أفلام الصيف.تغيرت بنية المجتمع فاختفت أفلام الشواطيء وصارت عارا. بقلم مجدي الطيب
في زمن الإنتاج السخي، وقت أن كانت قائمة الأفلام، التي تُعرض في الصالات التجارية، تضم ما يزيد عن مائة فيلم في العام الواحد، كان من الطبيعي، والمنطقي، ألا تتجاهل السينما، في موضوعاتها، أية قضية، حتى ولو كان محورها الموسم الصيفي، وما يجري فيه، من مرح، لهو، فرح ومتعة بريئة، وإن لم تتغافل، أحياناً، وبقدر طفيف، متعمد،عن الاقتراب من الهموم والمشاكل، التي تتزامن مع أوقات المرح والمتعة؛ فهي أفلام للترفيه، ولا ينبغي أن تكون سبباً في تكدير صفو الجمهور، الذي أقبل على هذه النوعية ليستمتع، وينفض عن نفسه الهموم، وربما يتخفف من أعباء واقعه، كما كان يفعل على الشواطيء، عندما يتخفف من ملابسه !
اللافت للنظر أن ما يُطلق عليها «أفلام الصيف»، لم يكن لها اعتبار، لدى منتجي السينما، في الحقبة الملكية، حتى أن الباحث لا يكاد يجد فيلماً من هذه النوعية، في قوائم إنتاج تلك الفترة، باستثناء فيلم «البحر بيضحك» (إنتاج 1928 / إخراج إستيفان روستي وأمين عطا الله)، الذي تكون من أربعة اسكتشات محورها البحر، وفيلم «شاطيء الغرام» (إنتاج 1950 / إخراج بركات)، الذي تحكي أحداثه قصة الشاب الثري (حسين صدقي)، الذي التقى مُعلمة متوسطة الحال (ليلى مراد) على شاطيء في مرسي مطروح، بينما أنهالت «الأفلام الصيفية»، كالمطر في فترة الستينيات والسبعينيات، وكأنها قطرات الماء البارد، التي تُنعش الجمهور، في مواجهة قيظ الصيف، وحرارة الشمس !
الأمر الثاني، الذي ينبغي التنويه إليه، أن ثمة فارقاً كبيراً بين الأفلام، التي تحمل اسم مدن ساحلية، لأنها تطرح موضوعا لا علاقة له بالمصايف التي تعج بها : («إسكندرية ليه» و«إسكندرية كمان وكمان» على سبيل المثال)، أو تلك التي يتم اختيارها، كموقع للتصوير فقط، بما يعني أن أحداثها كان يمكن تصويرها على أرض أية مدينة أخرى : («موعد على العشاء» (إنتاج 1981 / إخراج محمد خان)، وفيلم «الخبز المُر» (إنتاج 1982 / إخراج أشرف فهمي). بينما هناك أفلام تبدو وكأن عناوينها ذات صلة حميمة بموضوع دراستنا، لكنها ليست كذلك على الإطلاق : («آثار فيالرمال»، «بحر الغرام»، «ليلى بنت الشاطيء»، «شاطيء الأسرار»، «شاطيء الحب»، «شاطيء الذكريات»و«الأزواج والصيف»، لا علاقة لها، مُطلقاً، بمغامرات الصيف ولا بموضوع دراستنا، رغم ما توحي به أسماؤها !
ساذجة وسطحية باستثناءات نادرة !
المفارقة أن الغالبية العظمى من تلك النوعية من الأفلام، إن لم يكن جميعها، اتفقت، انطلاقاً من هدفها الطامح للترفيه فقط، على تقديم موضوعات تتسم بالسذاجة، والسطحية، وكأن الجدية تُفسدها، وتُخرجها من سياقها، ولا نستثني من هذا التجربة المنفردة، في فيلم «البنات والصيف» (إنتاج 1959)، التي شهدت تعاون ثلاثة مخرجين : عز الدين ذو الفقار، صلاح أبو سيف وفطين عبد الوهاب، في إخراج ثلاث قصص، من تأليف إحسان عبد القدوس؛ إذ يمكن القول إنها أفلام اجتماعية ترصد «جرائم شاطئية»، وهو ما ينطبق على فيلم «إجازة بالعافية» (إنتاج 1966 / إخراج نجدي حافظ)، الذي يتناول مغامرة صديقين فازا بجائزة عبارة عن قضاء أسبوعين في الإسكندرية، ويقعا في حب صحفيتين مكلفتين بتغطية الرحلة، لكن المخرج خليل شوقي يتمرد على ارتباط أفلام الصيف بالسذاجة، ويطرح قضية جادة في فيلم «معسكر البنات» (إنتاج 1967)؛ إذ يختار منطقة المعسكرات الشاطئية في منطقة أبي قير بالإسكندرية، ليطرح قضية المجتمع المتشدد، الذي يؤمن بالانغلاق، والتزمت، وضرورة الفصل بين الذكور والإناث، وينتصر المخرج، وفيلمه، لمبدأ أن المجتمع السليم قوامه الرجل والمرأة، وهي القضية التي يبدو أنها كانت تشغل الدولة في تلك الفترة؛ حيث يتناولها المخرج حسام الدين مصطفى، بشكل آخر، في فيلم «شاطيء المرح»(إنتاج 1967)، الذي يُندد بالمجتمع الذكوري، ورجعية الأباء، ويدعو لتحرر المرأة، ومنحها استقلاليتها، بينما يكتفي المخرج سعد عرفة، في فيلم «أجازة صيف» (إنتاج 1967)، بالعودة إلى أفلام المغامرات الصيفية، التي تجري أحداثها في رأس البر، وليس الإسكندرية كما جرت العادة، ومن خلال قصص وعلاقات المصيف، يؤكد على الدور الذي لعبه الصيف، والحب، في تغيير سلوكيات شخص شرير إلى الأفضل. أما فيلم «حكاية 3 بنات» (إنتاج 1968 / إخراج محمود ذو الفقار)، فتحكي أحداثه قصص ثلاثة بنات يستثمرن ، بعقليات متناقضة، أجازة المصيف بالإسكندرية للزواج فيقعن، باستثناء واحدة، في شر أعمالهن. ومع مجيءعام 1992 يحاول المخرج أحمد فؤاد أن ينفي صفة السذاجة والتفاهة عن الفيلم الصيفي، ويتبنى، من خلال فيلم «الحب في طابا»، رسالة يدق من خلالها ناقوس الخطر، للتحذير من مرض نقص المناعة (الإيدز)، ولا يكتفي بهذا، وإنما يوجه أصابع الإتهام للمافيا االصهيونية، ويُحملها مسئولية التخطيط لنشر المرض بين شباب مصر، لإضعاف قوة مصر .. ومستقبلها .
صيف رومانسي جداً
في المقابل لم تخل بعض أفلام الصيف، من قصص رومانسية اشتد لهيبها بفعل حرارة الصيف، والشمس الحارقة،على الشواطيء، مثلما حدث في فيلم «العش الهاديء» (إنتاج 1976 / إخراج عاطف سالم)، الذي اختار كاتبه مصطفى محرم، أن يتناول قصة كاتب (محمود ياسين) هجر القاهرة إلى الإسكندرية، ليعتزل الناس، ويجد الوقت، والظروف، المناسبة، ليبدع أعماله، وهناك يلتقي، على أحد شواطيءالاسكندرية، امرأة (برلنتي عبد الحميد) شديدة الاعتزاز بذاتها، ويتزوجها، لكن زواجهما يواجه بعض المشاكل. وفي فيلم «جنس ناعم» (إنتاج 1977 / إخراج محمد عبد العزيز)، يكتب علي الزرقاني، بجراة، عن ثلاثة أصدقاء (عادل إمام وسمير صبري وسمير غانم) يجدوا حلاً لأزمتهم المادية، عبر الاحتيال على المتصابيات من النساء إلى أن يحدث ما يُغير قناعاتهم . وعلى نفس النهج الجريء يكتب المخرج سعد عرفة فيلم «رحلة العمر» (إنتاج 1974)، الذي تدور أحداثه في فندق على شاطيء سيدي عبد الرحمن، ويتناول، بشكل صادم، وجرأة غير مسبوقة، علاقة حميمية بين مدير بأحد البنوك (أحمد مظهر) وفتاة أجنبية الأصل (شمس البارودي)، تقيم مع عمتها في القاهرة، وتورط الرجل المُحافظ في علاقة آثمة . ومرة أخرى تتحول الإسكندرية إلى مسرح لأحداث تجربة مهمة، ممثلة في فيلم «بيت من رمال» (إنتاج 1972 / إخراج سعد عرفة)، الذي يحكي قصة حب رومانسية تنتهي بشكل مأساوي؛ حيث الفتى “علي” (علي كمال)، الذي يبلغ من العمر 17 سنة، ويقع في غرام “أمينة” (بوسي)، التي تصغره بعام، لكن ترفض عائلتاهما ارتباطهما لصغر سنهما، ويهربان إلى الإسكندرية، لتغرق الفتاة في أحد الشواطيء، في حادث عبثي مؤلم.
أيقونات صيفية
لا يمكن الحديث عن أفلام الصيف، من دون التوقف عند فيلم «أبي فوق الشجرة» (إنتاج 1969 / إخراج حسين كمال)؛ الذي يمكن النظر إليه بوصفه «أيقونة أفلام الصيف»، ليس فقط لكونه صاحب أعلى الإيرادات، وإنما لأنه يقدم المثال والأنموذج، لفيلم الصيف، سواء في شكله أو مضمونه، فالأحداث تدور حول مجموعة من الشاب اختاروا قضاء أجازتهم، في الإسكندرية، في العبث واللهو البريء، لكن أحدهم يقع في غرام راقصة، يهجر أصدقائه بسببها، وعندما تنقطع علاقته بوالده، يأتي للإسكندرية بحثاً عنه، وبدلاً من أن يستعيده يقع في حبائل الراقصة، وفضلاً عن الموضوع، الذي يحدث كثيراً في المصايف، يحقق الفيلم، على مستوى الشكل، قفزة هائلة، بتوظيفه المبهر للصورة، والإضاءة، والأغاني، التي مثل إخراجها، في حينها، سبقاً وتفرداً، حتى قيل أنها كانت الإرهاصة لما أصطلح على وصفه، في ما بعد بـ «الكليبات الغنائية»، وعلى صعيد المضمون يسلك «أبي فوق الشجرة» نهجاً مغايراً مقارنة بأفلام الصيف، التي كانت تولي اهتماماً بالكوميديا والجرائم الاجتماعية، وهو ما ينطبق على فيلم «أيس كريم في جليم»(إنتاج 1992 / إخراج خيري بشارة)، الذي تحول، من زاوية أخرى، إلى واحد من أهم أيقونات أفلام الصيف، وهو ما يُنتظر أن يتكرر مع فيلم «قبل زحمة الصيف» (إنتاج 2015 / إخراج محمد خان)، الذي فاجأ الجميع بشكله السينمائي، وصورته الساحرة، التي كان للبحر، والشمس، والفضاء المترامي، والأفق البعيد، دخلاً كبيراً في جمالها، ونقائها، واختلافها عن الصورة التقليدية للشواطيء، على شاشة السينما، وربما يُصبح «قبل زحمة الصيف» هو الفيلم الأخير الذي يختار الشاطيء محوراً لأحداثه، ويرصد المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، التي استجدت، وانعكست آثارها على صورة الشواطيء التقليدية، التي اختفت، واختلفت تركيبة مرتاديها !
مفارقات كوميدية !
أثناء رصد ظاهرة أفلام الصيف، وضعنا أيدينا على مفارقات طريفة للغاية؛ فهناك عناوين أفلام ردت على بعضها البعض، كما في فيلم المخرج محمد عبد العزيز، الذي أنتجته ماجدة الخطيب عام 1974، وحمل عنوان «في الصيف لازم نحب»، واتسمت أحداثه بطرافة كبيرة، من خلال الطبيب (صلاح ذو الفقار)، الذي يرافق أربعة من نزلاء مستشفى الأمراض النفسية (نور الشريف، سمير صبري، سمير غانم ومحمد لطفي)، إلى الإسكندرية ليؤهلهم للعودة للحياة الطبيعية، من خلال الاختلاط بالمصطافين على شاطيء العجمي، الأمر الذي يتسبب في مشاكل عدة. ومع مجيء عام 1995 يُقدم المخرج عمر عبد العزيز، الشقيق الأصغر للمخرج محمد عبد العزيز، فيلماً بعنوان فيلم «في الصيف الحب جنون»، من إنتاج وبطولة سمير صبري، مع ليلى علوي، وضيفي الفيلم : أشرف عبد الباقي وعلاء ولي الدين. والمُدهش أن أحداث «في الصيف الحب جنون»، تبدو وكأنها تكشف الأسباب التي تقود إلى الجنون؛ من معاناة اقتصادية واجتماعية صعبة، وتوظيف خاطيء لقدرات البشر. أما المفارقة الأكثر إثارة فيفجرها فيلم «الحب على شاطيء ميامي»(إنتاج 1976 / إخراج حلمي رفلة)؛ فالعنوان يوحي عنوانه بأن أحداثه تدور على شاطيء ميامي بالإسكندرية، بينما الأحداث الحقيقية تدور في «ميامي بيتش»، الذي يقع في مدينة ميامي بولاية فلوريدا الأمريكية !
ملاحظات ليست عابرة
مثلما كانت سعاد حسني و«الولد الشقي» حسن يوسف، ومعهم القدير عبد المنعم مدبولي، بمثابة القاسم المشترك لمعظم أفلام الصيف، لخفة ظله وشقاوته، وطبيعة أدائه المناسب لأفلام المغامرات الخفيفة، بشكل عام، فمن الملاحظ أن بعض أفلام الصيف اكتسبت أهميتها، أيضاً، من وجود ثلاثي أضواء المسرح مجتمعين؛ مثلما هو الحال في فيلم «فرقة المرح» (إنتاج 1970 / إخراج فطين عبد الوهاب)، أو في شخص سمير غانم وحده، كما في فيلم «24 ساعة حب» (إنتاج 1974 / إخراج أحمد فؤاد)، فيما لعبت الأغاني، والاستعراضات، دوراً كبيراً في اكتمال متعة مشاهدة أفلام الصيف، ونجاحها في الترفيه عن قطاع كبير من الجمهور، الباحث عن المتعة المجردة؛ خصوصاً أن الأغاني، والاستعراضات، شهدت احتشاد عدد كبير من الشعراء والملحنين والمطربين .
غير أن من المؤسف أنه منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، ونتيجة لما اعترى بنية المجتمع المصري من متغيرات جوهرية اجتماعية واقتصادية ودينية، توارت أفلام الصيف باستثناء فيلم «البحر بيضحك ليه» (إنتاج 1995 / إخراج محمد كامل القليوبي)، ومن بعده فيلم «قبل زحمة الصيف» (1995)، إخراج محمد خان، وإن كان من أهمهم، في سياق قراءة الظاهرة أن نُشير إلى فيلم «إسماعيلية رايح جاي» (إنتاج 1997 / إخراج كريم ضياء الدين)، الذي جرت أحداثه في الإسماعيلية، بوصفه نقطة تحول، ليس في نوعية أفلام الصيف الخفيفة فحسب، وإنما في تاريخ السينما المصرية بأكملها؛ إذ يُعد حجر أساس ما أطلق عليه السينما الشبابية؛ التي أنتجت في ما بعد؛ مثل فيلم «شورت وفانلة وكاب» (إنتاج 2000 / إخراج سعيد حامد)، بعد ما لفت الفيلم أنظار المنتجين والمخرجين والمؤلفين إلى أماكن تصوير جديدة، مُغايرة لما اعتادت السينما استهلاكه كثيراً، وأضاف طبيعة جغرافية ، لم تتطرق إليها السينما المصرية من قبل، ما أسهم في تغيير صورة، وموضوعات، السينما المصرية، التي دارت في فلكها لدرجة الملل !
مجدي الطيب