رعبه وتوحشه وكوابيسه..
ومجموعة ” الحصان الأبيض ” لصلاح هاشم ليست كأي مجموعة من مجموعات فترة الستينيات القصصية لأن مايخلق لها تميزها وتفردها الفائق في رأيي هو تماثلها وتضافرها مع عناصر الطبيعة والتاريخ في لغتها، التي تجدها هادئة احيانا، وجامحة حينا آخر، وهذا التناقض هو سر جاذبيتها..
السحر من عناصر الروح والفن والأدب معا، وهو هنا يشع في المجموعة من طاقة الشعر – بالضرورة – في نصوص العمل، مغلفا بمتعة الصورة ..
في قصة ” الحصان الأبيض ” – بطل القصة الاولى وعنوان المجموعة- .. يرى الراوى الحصان الأبيض ماثلا امامه دائما .. كانه شبح ” هاملت ” في مسرحية وليم شكسبير بنفس الإسم.. مابين رؤية ولا رؤية ..ما بين غيام وصحو ..مابين الروح والمادة ..موجود الحصان الأبيض ويتحرك فى كل مكان ..مع المدرس العاشق لتلميذته ..حتى النهاية .. والقصة احداثها قصيرة …. تقبض غلى اللحظة ..نموذج لفن القصة القصيرة الساحر .. وتتخذ المجموعة عنوانها …
مدرس يعشق تلميذته الصغيرة .. يكتب الراوي قصته القصيرة ، وهو يغزل تفاصيل الحياة اليومية .. فحتى الحذاء يؤلمه، ويود التحرر منه ….
يرى البطل الحصان الابيض ماثلا .. امامه، ويتبنى طفلا مابين الحقيقة والوهم فى زمن الحرب ..زمن هزيمة 1967 ، ويبدو ” واقع الهزيمة ” ماثلا هنا في قصة الحصان الابيض ، برماديته و..وقعه الكابوسى الثقيل المخيف …
اما الحصان الابيض الذى يطير بين ثنايا سطور القصة الاولى فهو ” سحر السرد ”
فلقد استطاع صلاح هاشم بادواته القصصية المتفردة ان يغزل منه ” شخصية اسطورية” تخاطب الواقع ..فالحصان هو الحلم، الحلم الذى يراوح ما بين الحقيقة والوهم ..وهو الذى يصل بين الواقع والسحر ..بين الحياة والموت .. ذلك ان حتى الموت فى القصة الاولى هو موت نفسى .. ذلك الموت الذى يصاحب الفرد عندما يتالم، هو الحصان المنطلق ، من خلال لونه الابيض المضىء ، حالما مناديا للحلم، ويعكس كل الالوان ، وقد يقهر الموت /الفناء..
اما الموت المؤقت هنا في القصة فهو النوم او الاغفاءة، ومن خلالها يبرز الحلم ايضا فهو ماثل فى المجموعة .. فجو الهزيمة التى تلت 1967 يحتاج الى هذا الموت المؤقت .. كى نصحو او نفيق مرة اخرى، دون الانتحار، او الوقوع ضحايا الجنون الى الابد ..
لكن يحضرنا ” طيف الامل” من خلال الحصان الابيض المسافر دائما دون رحيل .. الابيض دون الاسود ..
ويبحث الراوى عن طفل ايضا يمثل البراءة ، ولكنه.. يقتل .
الحزن هنا الذى يصيب البطل هو مرادف للموت ..الفناء، وهو الحقيقة الوحيدة ..
يواجه البطل افق الصمت والوحدة والسواد والبرودة والفراق عن الحبيبة .. يقبلها ، كى يشعر بها حقيقة ملموسة .. ويستدفىء بها .
هو يريدها.. لكنها لايصل اليها .. تماما كالحلم ..
بينما الموت هو الحقيقة التى يبحث عنها، لكنه الباعث على الحزن فى الوقت نفسه .. ولهذا يغمض عينيه فى صحراء التيه .. ولايرى.. الا الحصان الابيض ..
الجمل القصيرة لدى صلاح هاشم في قصة ” الحصان الأبيض ” تبدو كدقات المطر على نوافذ المنازل فى الشتاء.. و قبل ان ينهمر السيل فجأة ، نحو سيمفونية النهاية ..
ادوات القص عند القاص صلاح هاشم ، تستعين بكاميرا مخرج سينمائي، دربته المشاهد على ان يحرك المشهد، او يسكنه، بحساسية مرهفة .. ..
يلتقط المبدع الكبير صلاح هاشم التفصيلات الصغيرة التى تصنع الدهشة .. ويغزل منها حكيا لامحدودا .. يسبب متعة متدفقة ..
ان افتقاد الأسباب التي أدت الى هزيمة 1967 هو المأساة التي يعيشها بطل القصة، هو التراجيديا ذاتها .. هكذا كان شعور البطل ..الذى التقى مع الراوى، فى حكى ، صنعه اختلاط التراجيديا بالدهشة …..
وهكذا نري كيف اعتمدت القصة الاولى وباقى قصص المجموعة على التقاط التفصيلات الصغيرة وغزلها عن طريق الادوات السردية وكاميرا المشاهد، لينتج عن ذلك، تواشج دفقات الكاتب والقارىء معا، لانهما يتشاركان الحياة .. يريدان امساكها ..امساك تفاصيلها حية ..
كتابة صلاح هاشم هنا في مجموعة ” الحصان الأبيض ” هى الحياة ذاتها .. كتابة تجعلك تريد ان تلمس الحياة، تتحسسها،و تشم هواءها، وعبير زهورها، وان تحس ازهارها، وان تدفىء برودتها ، وان تلج وتدلف الى سحرها الغامض … وكان الحياة اسطورة .. والاسطورة حياة …..
وتشع بين ثنايا الاسطورة تاثيرات الكاتب بفلسفة الزن اليابانية المفتونة بالطبيعة، وقصائد شاعر الهند العظيم رابندرانات طاغور الذي ترجم له صلاح هاشم في فترة الستينيات قصيدة ” أجنحة الموت ” التي كتبها طاغور على فراش المرض قبل وفاته، وشبهها النقاد بـ ” رباعيات بيتهوفن الوترية”، وتأثره أيضا بقصيدة ” الأرض الخراب ” للشاعر الانجليزي الكبير ت . إس . إليوت التي درسها صلاح هاشم في قسم انجليزي بآداب القاهرة واستوعبها وهضمها، حيث تفاصيل حياة الفرد المهزوم المسحوق في قصيدة إليوت، امام غموض وجوده في الحاضر والمستقبل … باحثا عن نثارات الحياة كى يجمعها .. فلربما اسفر هذا التجميع عن امرأة، تشفى تلك الآلام.. التى لا تنتهى ….. امراة خالدة كـ ” ايزيس” التي تطلع من جوف البعث، بفعل ” رع ” سيد الآلهة…..
يتدفق السرد باقتدار لدى صلاح هاشم في قصص المجموعة، وكانه نثارات وشذرات قصصية تمزج بين روح الاسطورة الفرعونية التى تمجد البعث، وتحقق الارادة الانسانية، وثنائيات الضوء والظلام ، وكأنه حين يكتب ، يستلهم ” روح الملاحم ” العالمية العظيمة. تلك الملاحم التى تستحضرالصراع بين الالهة والبشر، وبين قوى النور و الخير و قوى الشر والظلام، لتروي لنا قصة الأرض و حكاية الكون من جديد .. ..
احيانا تتمدد شلالات السطور عند صلاح هاشم ، وكانها سوف تنحت تماثيل فرعونية، بفعل السحر الغامض، وماهي الا قوى الطبيعة التى اندمج معها الانسان .. وهنا يتحول النص عند صلاح هاشم بروحه الاسطورية، يتحول الى لوحة جدارية اثرية ، لوحة يطل منها تاريخ الانسان فى مجمله، وهو فى توق الى الحلم ، و..الضوء الابيض المنير ….
واحيانا تتدفق السطور كى تعانق حواس القارىء فيشارك بالقراءة .. وتلك هى ذروة نجاح المؤلف
وفى الحالتين يظل النص عند صلاح هاشم مفتوحا ، كأنه قطار مابين الابطاء والاسراع ..بينما اعمدة الحياة تتوارى خلفنا ..ذلك هو ايقاع المجموعة، وزمنها .. زمن المجموعة يكتب لغتها بالضرورة .. اما الاماكن فهى نفسية .. تستلهم من روح الاسطورة دهشتها .. وتندمج مع نبضات بشرية ..
انه زمن ” الحصان الابيض” الذى يتسابق مع اللحظات القصيرة الخاطفة، كالقبلات المسروقة.. كالاحضان .. كى يوقفها فى حين ما ، او يشعلها فى حين اخر..وقد يسابق قطارها بين السكون المؤقت عند المحطات، او استئناف الحركة الى الامام، حيث صيرورة التاريخ والمستقبل .. بينما تمثل المحطات واقعا لللقاء او الوداع بين البشر …
ان الحصان الأبيض خلق للسباق، وللتحليق والطيران، مابين السماء والارض ..يسابق التهدج ذاته ..ترفرف فوقه حمامة السلام البيضاء، وكانها قطعة حية منه .. تتطلع الى سماء حلم مفتوحة في حين يسابق الحصان، لهاث النفس البشرية ، ما بين الامل.. والالم ..
من حصان ابيض، يشكل صلاح هاشم اسطورته، دون ان يقفز فوق اسوار السباق اللاهث ..حيث يقف مجتمع منافق ومتناقض الصفات …يميل عليه هاشم كطيف.. ويتلصص على اضواء الواقع ..
حصان صلاح هاشم هو رمز للنقاء والى الحلم البرىء ، وهو يتطهر بالصدق مع النفس ، ومع طين الجذور، للأرض المصرية المقدسة، حيث يكون ذلك الامتداد السرمدى، وحيث تكمن تلك الذاكرة الاولى لـ ” الأبدية ” وسحر رائع لاينضب..
د. منار حسن فتح الباب
عن مجلة ” عالم الكتاب “