هؤلاء علموني : ميشيل سيمان ربما كان ” العقل ” الأكثر موسوعية الذي أنجبه التقد السينمائي في العالم بقلم صلاح هاشم
سينما.هؤلاء علموني.ميشيل سيمان
ربما كان “العقل” الأكثر حرية وموسوعية، الذي أنجبه “النقد السينمائي” في العالم
و إطلالة على ” حداثة “السينما العالمية المعاصرة
ميشيل سيمان
هؤلاء علموني. ياوجع القلب. توفي يوم الإثنين 13 نوفمبر عن عمر يناهز 85 عاما،أستاذي الكاتب والمؤلف، والناقد السينمائي والأستاذ الجامعي- باريس 7 – والمثقف الموسوعي التنويري الفرنسي الكبير ، ورئيس تحرير مجلة ” بوزيتيف ” السينمائية الفرنسية الشهيرة،ميشيل سيمان– MICHEL CIMENT– ( من مواليد 26 مايو 1938 وتوفي في باريس في 13 نوفمبر 2023) الذي يعتبر – في رأيي – ومن دون مبالغة، أشهر ناقد سينمائي فرنسي عالمي، بعد أندريه بازان، في تاريخ السينما الفرنسية والعالمية،والذي تشرفت بمعرفته منذ عام 1992، عندما حضر تظاهرة تكريم – HOMMAGE -مخرجنا المصري العربي الكبير الأستاذصلاح أبو سيف في مهرجان لاروشيل السينمائي في فرنسا، من إعدادي، وبتكليف من المهرجان، في نفس العام،وأجرى حوارا مع أستاذي صلاح أبو سيف ،وقمت بالترجمة، للمحطة الإذاعية الثقافية ” فرانس كولتور”، حيث كان يعد فيها برنامجا سينمائيا بعنوان ” عرض خاص “
سيمان، روح متحررة ، وفضول معرفي لايشبع
ثم نعمت بإستاذيته- بعدما تطورت صداقتنا – وعلمه وثقافته، وتواضعه ودماثة خلقه الجم،وسوف نفتقده – يا وجع القلب – وتفتقده السينما العالمية،وكنت ترجمت باقة من حواراته مع مجموعة من أشهر المخرجين وأساتذة السينما في العالم، من أمثال الإيراني عباس كياروستامي ، والتركي نوري بيلغ سيلان، والإيطالي فردريكو فيلليني ، والفرنسي روبير بريسون وغيرهم، ونشرتها في بعض الدوريات المصرية والعربية..
وصدر لميشيل سيمان، عدة كتب مهمة في السينما ، وتعتبر كمراجع، وإطلالة على ” حداثة ” السينما المعاصرة،من ضمنها كتاب ” كوبريك ” عن المخرج الأمريكي الكبير ستانلي كوبريك، الذي يتحدث فيه عن أفلامه ومنهجه في الإخراج، وكان سيمان، الناقد العالمي الوحيد الذي قبل كوبريك أن يجري حوارا معه ويتحدث عن سينماه..
وكتاب ” جواز سفر الى هوليوود ” الذي يضم مجموعة من الحوارات مع المخرجين الأوروبيين- مثل المخرج الألماني فيم فندرز – الذين جربوا العمل في هوليوود ،مصانع الأحلام، وإستوديوهاتها الماجور الكبرى..
كرّس ميشيل سيمان حياته ، لنقل معرفته ،وشغفه بالفن السابع، الى أجيال من عشاق السينما، و كان يتمتع بروح متحررة ، وفضول لا يشبع، وكان تجسيدًا للولع بالسينما، واحتضن جميع أنواع السينما، ولم يترك أي فيلم جانبا ابدا،وواصل استكشاف السينما العالمية حتى النهاية..
وربما كان ،كما كتب عنه البعض، ومن ضمنهم تيري فريمو مدير مهرجان كان، ربما كان العقل الأكثر حرية وموسوعية، الذي أنتجه النقد السينمائي في العالم على الإطلاق، وأعرب جيل جاكوب رئيس مهرجان ” كان ” السابق، عن عظيم إحترامه وتقديره للصحفي ميشيل سيمان، الذي لم يكن ناقدا عظيما، ومؤرخا مشهورا عالميا فحسب، بل كان أيضا صاحب روح فضولية، بشأن السينما والفن، والذي ناضل بشدة من أجلهما طوال حياته.
النقد السينمائي في فرنسا نوع أدبي
وكان ميشيل سيمان يعتبر أن النقد السينمائي في فرنسا، هو نوع أدبي، ويكتب على طريقة المقال الأدبي، المصاغ بالكثير من الإسلوبية البلاغية، وبكثير من التأمل، في اللغة، كموسيقى وإيقاعات، صمت وهمس، مما يحيل المقال السينمائي في النهاية الى” قطعة أدبية جميلة ” قبل أن يكون مقالا سينمائيا متخصصا، ولاشك أن أهم مايميز النقد السينمائي الفرنسي الحديث -مدرسة مجلة ” بوزيتيف – تأسست عام 1952 إهتمامها بالتأكيد على فكرة المزج في الكتابة السينمائية باالفلسفة والأدب والموسيقى والفنون الجميلة، وفكرة أن السينما، لاينبغي أن تنسى مطلقا ، أنها ” سياسية “، وتعالوا نتأمل الآن في ” أسلوبية ” الكتابة عند أستاذي ميشيل سيمان في كتابه ” كوكب سينمائي صغير ” PETITE PLANETE CINEMATOGRAPHIQUE الذي يعتبر أحد أهم الكتب السينمائية ، التي صدرت في فرنسا ،خلال العشر سنوات الأخيرة..
فقد كتبه سيمان خلال أربعين سنة ،من الاكتشافات و النقاشات والرحلات، في مهرجانات السينما العالمية، ويضم الكتاب مجموعة كبيرة من الحوارات السينمائية العميقة التي اجراها مع 50 مخرجا من 30 دولة..
ميشيل سيمان .اسلوب أدبي وثقافة موسوعية
يكتب سيمان في حواره مع المخرج التركي الشاب نوري بيلغ شيلان الذي إلتقاه في مهرجان ” كان السينمائي عام 2000 هكذا، وأنظر هنا وتأمل، في قطعة أدبية جميلة وشخصية” تعكس أسلوب أستاذي ميشيل سيمان الأدبي، وثقافته الموسوعية :
(..إلتقيت بالمخرج التركي نوري بيلغ شيلان لأول مرة في مهرجان ” كان ” السينمائي عام 2000 ، وكان قدم الى المهرجان، كزائر فقط، ثم التقيت به للمرة الثانية بعدها بثلاث سنوات في ذات المهرجان، وكان قدم الى المهرجان ليعرض هذه المرة فيلمه الروائي الطويل الثالث، بعنوان ” أوزاك “.كان شيلان آنذاك، الذي شارك فيلمه في المسابقة الرسمية للمهرجان بمثابة ” سندريلا ” المسابقة ، فقد كان مجرد إسم مجهول، للكثير من الصحفيين..
حصل شيلان بفيلمه في المسابقة على جائزتين، من الجوائز الكبرى للمسابقة : حصل على الجائزة الكبرى، ومعنى ذلك أنه كاد يفوز بسعفة المهرجان الذهبية، كما حصل على جائزة أحسن تمثيل في أفلام المسابقة ، وذهبت لممثلين إثنين في فيلمه ” اوزاك “..
وقد بدا لي بعد اكتشاف فيلمين لنوري بيلغ سيلان هما فيلم” قصبة ” و فيلم ” سحابات مايو ” في مهرجان برلين ، انهما يكشفان عن موهبة مخرج كبير جديد في السينما العالمية ، وانه لاشييء يعادل، تواضعه الجم وخجله، سوى قوة وبأس أفلامه، وعناده وتصميمه..
وعلى قدر ما أتذكر، كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي، التي يعترف مخرج فيها لي، بأنه ليس بحاجة الى أية مساعدات ” خارجية ” من أحد ، بعد أن عرضت عليه أن اتدخل، بصفتي الشخصية ،لإيجاد مشاركين من فرنسا،للمساهمة في إنتاج أفلامه،ودعمه لمواصلة محاولته السينمائية الطموحة، في بلد لاتحتل فيه أعمال سينما المؤلف، أولويات الوسط الإنتاجي السينمائي الاقتصادي التركي..
اعترف لي نوري بيلغ شيلان – الذي يعمل منتجا وكاتبا للسيناريو ومخرجا ومديرا للتصوير ومونتيرا وممثلا في أفلامه- أنه يفضل دوما أن يعتمد على نفسه، في سد إحتياجاته، وأن هذا الشييء ،يضمن له “حرية مطلقة “، لاخراج أفلامه بالشكل الذي يحب.وأنه يستطيع أن ينتج أفلامه ،بحيث لاتتجاوز تكلفة الفيلم الواحد مائة الف يورو ،بمساعدة أربعة فنيين مساعدين فقط ( مسجل صوت، ومساعد اخراج، ومساعد تصوير ومساعد إنتاج ) وباستخدام ممثلين غير محترفين، من أفراد أسرته أو اصدقائه..
وأعتقد برأيي أن فيلما مثل ” أوزاك ” ، يستطيع أن يتنافس مع مجموعة من أجمل الأفلام القادمة من أنحاء العالم ، في مسابقة مهرجان ” كان ” .. يمنحنا في رأيي درسا بليغا..
ليس فقط على مستوى جماليات الفيلم، والسينما، ولكن أيضا على مستوى الاخلاقيات، ودرجات التكامل الفني، فقد بدأ نوري بيلغ شيلان حياته كمصور فوتوغرافي ، مثل المخرجين السينمائيين الكبار من أمثال الأمريكي ستانلي كوبريك، و الفرنسية آنياس فاردا و الأمريكي جيري شاتزبيرج والإيراني كيارستمي..
ولاشك في ظني ، أن نوري بيلغ سيلان مثلهم، قد ورث من خلال ممارسة فن تصوير الصور الثابتة، هذا ” البعد ” – عدم الانغماس والاستغراق في الصورة- الخفيف، وذاك “البرود” على مستوى الاخراج اللذان نلاحظهما ، ولايمنعانك – ولو من باب “معرفة الغير” فقط – من التعاطف مع شخصيات وأبطال أعماله، ويمنحان مخرجنا في ذات الوقت، قدرة على إضفاء مسحة من ” الحس الفكاهي” على كل أفلامه..
إن نوري شيلان ينتمي في رأيي الى “حلقة” من الفنانين المبدعين، الذين يجعلوننا نعيد النظر في حياتنا، ونتعلم من جديد، ..كيف ننظر الى العالم.. وسط فوضى وصخب حياتنا اليومية..التي صارت مليئة ،بل وتكاد تطفح بالصور ..) ..
وداعا ميشيل سيمان أستاذي، المثال والقدوة.
بقلم
صلاح هاشم
صلاح هاشم مصطفى كاتب وقاص وناقد سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا
***
عن جريدة ” القاهرة ” العدد الصادر بتاريخ الثلاثاء 21 نوفمبر 2023