2 على الطريق : بين القناعات الفكرية الحقيقية والشعارات الزائفة. بقلم مجدي الطيب

في أحايين كثيرة يُشاع عن فنان، وربما يروج عن نفسه، بأنه صاحب فكر وموقف، و«أيديولوجية» تقوده، وتفرض نفسها عليه، وتظهر، بقوة، فى غمار الأحداث الاجتماعية والسياسية التى تعصف بالبلاد؛ لا سيما وأن ثمة من يرى أن الفنان الحقيقي، هو المشغول بقضايا وطنه، الذي لا ينفصل عن هموم أهله وناسه، وإلا كان فناناً عادياً لا يختلف كثيراً عن رجل الشارع البسيط .
من هنا رأى كثيرون أن هذه المعادلة تنطبق تماماً على النجم عادل إمام، بالدرجة التي دفعت الكاتب الصحفي محمود الكردوسي إلى القول، في مبالغة صارخة، إن «إمام» وصل إلى «زعامة فنية»، ربما لا يقابلها فى عالم السياسة سوى زعامة جمال عبد الناصر (!) وأضاف : «ولمن لا يعرف، فإن عادل إمام «ناصرى» بالمعنى الوجدانى» ( جريدة “الوطن” بتاريخ 17 مايو 2017) . والحقيقة أن محاولة إسباغ شرف «الناصرية» على عادل إمام، تكرر كثيراً، طوال مسيرته الفنية؛ ليس فقط لأنه ابن الطبقة الوسطي، ولسان حال الفقراء والحالمين، ودائم النبش في الواقع، بأوجاعه وانكساراته، ما جعله، في ظن البعض، جديراً بلقب «الناصري حتى النخاع»، بل لفرط ما تبنى من مواقف سياسية مُعلنة، نصبته «زعيماً»، في نظر البعض؛ بداية من رحلته الشهيرة إلى أسيوط، صيف عام 1988، وإصراره على عرض مسرحيته «الواد سيد الشغال»، من أجل دعم ومؤازرة فرقة مغمورة من هواة المسرح، أسسها شباب في قرية «كودية الإسلام»، بأسيوط، حاولت الجماعات المتاسلمة، منع أفرادها، بالسنج والجنازير، من تقديم عرضهم المسرحي، ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى، مروراً بتلقيه العزاء في د. فرج فودة، بعد اغتياله، بأيدي المتطرفين عام 1992، وقيامه ببطولة فيلم «الإرهابي» (1994)، تأليف لينين الرملي وإخراج نادر جلال، الذي أعاد فيه تقديم التحية للدكتور فرج فودة، من خلال الشخصية التي جسدها القدير محمد الدفراوي، وإن وجب القول إنه لم يكن أول فيلم مصري عن إرهاب الجماعات المتطرفة، كما أشيع؛ إذ سبقه فيلم «الإرهاب» (1989)، سيناريو وحوار بشير الديك وإخراج نادر جلال وبطولة نادية الجندي، وصولاً إلى مشاركته، مع مثقفي ومبدعي مصر، في إعادة افتتاح مقهى «وادي النيل»، الذي فجره الإرهابيون عام 1993 !
لم يخل الأمر من تحولات !
هكذا نجح عادل إمام في تقديم نفسه؛ بوصفه المتحدث باسم طبقات المجتمع قاطبة؛ الغني منها والفقير، المنسي والمليونير، الهلفوت والأمير، المتسول والمثقف، غير أن الأمر لم يخل من تحولات وانقلابات طالت مسيرته الحافلة؛ فإضافة إلى تقلبه الصارخ بين الأنظمة السياسية الحاكمة، وعدم ممانعته التقرب إلى السلطة؛ ناصرية كانت أو ساداتية أم مباركية، فإن اللافت أن ثقافته السياسية المحدودة، وإصراره على إعلان تفاعله، موقفه، ورأيه، بإيجابية، بالإضافة إلى زجه الدائم بنفسه في مستنقع السياسة، أوقعه في حرج بالغ؛ فهو الذي أعلن ترحيبه بالتوريث؛ عندما صرح لصحيفة بريطانية بأن «جمال مبارك شاب رياضي وجميل ومنفتح، وقادر على تسلم مقاليد الحكم بعد والده»، وفي توقيت متزامن مع سفر جمال مبارك إلى أميركا، واتجاه نظام مبارك إلى تمهيد الأرض لتوريث الحكم للإبن، لم يتردد في دعم «الوريث»، وقال لرئيس تحرير جريدة «المصري اليوم»، في يونيو 2010، إنه سينتخب جمال مبارك لو ترشح للرئاسة، لأنه «متمرس سياسياً، ودارس اقتصاد في الخارج». وفى سبتمبر 2012، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من تولي محمد مرسي وجماعته، شئون الحكم، كان محل ترحيب كبير، وحفاوة بالغة، من محمد بديع، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، أثناء حفل الاستقبال الذى أقامه السفير أحمد عبد العزيز قطان، سفير السعودية بالقاهرة، بمناسبة العيد الوطنى للمملكة، وهو الحفل الذي شهد أيضاً حواراً ضاحكاً بينه وأشرف ثابت، ممثل حزب النور السلفي في مجلس الشعب المنحل، وعلاوة على هذا، هو الذي وصف محمد مرسي بأنه «صاحب ثقافة عالية، ويحترم الرأي والرأي الآخر، وكذلك حرية التعبير الفني والأدبي والثقافي، بالإضافة إلى أنه متابع للسينما العالمية، وعارف ما معنى الثقافة ومعنى السينما» وبعد عزل الرجل قال : «لا لقيت حرية ولا ديمقراطية ولا أي حاجة حصلت» !

ربما يرى البعض أن مثل هذه المواقف تدخل في باب الحرية الشخصية، وليست لها علاقة بالشأن السينمائي، رغم قناعتي بأنها جزء أصيل من التناقض الذي أنوه إليه، ومع هذا أسوق مثالاً آخر لهذه التحولات؛ فقبل أن ينقضي عامان على اغتيال «السادات»، قام عادل إمام ببطولة فيلم «الغول» (1983)، تأليف وحيد حامد وإخراج سمير سيف، ومن خلاله وصف العهد «الساداتي» بأنه كان يحكمه «قانون سكسونيا»، الذي يغيب فيه العدل، وانتهت أحداث الفيلم باغتيال الطاغية «فهمي الكاشف» (فريد شوقي)، بمحاكاة درامية للطريقة التي أغتيل بها «السادات»، ونفس الكلمات الأخيرة التي نطق بها قبل أن يلفظ أنفاسه : «مش معقول» !
أما اللافت للنظر، بقوة، أن الفنان، الذي وصف ب «الناصري»، ولخص رأيه في عبد الناصر، في حواره مع أشرف عبد الباقي، بأنه «زعيم حقيقي .. نظيف اليد .. كان قيمة حقيقية وصاحب مشروع كبير .. عمل لصالح الفقراء والبسطاء ولذا خرجوا، يوم وفاته، يندبونه»، لم يجد ما يحول بينه والموافقة على بطولة فيلم «2 على الطريق» (1984)، سيناريو وحوار فاروق صبري وإخراج حسن يوسف؛ رغم علمه، حتماً، أنه يدخل ضمن منظومة تعمد أنور السادات تدشينها لتشويه سلفه، وتصفية حساباته مع الحقبة الناصرية، فالنجم «الناصري»، كما قيل، لم يندهش، ولم يثر أو يغضب، وهو يرى أن الفيلم، الذي تستغرق مدة عرضه على الشاشة ساعتين، استهلك ساعة منهما في رصد علاقة البطلين «ممدوح» (عادل إمام) و«حنان» (شمس البارودي)، التي توطدت في اليونان، بينما خصص الساعة الثانية، بأكملها، لتمرير الأكاذيب المُلفقة، والأساطير المزعومة، التي تطعن في سيرة «غبد الناصر»، وجاءت على هوى الممثل حسن يوسف، بطل ومخرج فيلم «عصفور له أنياب» (1987)، تأليف ابراهيم محمد علي، الذي يتناول أزمة مهندس أتهم بالرشوة، لأنه يقاوم الفساد، فيتم الزج به في مستشفى الأمراض النفسية، وفيلم «القطط السمان» (1978)، تأليف عزت الأمير، الذي تتصدره لافتة تُشير إلى أن أحداثه تقع عام 1967، ويروي قصة المقاول الكبير «الهلباوي» (صلاح منصور)، الذي تتوطد علاقته و«حسن قدري» (صلاح نظمي)، رئيس المخابرات في العهد الناصري، الذي استولى على مجوهرات الأسرة المالكة، وسهل عمليات تهريب الأموال إلى سويسرا، وإبرام صفقات تخريب القطاع العام، واتهمه الفيلم بأنه «مثلي»، لكن فيلم «2 على الطريق» يقطع شوط تشويه «عبد الناصر» إلى نهايته؛ عندما يتحدث عن «عزت» (عادل أدهم)، أحد مراكز القوى، الذي يستغل منصبه، في النظام الناصري، ليُمارس قهره على المواطنين؛ فينتزع الفتاة «حنان» من عائلتها، ويتزوجها سراً، بعد أن يفرض الحراسة على والدها (صلاح نظمي) ويتهم شقيقتها (حنان سليمان)، بالضلوع في شبكة دعارة، وعندما يعلم بأمر علاقتها السرية، أثناء رحلة اليونان، والشاب «ممدوح»، يُصدر أمراً باعتقال والده (عز الدين إسلام)، كما يأمر زبانيته، وبطانته، بالتنكيل بالفتى، وتلقينه درساً قاسياً، قبل أن يلقى «ملك التعذيب»، كما كان يُطلق على نفسه، حتفه في حادث سيارة مأساوي، وهو في طريقه إلى الإسكندرية، في نسخة طبق الأصل من الحادث، الذي راح ضحيته حمزة البسيوني، الذي تخرج في الكلية الحربية، وانضم إلى تنظيم الضباط الأحرار، وكوفيء بإدارة السجن الحربي، واشتهر بتعذيب المعتقلين السياسيين، المشكوك في ولائهم للنظام الناصري، لكن سيارته اصطدمت، وهو في طريقه إلى الإسكندرية، بإحدى السيارات المحمّلة بحديد تسليح المبان، ومات؛ بعد ما اخترقت جسده أسياخ الحديد، وهو ماحدث بالضبط ل «عزت» (عادل أدهم)، في فيلم «2 على الطريق»، الذي قام ببطولته «الناصري» عادل إمام، وانتهى بالعبارة الساذجة «الحب هو شجرة الخير في كل زمان ومكان» !
«غيبوبة» أم «سبوبة» !
في أحوال كهذه أين يقف الفنان، في حال كان صاحب موقف ورؤية، وماذا يفعل حيال مثل هذه الأعمال الفنية، التي تتعارض وقناعاته السياسية و«الأيديولوجية» ؟
هل يرفض بشكل قاطع ؟ أم يكتفي بأن ينظر إلى الأمر بوصفه «أكل عيش» و«رزق» لا ينبغي أن يقف في وجهه، وإلا أتهم بالبطر، وجاز عليه القول المأثور «من رفس النعمة نال النقمة» !
حرية الاختيار مكفولة، بكل تأكيد، شريطة أن ينحاز الفنان إلى قناعات حقيقية، ومباديء يؤمن بها، بالفعل، من دون متاجرة بأفكار، و«أيديولوجيات»، تقوده إليها بوصلة تحددها الاتجاهات، والمتغيرات الاجتماعية والسياسية من حوله، والزمن الذي يعيشه، أملاً في اقناع الجميع بأنه «رجل كل العصور» !
( عن جريدة ” القاهرة ” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 سبتمبر 2020 )
بقلم
مجدي الطيب
