تفاصيل عن العدد التذكاري من مجلة ” الكرمة” الخاص بالسينما المصرية يكشف عنها وائل سعيد
ويختم وائل سعيد بأن عدد مجلة الكرمة يبدأ بحوار بطل فيلم «16» الحائز على السعفة الذهبية، وينتهي بفيلم «لما بنتولد» الذي يمثل مصر في سباق الأوسكار 2021.
admin رئيسية, شخصيات ومذاهب, مختارات سينما ازيس 0
.. ورحل المثقف الرفيع، متعدد المواهب، شفيع شلبي، الذي أفنى عمره في الدعوة الى “تحرير العقل”، وتبنى بمفرده إنتاج موسوعة “أعلام مصر في القرن العشرين”، عبر المركز العربي للافلام الوثائفية، الذي يملكه، وحاور من خلالها : المعماري الكبير حسن فتحي، والأدباء المفكرين والفلاسفة : د. لويس عوض، نجيب محفوظ، د.يوسف إدريس، ود.زكي نجيب محمود .. وغيرهم، كما عاش حياته يدعو إلي مجابهة مختلف التحديات، بالمشاركة في تأسيس “الدولة”، وهو الأمر الذي يتأتى، في رأيه، ببناء مؤسساتنا الشعبية، من نقابات دستورية عصرية مستقبلية، و جمعيات شعبية فاعلة، و اتحادات قوية مؤثرة، باعتبارها لبنات تأسيس دولة الشعب المصري العظيم.
شفيع شلبي دفع ثمن حبه لوطنه
شفيع شلبي “حكاية” شاءت الظروف أن أتعرف عليها، بعد ما وضعتني في طريقه، وعملت معه، كما شهدت لحظة تأسيس المركز العربي للأفلام الوثائقية، ومن ثم تعرفت عليه عن قرب . وربما تتيح لي الأيام المقبلة الحديث عنه باستفاضة ..تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وألهم زوجته السيدة الفاضلة سمية الشناوى ونجله الوحيد شادي وشقيقه الإذاعي عُمر وعائلته الصبر والسلوان
شفيع شلبي هو تاريخ من الدأب؛ سواء على صعيد عمله في الإذاعة ( شفيع شلبي في كل مكان / صور بالراديو وبرنامج قدمه عبر إذاعة وادي النيل اختار لمقدمته موسيقى محمد فوزي في أغنيته “بلدي أحببتك يا بلدي”..وغيرها) والتليفزيون (سينما في علب /الشارع المصري/ البيت العريشي (ضمن حلقات جاب فيها سيناء من شمالها إلي جنوبها بعد التحريرمباشرة) ..وغيرها ، فمن خلال برنامج “سينما في علب”، الذي استوعبته الخريطة طوال الفترة من عام 1976، وحتي بداية سبتمبر عام 1981، قدم مايقرب من ألف فيلم، ما بين “سينما المؤلف”، والسينما بشكلها التقليدي، والسينما التجريبية، والكثير من تجارب المخرجين الشبان وقتها، مثل خيري بشارة، و محمد خان، و غيرهما. ومن خلال برنامجه “الشارع المصري”، قدم مجموعة من الحلقات كانت بمثابة حجر أساس العمل الوثائقي، بمعناه المحبب للمشاهد بعيداً عن أفلام المساجد، التي كانت شائعة وقتها، كأنموذج للفيلم التسجيلي، اذ تناول من خلالها تاريخ القاهرة القديمة، والاسلامية، مثل شارع محمد علي والقلعة، والمعز لدين الله الفاطمي، وشكل الموالد في تلك الفترة، وطرز وعمارة الشارع المصري . وللأسف تعرض لظلم شديد. ولم يلتفت أحد لمشروعه الثقافي التنويري الكبير، مثلما لم يستفد الإعلام المصري من قدراته، كمبدع شامل، واعلامي موهوب، ومثقف موسوعي، وحتي عندما أغلقت الابواب في وجهه واتجه للعمل الخاص، قام بتدشين المركز العربي للأفلام الوثائقية، الذي امتلك من خلاله تراثاً من الحوارات، نجح عبرها في أن يصون ذاكرة الثقافة المصرية، وأمسك بما لم يعد ممكناً الإمساك به، بأكثر مما فعلت “الدولة” نفسها .
فهل تتحرك وزارة الدولة للاعلام للحصول على هذا “الكنز الوثائقي”، بعد الرجوع الي عائلته، من أجل دعم مكتبة التليفزيون، خصوصاً أنه كان مذيعاً باتحاد الاذاعة والتليفزيون، وابناً للاعلام المصري، قبل احالته للتقاعد، وهو في ريعان شبابه .. وأجمل سنوات نضجه وعطائه ! .
“شفيع” الذي عرفته
الزمان : مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي .. المكان : إشارة مرور بشارع رمسيس .. الحدث : سيارة 128تقف بجوار السيارة اللادا، التي استقلها بجوار مالكها صديقي ورفيق صباي، وفجأة يطل من ال 128بوجهه الطفولي الجميل :”انت فين ؟” فأرد عليه :”عايش في الدنيا”. وبحدسه استشعر أن لدي ما يكفيني، ورغم هذا سألني :”بتعمل ايه يعني ؟” فأجبته :”خلصت الجيش، واشتغلت في السياحة بأسوان، لكنني تركت الشغل، وعدت للقاهرة”. ومع تحول إشارة المرور إلى اللون الأخضر أملى عليّ رقم هاتفه (الأرضي طبعاً)، وودعني قائلاً :”كلمني ضروري” !
هكذا كان اللقاء والإذاعي، كما كان يحب أن يُطلق عليه، شفيع شلبي، الذي ترجع علاقتي به إلى منتصف السبعينيات، من القرن الماضي، عندما كنت أدرس بكلية الألسن، وكان يزوروني في الشقة، التي استأجرناها أنا وشقيقي، الذي كان يدرس بكلية الهندسة بجامعة القاهرة، وكثيراً ما تناقشنا في برامجه، ثم كان له الفضل في انضمامي إلى جمعية الفيلم، التي كانت تشترط لقبول العضوية، أن يزكيك أحد أعضائها القدامى، وتولى هو المهمة، وبانتهاء الدراسة، وحصولي على ليسانس الألسن، التحقت بالخدمة العسكرية، وجاء توزيعي في مسقط رأسي أسوان، وبانتهاء الخدمة عملت بالسياحة، لكنني لم أجد نفسي فيها، وقررت النزوح إلى القاهرة، لأجد نفسي وجهاً لوجه مع “شفيع شلبي” في إشارة المرور!
بعدها بأيام قليلة، أجريت المكالمة الهاتفية المتفق عليها بيننا، وكانت المفاجأة أن عرض عليّ العمل معه في المشروع الذي موله، ووضع حجر أساسه عام 1981، وأطلق عليه اسم “المركز العربي للإنتاج الوثائقي”، وكانت مهمتي تفريغ الشرائط التي صورها مع كبار الأدباء والمفكرين؛ مثل : د. لويس عوض، نجيب محفوظ، د. زكي نجيب محمود، شيخ المعمارين حسن فتحي ود. يوسف إدريس، وشاءت الأقدار أن أتواجد أثناء تصوير حلقة مهندس الفقراء حسن فتحي، في منزله بدرب اللبانة بحي القلعة، وحلقة د. يوسف إدريس، بمكتبه بجريدة الأهرام . كما كنت مُكلفاً بتوزيع المخاطبات، والإخطارات، على السفارات، والمؤسسات الثقافية الخاصة، التي تُعلمهم بتدشين “المركز العربي للإنتاج الوثائقي”، وطبيعة عمله.
لا أنكر أنني كنت مستمتعاً بالعمل، بدرجة كبيرة؛ إذ كنت أطمح، طوال عمري، بالتواجد في الحقل الصحفي والإعلامي، وكنت أدرك، يقيناً، أنني “دخلت كلية الألسن غلط”، وأن مكاني في كلية الإعلام، التي ضاعت مني بفارق 2, %، لكن شيء ما كان يوسوس في نفسي بأن “شفيع شلبي يحاول أن يشغل نفسه”، وأنه يُدرك أن “مكانه الصحيح على شاشة التليفزيون المصري”، وأنه “لا يصح إلا الصحيح”، غير أنه بسبب طبعه الكتوم، وقدرته على إخفاء مشاعره، وعدم الإفصاح عن قراراته؛ لاعتياده العيش في عالم خاص قوامه الحذر، واستقلالية مبكرة (جاب العالم، وهو طالب، قبل نصف قرن، ب 20 جنيهاً فقط، مُستخدماً طريقة Auto Stop ، وانفصل بحياته عن عائلته، التي تقيم في حلوان، بسن مُبكرة)، كان يُدير دولاب العمل في المركز العربي للإنتاج الوثائقي، على قدم وساق، بينما عقله مشغول بأمر ما
كانت لديه طاقة كبيرة، مصحوبة بإرادة قوية، وقدرة غير عادية على المثابرة، وبلوغ هدفه، مهما كلفه الأمر، وفِي زمن لم تكن “التكنولوجيا”، قد بلغت فيه ما بلغت من تقدم، وطفرة هائلة، كان موصولاً بأحدث التقنيات العالمية، من أجهزة تسجيل وآلات تصوير، وهواتف، يختارها صغيرة الحجم، لتسهل مهمته، في الحركة، ومواكبة أي حدث، ولم يكن يفرط بسهولة في مايملك، خصوصاً الشرائط المصورة، حتى أنه خصص غرفة بأكملها، بالمركز العربي للإنتاج الوثائقي، كمكتبة للشرائط، والوثائق المرئية، التي لم أكن أعرف، بدقة، ما جدواها ؟ وكيف يتسنى له أن يستثمرها في زمن متغير، ولاهث الإيقاع، بدرجة مذهلة، وبالطبع لم أكن أجرؤ على مفاتحته في تساؤلاتي، لعلمي أنه، سابق عصره، بحق، وأن لديه “مشروعاً” لا يوجد مخلوق يعرف تفاصيله، وأبعاده، سواه !
في تلك الفترة كنت أقيم بفندق شعبي، في شارع نجيب الريحاني، وأقطع المشوار اليومي لمقر المركز العربي للإنتاج الوثائقي، بحدائق القبة، بدراجة هوائية ملك للمركز، كنت استغلها، في غير أوقات العمل الرسمية، في الذهاب إلى دور العرض السينمائي النائية؛ مثل فندق السلام بجوار نادي الشمس، لمشاهدة أفلام مهرجان القاهرة السينمائي وقت انعقاده، فضلاً عن الندوات، والمؤتمرات، التي ينبغي التواجد فيها، لأن “الأستاذ” يقوم بتصويرها لحساب المركز، حيث كان يعمل بطريقة ال One Man Unit، ورغم أن الظروف لم تكن مواتية، في السوق الإعلامي، لكي يعمل المركز بكامل طاقته، ولأن غالبية المواد المصورة، مع رموز ثقافية، وشخصيات عامة، تدخل في سياق “مشروع مؤجل”، مختمر في ذهن “شفيع” وحده، ولا ينطبق عليها المقولة الاقتصادية “دورة رأس المال”، إلا أنه لم يحدث، مُطلقاً، أن واجه المركز أزمة، أو ارتباكاً، من أي نوع، في تسديد استحقاقاته . وربما لهذا السبب كافأت الأقدار شفيع شلبي بأن عاد للشاشة الصغيرة، بمبادرة من السيدة مديحة كمال، رئيس القناة الثانية، وكانت “هانم” بمعنى الكلمة، تتمتع بحس راق، وذوق رفيع، وربما لهذا السبب اختارت تقديم برنامج باسم “جولة الفنون”، يُلقي الضوء على حركة الفن التشكيلي، وكانت بالمناسبة زوجة للكاتب الصحفي المعروف علي حمدي الجمال . ما يعنيني هنا أن شفيع شلبي عاد لتقديم البرامج، بعد أزمة قرارات سبتمبر الشهيرة، وبعد أن جرى تجميده، والأهم أن مديحة كمال أطلقت يده، في اختيار فكرة البرنامج، الذي يقدمه على شاشة القناة الثانية، وهو ما علمته عندما جاءني ذات ليلة، ومن دون أن يبدو عليه أنه سعيد أو “طاير من الفرح”، وكان كذلك بالفعل في قرارة نفسه، وقال لي : “جهز نفسك علشان عندنا شغل في التليفزيون” .. هكذا ؟ وببساطة ! .. يالها من رصانة لم أرها في حياتي .. إنه الحلم الذي طال انتظاره يا رجل، واللحظة التي عشت من أجلها.
وربما لا يعرف الكثيرون أن “شفيع شلبي”، كان واحداً من ضحايا القرارات التي أصدرها السادات، في الثالث من سبتمبر 1981، وأوحى للرأي العام خلالها أنها استهدفت “حظر” استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية أو حزبية، و”التحفظ” على بعض الاشخاص المشاركين في «تهديد سلامة الوطن باستغلال الأحداث الجارية، وعلى أموال بعض الهيئات والمنظمات والجمعيات، وإلغاء التراخيص الممنوحة بإصدار بعض الصحف والمطبوعات مع التحفظ على أموالها ومقارها»، ولم يجرؤ على القول إن ما جرى “اعتقالات” سافرة لمعارضي اتفاقية كامب دافيد؛ فبمقتضى القرارات تم اعتقال 1536، من رموز المعارضة السياسية في مصر، كما تضمنت نقل بعض أعضاء هيئة التدريس والجامعات والمعاهد العليا، وعدد من الصحفيين والإذاعيين، الذين قامت «دلائل جدية علي أنهم مارسوا نشاطاً له تأثير ضار في تكوين الرأي العام، أو تربية الشباب أو هدد الوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو سلامة الوطن»، إلي الوظائف التي يحددها الوزير المختص، وكانت النتيجة أن تقرر نقل عدد من هيئات التدريس لوزارات مختلفة؛ مثل : د.أمينة رشيد أستاذ الأدب الفرنسى بكلية الآداب جامعة القاهرة، د.عواطف عبد الرحمن الأستاذ بكلية الإعلام، د. رشدى سعيد فرج، د. لطيفة الزيات، د. عبد المحسن طه بدر، د.عبد المنعم تليمة، د.جابر عصفور، د.سيد البحراوى، د.صبرى المتولى ود.حسن حنفى، بينما تقرر نقل 67 صحفياً وإذاعياً إلى هيئة الاستعلامات، كان من بينهم شفيع عبد الرحمن شلبي، الذي احتل رقم 47 في القائمة، التي ضمت الإذاعيين الكبيرين طاهر أبو زيد وصلاح زكي، بالإضافة إلى : مقدمة البرامج الدينية كاريمان حمزة، والمخرج التليفزيوني يوسف مرزوق،
الناقد سامي السلاموني
وضمت قائمة الصحفيين : الناقد سمير فريد، الناقد سامي السلاموني، والكتاب : فهمي هويدي، مصطفى بهجت بدوي، محمد سلماوي، رفعت السعيد، امينة شفيق، لطفي الخولي، صلاح حافظ، جلال عارف، محمود عوض، محمد عودة، أحمد حمروش، صافى ناز كاظم، حسين فهمي مصطفى، شوقي عبد الحكيم، حامد زيدان، فتحى رضوان، كامل زهيري، محمد عبد القدوس، عبد الله إمام، عادل الغضبان، حسين عبد الرازق، صلاح عيسى، فريدة وأمينة النقاش، حازم هاشم، حسنين كروم، رشدي أبو الحسن وجلال العشري .ومن الشخصيات العامة ضمت القائمة : الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، فتحي رضوان، وزير الإرشاد القومي في عهد عبد الناصر، عمر التلمسانى مرشد جماعة الإخوان المسلمين، الزعيم الوفدى فؤاد سراج الدين، عبد المنعم أبو الفتوح رئيس حزب مصر القوية، وشاهندة مقلد، أبوالعلا ماضي، محمد السيد حبيب، محمد سيف الإسلام، ناجح إبراهيم، محمد حلمى مراد، حامد زيدان، أبوالعز الحريرى، عبدالغفار شكر، مصطفى بكرى، كرم زهدى، سامح عاشور، كمال أحمد، طه السماوى، الفنان على محمد أحمد الشريف، حلمى شعراوى، إسماعيل صبرى عبد الله، ، د. محمد أحمد خلف الله، جمال أسعد عبدالملك، الدكتور محمد كمال عطية الإبراشى، كما ضمت قائمة المعتقلين بعض القساوسة منهم الأنباء بنيامين والأنبا بيشوى والأنبا ويصا والأنبا بيمن، الشيخ عبد الحميد كشك، امام مسجد الملك بشارع مصر والسودان، الشيخ عبد الرشيد صقر، إمام مسجد صلاح الدين بالمنيل، الشيخ يوسف البدري، إمام مسجد في حلوان، ورئيس جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الشيخ أحمد المحلاوي إمام مسجد القائد ابراهيم بالاسكندرية، الشيخ حافظ سلامة، إمام مسجد النور بالعباسية، والشهداء بالسويس، وحلمي الجزار، طبيب وأمير أمراء الجماعات الإسلامية، المفكر القبطى د. ميلاد حنا، مع تحديد إقامة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية، وبطريرك الكرازة المرقسية بوادى النطرون، وتعيينلجنة من 5 من الأساقفة لإدارة الكنيسة، بينما هرب خيرت الشاطر والكثير من قياديي الأخوان.
الطريف أن “السادات” صنَّف المعتقلين فى خطابه، الذي ألقاه يوم 5 سبتمبر 1981، بأنهم : 469 جماعة تكفير وهجرة، 235 جماعة إسلامية، 100 تطرف دينى من الإخوان المسلمين وأعضاء جمعيات دينية إسلامية وأئمة مساجد متطرفين، 259 مثيراً للتعصب وتبادل عنف بين مسلمين ومسيحيين، 107 قيادات مسيحية متعصبة ومتطرفة، 240 مثيرا للشغب ومجرماً من أصحاب السوابق الجنائية، 57 متهما فى حوادث الزاوية الحمراء، 36 من الأحزاب (التى سماها المناهضة)، منهم 16 حزب التجمع، 7 من حزب العمل، 3 «الوفد»، إضافة إلى 12 بتهمة التخابر مع السوفييت. مؤكداً أنه اتخذ قراراته بمقتضى المادة 74 في الدستور، التي استخدمها من قبل في مواجهة انتفاضة 18 و19 يناير 1977، وتنص على : «لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستورى أن يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر، ويوجه بيانا إلى الشعب ويجرى الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات خلال ستين يوما من اتخاذها».
أما الأكثر إثارة فكانت رواية الكاتب الصحفي مكرم محمد أحمد، التي جاء فيها : «كنت قد انتقلت إلى دار الهلال من فترة بسيطة، وأتذكر أننى كنت قد ذهبت مع السادات فى أول رحلة لى للخارج كرئيس تحرير لمجلة (المصور)، وكانت هذه الرحلة للولايات المتحدة، وفى قصر “بلير هاوس”، حيث يُقيم السادات ضيفا على إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، أفصح لنا للمرة الأولى عن الاجراءات الاستثنائية، التي يريد اتخاذها، وعندما راجعته غضب بشدة، وبعد أن خطب فى ميت أبو الكوم.. دعانا لكى نجلس إلى جواره فى بيته، (وهناك طلب من كل واحد فينا أن يكتب أسماء من يريد اعتقالهم) كما طلب منى بالتحديد أن أشن حملة صحفية ضد محمد حسنين هيكل، فقلت له يا (ريس) موسى صبرى لديه تاريخ وصراع مع هيكل، ولكنى إذا فعلت أنا ذلك فلن يصدقنى أحد. وقال لنا : اجلسوا مع النبوى إسماعيل (نائب رئس الوزراء ووزير الداخلية) لكى يتحدث كل واحد عن خصومه ليكونوا ضمن المتحفظ عليهم. وكان منصور حسن وزير الإعلام موجودا إلى جوارنا، وكان ضد التصعيد وضد عدد من الإجراءات الاستثنائية، وبعدها بأيام قليلة جرى تشكيل وزاري محدود خرج به من الوزارة ! بينما طلبوا مني في تلك الليلة أن أكتب قائمة بخصومي فى الصحافة، ولما قلت لهم : لا يوجد لى أعداء.. قال “النبوى” : لديك صحفى اسمه ماجد عطية.. اكتب اسمه، فقلت له هو محرر اقتصادى (يسارى على خفيف) ولا توجد ضغائن تجاهه. وعرفت فى هذه الليلة أن العديد من القيادات الصحفية كتبوا أسماء خصومهم الشخصيين، وكان بعضهم لا يعادى السادات أو يقصده الرئيس فى هذه الاعتقالات أو الوقف عن العمل. وقالوا فى مكتب النبوى أن عبد الله عبد البارى (رئيس مجلس إدارة الأهرام فى ذلك التوقيت) أبلغ عن العديد من الصحفيين منهم محمد سلماوى لوجود خصومة شخصية بين الاثنين وتم نقله فعليا مع غيره إلى وظيفة إدارية. أما النبوي إسماعيل فقال :«كان اجتماعا عاجلا ضم 4 أشخاص أسهموا فى اتخاذ القرارات : أنا والنائب مبارك والمشير أبو غزالة وطبعا الرئيس السادات، وجاءت مرحلة اختيار الأسماء التى اشتركت فيها جميع الأجهزة الأمنية، داخل وخارج وزارة الداخلية، وتضمنت القائمة 1536 شخصا، وكان ممكنا أن تكون أكثر من ذلك، أما المثقفون والسياسيون فلم يتعد عددهم نحو 40 أو 50 شخصا. وفي إجابته على سؤال حول ما إذا تم التأكد، وتحرى الدقة، أثناء إعداد قوائم الأسماء، قال “النبوي” : المفروض أنه فيه دقة وتحرٍّ، ولكن لا يسلم الأمر من أسماء “كده ولا كده”، ليست لها علاقة بالأمر؛ فقد تم الاعتراض على بعض الأسماء، وأنا عن نفسى اعترضت على اعتقال عمر التلمسانى والشيخ كشك وبعض السياسيين !
والحقيقة أن شفيع شلبي عاد للظهور على شاشة التليفزيون المصري، بعد سقوط قرارات سبتمبر الساداتية، وما تضمنته من اعتقالات ونقل إلى هيئة الإستعلامات، وبعض الوزارات، بناء على مبادرة من مديحة كمال، رئيس القناة الثانية أنذاك؛ حيث قدم برنامجاً جاب فيه سيناء، بشمالها وجنوبها، بعد تحريرها بالكامل، بالإضافة إلى بعض المدن المصرية مثل : دمياط وبورسعيد، التي كانت محطته الأخيرة، حيث مُنع بعدها من تقديم البرنامج، والظهور على الشاشة، بتحريض من محافظ بورسعيد، وتعليمات من سامية صادق رئيس التليفزيون آنذاك
وسبحان الله .. بعد أن كان “شفيع” أقرب إلى “طريد الشاشة”، الذي يخشى “الإعلاميون” مجرد الاقتراب من ظله، حتى لا تثور ثائرة صفوت الشريف، فيغضب، وينكل بهم؛ خصوصاً بعد ما تزعم الدعوة إلى تأسيس اتحاد الإذاعيين، حيث لم يكن يعترف بوصف “الإعلاميين”، وتوعد “الشريف” من يفكر فيه، أو يتعاطف معه، أو يدعمه، بالويل والثبور، وقال قولته الشهيرة :”على جثتي” !
عاد شفيع شلبي إلى الشاشة، بعد ما تبدلت مقولة “طريد الشاشة”، ليطارده لقب “المسنود”، الذي تحميه مديحة كمال، التي آمنت بموهبته، وأطلقت يده، وفكره، وهيأت له كافة الظروف، التي تكفل له حرية الحركة، والقرار، وامتلاك نفس الامكانات، الممنوحة للعاملين في القناة الثانية، وقطاع التليفزيون، من حجز كاميرات، وساعات مونتاج، ووقت محدد على خريطة البث، رغم أنه ليس على قوتهما، بل كان محسوباً بالمفهوم الإداري، على قوة الإذاعة، و”صوت العرب”، على وجه التحديد، وبينما انتظر الجميع أن يختار الجلوس على مقعد وثير، في استديو مُكيف الهواء، آثر “الصعب”، كعادته، وانطلق إلى محافظات مصر، يرصد هموم مواطنيها، ويشتبك مع محافظيها، بادئاً رحلة العودة إلى الشاشة بسيناء، التي كانت وقتها قد تحررت بالكامل، وجاب شمالها وجنوبها، يرصد نواقصها، وخيراتها، ويثمن الدور الوطني، والواعي، لأهلها، وينفي عنهم الشائعات المُغرضة، التي طالتهم، وبحسه التسجيلي الرصين، وميله الفطري للتوثيق، جعل حلقات البرنامج أقرب إلى الأفلام التسجيلية، التي أطلق على إحداها اسم “البيت العريشي”، وكشف النقاب من خلالها، عن أصالة وثراء وتكامل “البيت العريشي”، والبيئة السيناوية بأكملها، وفِي نهاية الرحلة، التي استعرض فيها “بانوراما” أرض الفيروز، وأطلال “ياميت”، التي كانت في الأصل قرية سيناوية، بين مدينتي رفح والعريش، احتلتها إسرائيل، بعد أن أجلت سكانها من بدو سيناء، وحولتها إلى واحدة من أكبر المستوطنات الإسرائيلية (أنشئت على شاطيء مساحته تصل إلى 200 متر)، ولم ترحل عنها، إلا بعد تدميرها بالكامل، قبل أيام من تسلم مصر سيناء رسمياً في 25 أبريل 1982. وبإنتهاء الجولة، التي ناهزت الثمانية أيام، كانت المواجهة، أو كما يسمونها في البرامج التليفزيونية، التي تزور المحافظات لتُجمل صورة المحافظ فقط، حوار السيد المحافظ، بينما هي في “العُرف الشفيع شلبي”، لحظة الصدام الوشيك، التي يحمل فيها الأمانة، التي حمله إياها البسطاء من المواطنين والأهالي، في شكل شكاوى، وأوجاع، وهموم، ويضعها في صورة أسئلة أمام محافظ الإقليم، وهو ما فعله في مواجهته مع اللواء منير شاش، وكان محافظاً لشمال سيناء (1982 -1996) ثم اللواء مجدي سليمان، وكان محافظاً لجنوب سيناء (1983- 1986). وبانتهاء الرحلة الشاقة، التي لم يترك فيها ركناً في شمال وجنوب سيناء، من دون أن يُنقب فيه
، عاد فريق البرنامج إلى القاهرة، وأذيعت الحلقات، وكان لها مردود كبير؛ كونها قدمت جانباً مجهولاً من الحياة في سيناء، كما ألقت الضوء على “السيناوية”، الذين لم نكن نعرفهم. ولعل من المناسب أن أنوه هنا، إلى أنه رغم التعب والإرهاق وساعات التصوير المضنية، في أماكن مجهولة، وصحراء مقفرة، غير المعتادة بالنسبة لأطقم البرامج التليفزيونية، التي كانت تختار التصوير في المحافظات وقتها، فإن أحداً من فريق العمل في البرنامج لم يتذمر، أو يتنمر، أو يجأر بالشكوى، بل كانت روح المرح، والدعابة، وخفة الظل، تسود الجميع، ولن أنسى ما حييت اللحظات التي وقع فيها اختيار فريق العمل، من فني الكهرباء والإضاءة، ومسجل الصوت، ومساعد الكاميرا، على أغنية “حبيت بلدي” للعمدة سيد إسماعيل، ليغنوها، والسيارة تسير بين جبال سيناء، ومنحنياتها الخطرة، بعد أن أدخلوا تعديلاً على كلماتها، وبدلاً من أن يقولوا :”حبيت بلدي .. وعشان بلدي.. أنا عاوزك تكبر يا ولدي” كان الغناء بصوت واحد، وكأنهم مٌدربين على يد سليم سحاب :”حبيت سينا .. وتراب سينا.. أنا عاوزك تكبر يا مينا”، كما استغنوا عن المقطع الذي يقول فيه عمنا سيد إسماعيل :”وأشوفك بتعمر “فيها”، وتزرع ورد في صحاريها” ليُصبح :” وأشوفك بتعمر “سينا”، وتزرع ورد في صحاريها”، وسرعان ما انضمينا إليهم، أنا ومدير التصوير ثم شاركنا بحماسة منقطعة النظير الأستاذ شفيع، الذي كان بشوشاً، ودوداً، ومتواضعاً، مع كل فريق العمل، لكنه في العمل “مايعرفش أبوه”، بعكس صورته الذهنية لدى من لم يتعامل معه، وإن كنت لا أعلم، حتى هذه اللحظة، كيف ولماذا وقع اختيار فريق العمل وقتها على هذه الأغنية لتُصبح رفيق الرحلة / المغامرة !
المهم أن الجميع، من قيادات ومسئولين وموظفين، أيقن، بعد العودة، وإذاعة حلقات البرنامج، التي كان له صداها ومردودها الكبيرين، أن مديحة كمال عرفت كيف تضع ثقتها في شخصية تتمتع بكفاءة هائلة، وقدرة كبيرة على تحمل المسئولية، ومن ثم تحرك فريق عمل البرنامج، بقيادة شفيع شلبي، الذي كان يحلو له، بالمناسبة أن يجلس في المقعد الأمامي، بجوار سائق عربة التليفزيون “دودج ڤان”، التي كان يستخدمها التليفزيون وقتها، ولم يكن يفعل هذا من باب الوجاهة، أو “البرستيج”، بل ليُكمل مهمته، كقائد للفريق، يحل المشاكل المرورية الطارئة، ويعطي للسائق الإذن بالتوقف للراحة في كافيتريا على الطريق أو التبضع من “كشك” على قارعة الطريق، ويشهد الله أنه كان سخياً، وكريماً بدرجة لا يمكن تخيلها؛ فعلى عكس المتبع في “الأوردرات”، التي تزور فيها برامج التليفزيون المحافظات، وتتحمل تلك المحافظات عبء إقامتها وإعاشتها، رفض “شفيع” أن تتحمل محافظتا شمال سيناء وجنوبها، مليماً واحداً نظير إعاشة الفريق، ولعلها المرة الأولى التي يتحمل فيها إنتاج التليفزيون النفقات كاملة، بعد ما تبين أن “شفيع” اصطحب مندوب إنتاج، ليتولى هذه المهمة، لتُصبح عادة في كل سفريات البرنامج، ليس من أجل زيادة الأعباء، كما اتهمه البعض، بل من أجل صون كرامته، وكرامة فريق البرنامج، ومن أجل الاستقلالية، التي تجعله نداً لمحافظ الإقليم الذي يزوره، وليس اليد السفلى، كما كان حال بعض المخرجين، الذين يتعامل معهم بعض المحافظين بمبدأ :”أطعم الفم تستحي العين” !
بإيجاز حط “شفيع”، وبرنامجه، الرحال في مدينة دمياط، وفور وصوله نزل إلى شوارعها، والتقى حرفييها، وناقش معهم مشاكل صناعة الأثاث، وثمن ظاهرة أن “لا أحد عاطل في دمياط”، سواء أطفالها وشبابها ورجالها أو كهولها، وتبعاً للاستراتيجية، التي وضعها للبرنامج، قام بتجميع نتائج الجولة الميدانية، ووضعها، بشفافية، أمام د. أحمد جويلي، وكان محافظ دمياط في ذلك الوقت (تولى منصبه في المدة من 1984 حتى 1991 ثم أصبح محافظاً للإسماعيلية ووزيراً للتموين والتجارة الداخلية). ومرة أخرى أذيعت حلقات البرنامج، فأسهمت بتصحيح صورة دمياط، التي تعمل ولا يعرف أهلها البطالة، وكعادته لم يركن شفيع شلبي إلى الراحة، والاستمتاع بالنجاح، لكنه شد الرحال إلى المدينة الحرة : بورسعيد، التي صور فيها، جرياً على عادته، أكثر من حلقة متنوعة، من بينها حلقة عن مخاطر صحية، وبيئية، تعرض لها سكان أحد الأحياء في بورسعيد، لكن اللواء عبد الرحمن الفرماوي، الذي كان محافظ الإقليم وقتها، استشاط غضباً بمجرد علمه بالأمر، من مندوب العلاقات العامة الذي كان يرافق فريق البرنامج، وطالب شفيع شلبي بتسليمه الشرائط المصورة، وبالطبع رفض “شفيع”، وجرت مفاوضات مكثفة، في مكتب المحافظ، الذي هدد بالتصعيد، وتشبث “شفيع” بموقفه، وقرر مغادرة بورسعيد، ربما قبل أن يُطرد منها، وتكررت المحاولات، التي استهدفت تسليم الشرائط المصورة، عند الدائرة الجمركية، وتعرض فريق البرنامج لتحرشات عدة، واجهها “شفيع” بشجاعة منقطعة النظير،
الاذاعية سامية صادق
وواصلت بعثة البرنامج طريق العودة إلى القاهرة، ولحظة وصول سيارة التليفزيون، ودخولي مع شفيع شلبي من الباب الرئيسي طلب أحد قيادات الأمن منه تسليم الشرائط المصورة في بورسعيد، ومرة أخرى تكرر الرفض القاطع، وأصر “شفيع” على أنها عهدة، وسيقوم بتسليمها إلى مكتبة التليفزيون، وأودعها خزانته في الطابق السادس إلى حين بدء عمل المكتبة، في الصباح، لكن مع إشراقة صباح اليوم التالي كانت سامية صادق، رئيس التليفزيون، قد أصدرت قرارها بإيقافه عن العمل، لتنتهي “حدوتة الشاطر شفيع” !
مجدي الطيب
مجدي الطيب كاتب وناقد سينمائي مصري مقيم في القاهرة.مصر
—
admin رئيسية, شخصيات ومذاهب, مختارات سينما ازيس 0
انظر الحلقة على الرابط المرفق
admin رئيسية, شخصيات ومذاهب, مختارات سينما ازيس 0
لا جديد في القول بأن وحيد حامد هو أشهر من كتب السيناريو في مصر وأكثرهم شعبية بين السينمائيين والمثقفين والناس العاديين، وقد أكد تكريمه في مهرجان القاهرة السينمائي الأخير هذه الحقيقة، فقد كان هناك شبه إجماع على أحقيته بالتكريم، وفي حفل الافتتاح نال القدر الأكبر من التصفيق وقوفًا، ولم تخل وسيلة إعلامية كتابية أو إذاعية أو مصورة من إشادة بهذا التكريم. أما وفاته فقد أثبتت أن هذه العبارات أقل من مكانة وحيد حامد الحقيقية في قلوب الناس، وحتى الهجوم الذي شنته عليه أصوات كثيرة تنتمي إلى التيار الديني الرجعي لم يكن سوى برهان آخر على قوة تأثير الرجل على أعدائه.
مع ذلك يبقى ما سبق تعميمًا أو “كلامًا عامًا” لم يُختبر باستطلاع شعبي أو دراسة في أعمال وحيد حامد أو في آراء المشاهدين لأفلامه أو الكتابات عنه وعن أفلامه.
مبدئيًّا أعتقد أن شعبية الرجل الأساسية هي بين صفوف المتعلمين من أبناء الطبقة الوسطى خاصة ذوي الميول الليبرالية واليسارية والمتفتحة عمومًا، بينما تتقلص هذه الشعبية كلما ابتعدنا عن المركز؛ تجاه الإسلاميين وأصحاب الثروة والسلطة الذين طالما انتقدهم في أعماله.
وأهمية هذه المساحة من شعبية وحيد حامد أنها تضم الشرائح القادرة على التعبير عن نفسها والدفاع عن انحيازاتها وذوقها من إعلاميين ومثقفين وفنانين ومدرسين وموظفين إلى باقي فئات الطبقة الوسطى التي طالما دافع عنهم وتبنى قضاياهم وهمومهم.
على أية حال يحتاج هذا الرأي –كما ذكرت- إلى مسح أو استطلاع يدعمه، ولكن بغض النظر عن مدى صحته فالمقال الآتي محاولة لفهم طبيعة وأسباب شعبية وحيد حامد غير المسبوقة بالنسبة لكاتب سيناريو عربي.
٠٠“فلاش باك“- 1986: انتصار الواقعية الجديدة
كان عام 1986 محوريًّا في تاريخ مصر وتاريخ السينما المصرية وتاريخي الشخصي، فقد اجتمعت فيه عدة أحداث مهمة مثل أحداث تمرد جنود الأمن المركزي، كما وصلت فيه الديموقراطية التي بدأت مع حكم مبارك إلى نقطة الذروة، قبل أن ينحني القوس تدريجيًّا عقب أحداث الأمن المركزي، وهذه الديموقراطية ظهرت أعراضها في السينما، وقد شهد 1986 عرض أفلام جريئة وصل بها مخرجو الثمانينيات إلى ذروة إبداعهم. من هذه الأفلام “للحب قصة أخيرة” لرأفت الميهي و”الحب فوق هضبة الهرم” و”البريء” و”ملف في الآداب” لعاطف الطيب و”الطوق والأسورة” لخيري بشارة و”البداية” لصلاح أبو سيف و”الجوع” لعلي بدرخان و”اليوم السادس” ليوسف شاهين و”عودة مواطن” لمحمد خان وغيرها. هذا العام كان أيضًا بداية اهتمامي ومتابعتي للسينما المصرية الجديدة واشتراكي في “نادي سينما القاهرة” حيث بدأت في المشاهدة المنظمة الجادة لكلاسيكيات وجديد السينما العالمية.
في هذا العام شاهدت كل الأفلام سابقة الذكر في عروضها الأولى، وهو أكبر عدد من الأفلام المصرية أشاهدها خلال فترة وجيزة، وقبل ذلك لم أكن أتابع السينما المصرية ولا أشاهدها في دور العرض إلا نادرًا، لكن مع 1986 بدأت في الاهتمام بها واحترام الكثير من صناعها، كمشاهد عادي يبدأ طريقه في تذوق الفن السينمائي والاهتمام بقضايا بلده الاجتماعية والسياسية.
الصدام مع النظام
في النصف الأول من الثمانينيات تراجعت مساحة “الحرية الجنسية” التي وصلت لذروتها في أفلام السبعينيات، مفسحة المجال أمام “الحرية السياسية” التي زادت بعد مقتل السادات.
قبل “ملف في الآداب” و”البريء” تردد اسم وحيد حامد للمرة الأولى على لسان جيلنا عقب عرض فيلم “الغول”، من إخراج سمير سيف وبطولة عادل إمام وفريد شوقي، 1983، ولم أكن من هواة عادل إمام ولا من الذين يهتمون بمشاهدة أعماله في دور العرض السينمائي، فقد كان بالنسبة لي ولأصدقائي مثل محمد رمضان الآن، أو محمد سعد منذ عشرين عامًا، فهو في رأي المتعلمين من أبناء الطبقة الوسطى: مهرجًا يزغزغ مشاعر الغوغاء. لكن “الغول” كان محور أحاديثنا بسبب مشهد النهاية الذي يحاكي اغتيال السادات، ومهما ادعى الراحلان وحيد حامد وسمير سيف أن هذه المحاكاة لم تكن مقصودة وأن الرقباء هم الذين اخترعوها، فلا أعتقد أن مشاهدًا واحدًا من الذين رأوا الفيلم أيامها لم تخطر بباله هذه المقارنة!
بغض النظر عن ملائمة مقارنة نهاية الفيلم باغتيال السادات، فالذين قتلوه لم يفعلوا ذلك دفاعًا عن الحرية والعدل، ولكن لانتمائهم لتيار فاشي معاد للحريات أكثر من نظام السادات.. بغض النظر عن هذا، فإن فكرة الفيلم التي تروي حكاية صحفي نبيل يفشل في انصاف الحق بقلمه فيلجأ لقتل الرجل الظالم، تقول باختصار إن الديكتاتورية والظلم ومصادرة حرية التعبير تؤدي إلى العنف والإرهاب.. ربما لن تؤدي إلى منع الاغتيالات السياسية، التي طالت أسماء مثل غاندي ولينكولن وكينيدي، ولكنها قد تمنع تحول الإرهابيين إلى تيار شعبي كما حدث في مصر منذ منتصف الثمانينيات.
من بين كل الأفلام والأعمال الفنية “السياسية” التي ظهرت في النصف الثاني من الثمانينيات كان “ملف في الآداب” و”البريء” أكثرهم جرأة، ولا أذكر أن هناك أفلامًا مصرية سابقة انتقدت ممارسات الداخلية بهذا الشكل، إذا تحفظنا على أفلام “الكرنك” التي كانت تنتقد نظام عبد الناصر، أو أفلام الستينيات التي تنتقد عصر الملكية.
لم يدع أي من “ملف في الآداب” أو “البريء” أن هذه الممارسات تنتمي للعهد البائد، والأحداث في كلا الفيلمين معاصرة بشكل واضح.
استطاع “ملف في الآداب” أن يفلت من الرقابة بإظهاره أن ممارسات الضابط سعيد، صلاح السعدني، فردية وليست منهجًا منظمًا للداخلية، وذلك بوضع ضابط آخر، نائب لسعيد، يرفض ما يفعله، وكذلك مشهد يجمع الاثنين بقائدهما الذي يحذر سعيد مما يفعله. لكن الفيلم يبدأ بمقدمة مخصصة لشرح الكيفية التي يتحول بها الضابط الصغير سعيد (صلاح السعدني) من المثالية إلى القسوة والاستعداد لتلفيق التهم للأبرياء، عندما يقوم قادته بإهانته وإجباره على التنازل عن قضية دعارة قام بالقبض على أعضائها متلبسين، لأن رئيسة الشبكة امرأة نافذة صاحبة علاقات وثيقة بالسلطة. هذه المقدمة التي يبدو وكأنها تشرح سبب تحول سعيد إلى ما هو عليه، تشير من ناحية ثانية إلى أن “النظام” هو المسؤول، وليس سعيد، وأن الحالة الأولى التي شاهدناها لم تكن فردية ولا استثنائية في مسيرة سعيد، لإنها لو كانت حادثة فردية لما أدت إلى تحوله بهذا الشكل الحاد. ولو افترضنا أنها حادث فردي فربما يمكن لنا أن نتصور أيضا أن نائب سعيد يمكن أن يتحول بالطريقة نفسها.
هذا الالتباس موجود في الكثير من أعمال وحيد حامد، كوسيلة للتغلب على الرقابة، خاصة عقب ما حدث مع فيلم “الغول”، ولكن بالأخص عقب ما حدث مع فيلم “البريء”.
لا يكتفي “البريء” بالحديث عن قيام النظام والأجهزة الأمنية باعتقال المعارضين سياسيًّا واتهامهم بالخيانة ووصمهم بـ”أعداء الوطن”، ولكن بطليه الرئيسيين ينتميان لوزارة الداخلية: الأول هو المجند الريفي الساذج، أحمد سبع الليل (أحمد زكي)، الذي نتعرف على مراحل تجنيده وتحويله إلى أداة للقتل وتنفيذ الأوامر دون تفكير، والثاني هو قائد السجن العقيد توفيق شركس (محمود عبد العزيز)، وهو أقوى شخصيات الفيلم وأفضلها كتابة، أكثر حتى من شخصية سبع الليل أو الشاب الوطني المعتقل ظلمًا؛ حسين وهدان، التي لعبها ممدوح عبد العليم، ولعله واحد من أفضل الشخصيات التي كتبها وحيد حامد.
المشهد الأول الذي نرى فيه العقيد شركس نراه يستعد لعيد ميلاد ابنته، ثم نراه في عيد الميلاد أبًا مثاليًّا مرحًا يداعب الأطفال، ولكن بمجرد وصوله إلى المعتقل يتحول لإنسان على النقيض تمامًا. وعلى الرغم من الهيئة المخيفة لشركس في المعتقل فإنه يخفي شخصية جبانة للغاية. عندما يدخل عليه أحمد سبع الليل فجأة داقًا بقدميه على الأرض يجفل العقيد شركس مفزوعًا.
تعرض “البريء”، كما هو معروف، لمذبحة رقابية قبل عرضه للمرة الأولى، ثم سُحب من دور العرض عقب أحداث الأمن المركزي التي حدثت بعد عرض الفيلم بأسابيع، ولم يعرض كاملاً إلا بعد تسعة عشر عامًا؛ ضمن تكريم ذكرى أحمد زكي في مهرجان القاهرة السينمائي. وقد تركت هذه المعركة آثارها على أعمال وحيد حامد اللاحقة، فقد أعقبه بعدد من الأعمال التي تخلو من الاشتباك والشغب، حتى بداية التسعينيات، ثم بعدد من الأعمال الجريئة التي تبدو فيها المساومات والتحايلات على الرقباء أكثر وضوحًا.
٠٠“فلاش باك“- 1977: السيناريو الأول
قبل “الغول” أذكر أيضًا أنني شاهدت فيلم “طائر الليل الحزين”، إخراج يحي العلمي، 1977، عندما كنت صبيًّا لا يزال في مرحلة المراهقة، ولكن لا أذكر هل شاهدته في عرضه الأول، أم بعد ذلك بشهور طويلة في إحدى دور عرض الدرجة الثانية التي كانت تملأ حي السيدة زينب.
“طائر الليل الحزين” هو أول عمل كتبه وحيد حامد للسينما، وبما أنني شاهدته في هذا السن فلا بد أنه كان محورًا لحديث المراهقين الصغار من زملائي، وأذكر بالفعل أنني أعجبت بالممثلة شويكار في هذا الفيلم، في دور المرأة الناضجة الشبقة، التي تذهب لأحد الملاهي وتلتقط عازفًا شابًا ليقضي الليل معها في غياب زوجها، رجل الأعمال والسلطة المعروف..
كان الفيلم جريئًا بمقاييس السينما المصرية، وكنا نضحك تحديدًا على عبارة قالها محمود عبد العزيز عندما قبض عليه بارتكاب جريمة قتل في الوقت الذي كان فيه مع شويكار: “أنا كنت في عز المعمعة”..
السيناريو… فكرة وحوار
لم نلتفت وقتها بالطبع لاسم كاتب السيناريو، ولكن مضمون الفيلم وصل إلينا: الاقتراب من أهل المال والسلطة خطر، وهؤلاء لا يهتمون سوى بشهواتهم والدفاع عن مكانتهم حتى لو سلموا شخصًا بريئًا إلى حبل المشنقة.
هذه “التيمة” theme هي أحد الأفكار، إن لم تكن الفكرة الرئيسية، التي تتردد عبر أعمال وحيد حامد كلها، وبشكل خاص مع الصعود المتواصل لطبقة “رجال الأعمال” وتزاوجها بالسلطة السياسية الحاكمة. أدرك وحيد حامد مبكرًا هذه العلاقة غير المشروعة بين السلطة والمال، وهي واضحة في أعماله الأولى وتتطور في أعماله مع تطورها المشئوم في الواقع. في “المنسي” (شريف عرفة، 1993) على سبيل المثال هناك شخصية رجل الأعمال التي يلعبها كرم مطاوع الذي يكره الفقراء بشدة. أعتقد أن هذا أول فيلم مصري يرصد هذه الظاهرة العجيبة؛ فالطبيعي أن يحقد الفقير على الغني وليس العكس، ويقارن الدكتور جلال أمين في أحد مقالات كتابه “ماذا حدث للمصريين – تطور المجتمع المصري في نصف قرن 1945- 1995” (كتاب الهلال، 1995) بين صورة الباشا سليمان نجيب في فيلم “غزل البنات” وعلاقته بالمدرس الفقير نجيب الريحاني، وبين صورة رجل الأعمال كرم مطاوع وعلاقته بمحولجي السكة الحديد في فيلم “المنسي”:
“.. إن كرم مطاوع ينظر إلى عادل إمام بكراهية حقيقية، وخوف مستطير، إذ أن عادل إمام يمثل له ماضيه القريب جدًا الذي يحاول نسيانه وينكره إنكارًا، بينما كان سليمان نجيب ينظر إلى نجيب الريحاني بعطف حقيقي مقترن بالإهمال والتجاهل“.
في “طيور الظلام” (شريف عرفة، 1995) يشرح وحيد حامد العلاقة بين المال والسلطة من خلال شخصيتي المحامين عادل إمام ورياض الخولي، اللذين انتقلا معًا من الفقر إلى الثراء عن طريق السياسة وعلاقات البيزنس المشبوهة ولكن الأول عن طريق الانضمام للدولة والثاني عن طريق الانضمام للإخوان.
تتردد الفكرة بأشكال أخرى في أعمال مثل “معالي الوزير” (سمير سيف، 2002) و”عمارة يعقوبيان” (مروان حامد، 2006) وفي “احكي يا شهرزاد” (يسري نصر الله، 2009) يشرح العلاقة بين السلطة والمال والإعلاميين في الفضائيات والصحافة.
ككاتب سيناريو هناك نقاط قوة ونقاط ضعف في أعمال وحيد حامد، فالحبكة عنده على سبيل المثال بسيطة إلى درجة السطحية أحيانًا، والسرد تقليدي دائمًا، لكنه يجيد خلق شخصيات درامية مثيرة، مأخوذة من الواقع، وقريبة من الناس العاديين، كما أن الحوار الجيد من أبرز أدواته. وفي معظم أعماله يمكن أن نلاحظ ولعه بجمل الحوار البليغة الذكية التي بدت واضحة منذ فيلمه الأول. في كثير من المقالات ومنشورات الفيسبوك التي كتبت عنه يشير أصحابها إلى الجمل “الخالدة” من أفلامه التي حفظها الناس مثل: “كل واحد فينا بيرقص بطريقته.. أنا بهز وسطى وأنت بتلعب لسانك” من “الراقصة والسياسي”، و”البلد دي اللي يشوفها من فوق غير اللي يشوفها من تحت” من “طيور الظلام”، و”أنا مش في خدمة الوطن.. أنا في خدمة الباشا سيادة اللواء وحرم الباشا سيادة اللواء” من “الإرهاب والكباب”، و”حلوان اضربت يا جدعان” من “النوم في العسل”، و”إحنا صغيرين أوى يا سيد” من “اضحك الصورة تطلع حلوة”، و”إحنا في زمن المسخ” من “عمارة يعقوبيان” إلخ.. إلخ.
في حوار أخير لوحيد حامد يقول:
“.. ما يميز النص السينمائي جملة الحوار. من الضروري أن تملك رشاقتها وصدقها، والجملة الحوارية الرشيقة تكتسبها من ثقافتك العامة وقراءتك للآداب وتذوق الشعر والمسرح. بالإضافة إلى مصداقية معايشتك للمجتمع، أن تأخذ منه وتعطيه” (من حوار لصفاء عبد الرازق– نشرة مهرجان القاهرة السينمائي 2020، العدد الأول).
هذا الولع بالحوار “الإيفيه”، المثير لحماس الجمهور، هو أحد الملامح “الشعبية” المميزة لأعمال وحيد حامد التي اكتسبها من تجاربه الأولى في الكتابة للمسرح ثم الإذاعة ثم كتابة المقالات الصحفية لاحقًا بداية من أوائل التسعينيات.
٠٠“فلاش باك“- 1992: اغتيال فرج فودة
مع حرب الخليج الثانية في نهاية 1990 وبداية 1991 وصلت موجة التطرف الديني إلى قمتها في مصر، وبدا الأمر كما لو أنها مسألة وقت أو إجراءات معدودة حتى يتولى أمراء التطرف ولاية مصر، ولكن هؤلاء راحوا –كالعادة- يتفاخرون بوجههم الدموي ويظهرون كرههم المميت لكل من يختلف عنهم أو معهم. وقد تعرض المثقفون من أبناء الطبقة الوسطى، بشرائحهم التي تحدثت عنها في بداية هذا المقال، لأكبر صدمة هزت كيانهم وهددت وجودهم مع اغتيال المفكر فرج فودة في الثامن من يونيو 1992. قبل ذلك كانت العمليات الإرهابية تستهدف سياسيين أو أجانب أو أقباط، وكان كثير من أبناء هذه الطبقة يتهربون من المواجهة وينافقون المتطرفين معتقدين أنهم بمأمن من شرهم أو يقنعون أنفسهم بأن هؤلاء المتطرفين أهل دين وصلاح وأن هناك حدودًا لا يتجاوزونها، وحتى الدولة بأجهزتها السياسية والإعلامية كانت تنتهج هذا الموقف المنافق للتيارات الإسلامية.
كان اغتيال فرج فودة بداية مرحلة جديدة من حياة وحيد حامد، ومن تاريخ الإنتلجنسيا المصرية عامة التي وجدت نفسها مهددة بالفناء.
في ذلك الوقت كنت لا أزال صحفيًّا تحت التدريب في “روز اليوسف” مع عدد من الزملاء منهم إبراهيم عيسى، وائل الابراشي، عبد الله كمال، وائل عبد الفتاح، محمد هاني، تحت قيادة نائب رئيس التحرير عادل حمودة، نتصدى للمتطرفين ودعاوى الحسبة أسبوعيًّا. وكنت قد أجريت تحقيقًا شارك فيه فرج فودة في بداية العام، وكانت المرة الأولى التي ألتقيه فيها مباشرة، بعد أسابيع من مشاهدته خلال المناظرة الشهيرة بمعرض الكتاب التي أودت بحياته.
عقب اغتيال فودة انضم إلينا وحيد حامد ضمن كتيبة الكتاب والمفكرين الذين قرروا التصدي للجماعات المتطرفة، وكانت أولى مشاركاته مقالة غاضبة ساخطة بعنوان “استيقظوا أو موتوا”، وتبعه بعدة مقالات مهمة أحدثت أثرًا كبيرًا وشجعت المزيد من الكتاب والفنانين المترددين على نزول ساحة القتال.
كانت هذه بداية مرحلة جديدة في أعمال وحيد حامد سأطلق عليها هنا وصف “الواقعية الصحفية”، أي معالجة الموضوعات الجارية actuality التي تتميز بها الصحافة، فلم يكن هذا وقت الحديث عن أزمنة ماضية أو الهروب إلى أنواع فنية فانتازية أو تجاهل الخطر اليومي الذي يتهدد البلد كلها، والذي استمر حتى 1997 تقريبًا.
مولد الواقعية الصحفية
قبل وحيد حامد لا أعرف سوى أعمال قليلة للغاية تنتمي لهذا التعريف – الواقعية الصحفية- كتبت بالمصادفة غالبًا، وتحت إلحاح الواقع الجاري، لعل أشهرها فيلم “العصفور” الذي كتبه لطفي الخولي وأخرجه يوسف شاهين 1972، ويتناول بعض التحقيقات التي نشرتها الصحف آنذاك مثل مجرم الصعيد وفساد شركات القطاع العام وهزيمة يونيو وخطاب تنحي عبد الناصر.
اللحظة في 1992 كانت مختلفة، لأن الصحافة والأفلام لم تكن فقط تغطي وقائع المعركة الدائرة بين الإسلاميين والفساد السياسي من ناحية وأنصار “التنوير” والديموقراطية من الناحية الثانية، ولكن كانت الصحافة والسينما نفسهما طرفًا أساسيًّا في هذه المعركة الدائرة، فقد كانت التيارات الإسلامية تشن حربًا ضروسًا ضد السينما والفنون، كما كان الفساد السياسي يبذل جهده للسيطرة على الصحافة الحرة بأية وسيلة. وقد اتخذ وحيد حامد من أعماله سيفًا ودرعًا ضد الإسلاميين ورجال الأعمال “الفاسدة” والممارسات الديكتاتورية من قبل الدولة. من المعروف أنه مسلسله التليفزيوني “العائلة” (إسماعيل عبد الحافظ، 1994) الذي كان من أوائل الأعمال التي ناقشت خطر المتطرفين الدينيين قد تعرض لمحاولات منع وحذف، خشية إغضاب المتطرفين(!) من حسن حظ وحيد حامد، وحسن حظ الصحافة والسينما وقتها، أن دولة مبارك المهددة بالفناء قررت أخيرًا أن تدعم حرية الصحافة والفنون وأن تتيح هامشًا أوسع من الديموقراطية، ليس من باب الإيمان بالحرية والديموقراطية، لا قدر الله، ولكن حتى يساندها الصحفيون والمثقفون والفنانون وممثلو الأحزاب السياسية والمجتمع المدني في حربها ضد الإرهاب. وقد استمرت هذه السياسة لعدة سنوات حتى نهاية 1997، لكن مع انتصار الدولة على الإرهاب بدأت في الرجوع تدريجيًّا إلى قواعدها القديمة المناوئة للصحافة وحرية التعبير والديموقراطية.. وصولاً إلى 2005 التي وصلت فيها العلاقة غير المشروعة بين السلطة ورجال الأعمال إلى ذروتها، تمهيدًا للمجيء بجمال مبارك خلفًا لوالده العجوز.
خلال الفترة من 1992 إلى 2006 قدم وحيد حامد عددًا كبيرًا من أعمال “الواقعية الصحفية” بدأت بـ”الإرهاب والكباب”، الذي كان في الأصل مقالاً صحفيًّا قرر حامد تحويله إلى فيلم بدلاً من إرساله للنشر (القصة رواها وحيد حامد أكثر من مرة، فقد كان المقال على مائدته في الفندق الشهير المطل على النيل الذي يكتب فيه يوميا، عندما جاء المنتج عصام إمام، شقيق عادل إمام، وقرأ المقال، وقال لوحيد هذا يصلح فيلمًا ولا تضيعه كمقال، واقتنع وحيد برأيه وقام بتحويله لفيلم على الفور)، وحتى “عمارة يعقوبيان” المأخوذ عن رواية علاء الأسواني التي حققت مبيعات قياسية لسبب رئيسي وهو انتمائها إلى “الواقعية الصحفية” أو “النميمة السياسية” كما وصفها البعض، فكل من الفيلم والرواية يشيران إلى شخصيات ووقائع معروفة في الأوساط السياسية والصحفية آنذاك.
يحيلنا “كشف المستور” (عاطف الطيب، 1994) مباشرة إلى مذكرات اعتماد خورشيد وسلسلة المقالات التي نشرتها “روز اليوسف” عن نساء المخابرات، وقد قورن أحد شخصيات الفيلم بصفوت الشريف وزير الإعلام آنذاك. ويبدو “طيور الظلام” كما لو كان مقالاً صحفيًّا عن الصراع على السلطة بين الإخوان المسلمين وفسدة الحزب الوطني الحاكم خلال التسعينيات وبعض وقائع وأحداث وشخصيات الفيلم تشبه الواقع كثيرًا، ويحيلنا “النوم في العسل” (شريف عرفة، 1996) إلى عدد من التحقيقات الصحفية التي نشرت آنذاك عن صحة المصريين الجنسية، ويجسد أحمد زكي في “معالي الوزير” شخصية وزير فاسد تذكر المرء بكثير من الشائعات والحقائق التي كانت تنشرها الصحف في ذلك الوقت عن بعض الوزراء، أما “احكي يا شهر زاد” فهو مجموعة من القصص التي نشرت بعضها الصحف. ويمكن تتبع ذلك الجانب الصحفي في أعمال أخرى مثل “محامي خلع” (محمد ياسين، 2002) و”ديل السمكة” (سمير سيف، 2003) و”دم الغزال” (محمد ياسين، 2005) وغيرها.
يذكر وحيد حامد في أكثر من حوار أنه كان على وشك أن يعمل صحفيًّا في الثمانينيات في مجلة “صباح الخير”، ولكنه هرب عندما كلفه رئيس التحرير بالعمل في قسم التحقيقات الصحفية.
ربما كانت مواهب وحيد حامد في مجال آخر غير الصحافة، لكنه كان يجيد كتابة المقال الصحفي، كما أن الصحافة حاضرة دائمًا في أعماله. يروي الصحفي وائل لطفي عن اتصال وحيد حامد به وإلحاحه عليه كي يكتب مقدمات حلقات برنامج “التوك شو” الذي تقدمه منى زكي في فيلم “احكي يا شهرزاد” (صحيفة “الوطن”، 4 يناير 2021). وشخصيًّا أعرف عددًا آخر من زملائي الصحفيين، خاصة من أقسام التحقيقات، كان وحيد حامد يستعين بهم في عمل تحقيقات ميدانية خصيصًا لأفلامه، أو تزويده بمعلومات إضافية ومفصلة عن تحقيقات سبق وأن نشروها في الصحف.
يمكن إرجاع هذه الطبيعة “الصحفية” لأعمال وحيد حامد إلى شخصيته أيضًا. فهو، حسب تأكيده في أكثر من حوار، يعشق النزول للشارع والاختلاط بالناس والحديث معهم، وهو على عكس معظم الكتاب يكتب فقط في الأماكن العامة المفتوحة لا داخل غرفة مغلقة. والأماكن التي كان يتردد عليها للكتابة معروفة؛ وأشهرها ذلك الفندق المطل على النيل، الذي كان يستقبل فيه الأصدقاء والزملاء من فنانين وصحفيين، حيث يتبادلون الأخبار والنميمة والآراء.
يجب أن أذكر أيضًا أن آخر الاشتباكات التي دخلها وحيد حامد كانت على صفحات الصحف من خلال مقالاته التي كتبها في أثناء حكم الإخوان وأشهرها “القرود الخمسة”، أو مقالاته عن أحد المستشفيات التي تجمع التبرعات أو مقاله عن صناعة الخوف الذي توقف بعد ردود الفعل عليه حتى عن الكتابة الصحفية (راجع حواره مع نسمة تليمة، صحيفة “الأهالي”- 18 ديسمبر 2019).
من الانتقادات التي توجه لكثير من أعمال وحيد حامد أنها مباشرة، سطحية، تتخذ مواقف منحازة مع، أو ضد، الشخصيات، وربما يكون ذلك أحد أعراض “الواقعية الصحفية” التي تتطلب موقفًا محددًا من القضية المعروضة، وغالبًا ما يكون صناعها مشغولين بموضوعات جارية ساخنة لا مجال فيها للتأمل أو التعمق.. وذلك غالبًا لأن صنَّاعها يهدفون إلى التوعية والتحريض من أجل تغيير الواقع بسرعة. وبالفعل أسهم وحيد حامد في توعية جمهوره من أبناء الطبقة الوسطى، ووضع على ألسنتهم الكثير من الحقائق والأفكار التي لم يكنوا يستطيعون التعبير عنها.. حتى لو كانت هذه الأفلام تحمل بعض مشكلات “الصحافة” نفسها.
عصام زكريا
عصام زكريا كاتب وناقد مصري مقيم في القاهرة.مصر
عن موقع المدينةmedinaportal.com
admin افلام, رئيسية, مهرجانات 0
مهرجانات السينما العالمية، ليست في اعتقادي أعيادا للسينمائيين فقط، ولكنها أيضًا إحتفالات للفنانين التشكيليين
ولايعود هذا فحسب، إلى أن فن السينما ينطوى على شكل من أشكال الفن التشكيلى ، متمثلًا فى الصورة السينمائية، والضوء والظل والديكور والإكسسوارات وغير ذلك من عوامل، تدخل فى باب الفنون المرئية، وإنما يعود أيضًا إلى أن بعض الأعمال السينمائية، تتخذ من الفنانين التشكيليين أبطالًا لها، ولم يكن مهرجان القاهرة السينمائى الدولى منذ نشأته استثناء من ذلك، بل كان للفن التشكيلى نصيب لا بأس به فى دوراته السابقة، وعلى سبيل المثال شهدت الدورات الأخيرة بداية من الدورة التاسعة والعشرين وحتى الدورة الثالثة والثلاثين مثلا، اهتمام بعض الدول والمنتجين والمخرجين أيضًا ،بصناعة أفلام تتخذ من الفنان التشكيلى محورًا رئيسيًا فى العمل الدرامى .
فمثلا في الدورة التاسعة والعشرين عرضت اليابان فيلم “أدان” إنتاج 2005 ويحكى قصة فنان تشكيلى يعيش مع أخته، ويصور مدى معاناته فى عرض أعماله وتحقيق حلمه ليصبح فنانا مشهورا ، وفى نفس الدورة تم عرض الفيلم الإيطالى “بونتورمو”وهو انتاج إيطالى 2004 والذى يتناول علاقة الفنان بالموديل الخرساء الذى قطع لسانها أثناء الحروب الهولندية وتصبح الفتاة مصدر إلهام له، وتتهم أنها ساحرة وتطالب محاكم التفتيش الكاثوليكية بحرقها ويستخدم هذا الفنان نفوذه من أجل إنقاذها
فيلم ” الجريكو “
وفى مهرجان القاهرة السينمائي الدولي32 لعام 2008 تم عرض ثلاثة أفلام تتناول سيرة حياة ثلاثة فنانين تشكيليين هم اليونانى “الجريكو” ، الإيطالى ” كارافاجيو “، الفرنسية “سرافين” ..ونبدأ بالجريكو أو “دومانيكوس ثوتوكولبولس ــــ Domenicos theotoko poulos “، قام بإخراج الفيلم المخرج اليونانى “ينيس سمازا جديس ـــ Yannis Samza Gdis” وهو من مواليد جزيرة كريت ، وقام بكتابة الفيلم سيناريست يونانى وكاتبة إنجليزية وهو إنتاج أوروبى (أسبانيا – اليونان – المجر)
لقطة من فيلم ” الجريكو “
وقد فاز الممثل اليونانى خوان ديجو بوتو بجائزة أفضل ممثل عن دوره فى هذا الفيلم ، وقد قاموا بتحضير هذا الفيلم فى عشرسنوات وتم عرضه فى 140 دار عرض سينمائية فى أنحاء العالم وشاهده فى اليونان فقط أكثر من مليون مشاهد ، وشاهدته ملكة أسبانيا فى عرض خاص باللغة الأسبانية وسألت المخرج لماذ إختياره للرسام ا” الجريكو” ؟ فرد قائلاً : ” إن منزله يبعد عن منزل الجريكو مسافة حوالى 300 متر فى نفس الجزيرة “كريت ” ، وأنه قد سبح فى نفس البحر الذى سبح فيه، وتنفس من نفس الهواء الذى تنفسه ،وسار تحت السحاب الذى يحجب الشمس عنه ،ونفس الشوارع والطرقات التى سار فيها أيضًا ، وكان حلم حياته أن يخرج له هذا الفيلم، الذى يسجل مرحلة تاريخية هامة فى الحضارة اليونانية ، وقد إعتمد هو وكاتب الفيلم، على مستندات حقيقية فى حياة الفنان ،ولم يلتزم بالسيناريو إلتزامًا حرفيًا ، لأن الفن من وجهة نظره يعتمد على الخيال .
وسألت المخرج أيضًا عن تلك اللوحات التى شاهدتها فى الفيلم ،هل كانت لوحات حقيقية، أم مطبوعة بطريقة الأوفست ؟
فكانت إجابته انها نسخ حقيقية مرسومة بيد ثلاثة فنانين يونانيين معروفين فى اليونان، ورسمت بنفس المقاسات الأصلية، وهى نموذج مطابق للأصل ، وسوف نقيم لها متحفًا خصيصًا لهذه الأعمال فى كريت، وقد تنهد المخرج فى سعادة قائلًا الآن أستطيع أموت وأنا مطمئن لأن حلمى قد تحقق .
وتدور أحداث الفيلم الناطق باللغة الإنجليزية في خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادىين، ويبدأ الفيلم بأسلوب السرد ،حيث يحكى البطل الجريكو قصة حياته، منذ شب فى مسقط راسه كريت التى كانت فى تلك الفترة واقعة تحت حكم البندقية، وهناك تعرف على الفن البيزنطى الذى آثاره كانت لاتزال قائمة ، وعندما رحل إلى البندقية بعد عام 1560 تعلم فن عصر النهضة الإيطالى من أساتذتها المصورين مثل “تيسيانو” ، “تتثورتو”
لوحة للجريكو
كما تعرف على فنون رافاييل ومايكل انجلو عندما ذهب إلى روما ،وشاهد بدء ظهور طراز النهضة فى وسط أوروبا ، وإذا كان الجريكو قد تشرب ملكة التعبير اللونى من فينسيا ،فإنه استمد من روما براعة التعبير بالشكل، وبعد أن استقر فى مدريد وأنجز بعض الأعمال، إتجه إلى طليطلة 1577، فعثر فيها على الجو الملائم لإبداعاته ، واتصلت الأسباب بين الجريكو وبين صفوة عصره من المفكرين والكتاب ورجال العلم ، إن أشخاص الجريكو فيها غرابة، وشئ من الضياع ،كأنها كائنات معلقة بين الحياة والموت ، وبين السماء والأرض، فلم يكن يعنيه تصوير السماء، وإنما كان معنيًا ، بأن يودع روحه وتأملاته فى ملامح الوجوه التى يرسمها، فكان لا يهتم بالتجسيد ، بقدر مايهتم بالتعبير عن العمق النفسى للشخصية، من خلال إستطالة الجسد الغريبة ، والنظرات الغارقة فى الحيرة ، واستخدام أقصى درجات اللون التعبيرية .
ومن المشاهد الرائعة فى الفيلم ،ذلك المشهد داخل أستوديو “تيسيانو” والذى كان يعج بالزائرين من إيطاليا ومن جميع أنحاء العالم .وتلك الأعداد الهائلة من الرسامين والموديلات، بأزيائهم المتنوعة وأوضاعهم المختلفة الشاقة، مابين الراقد والمستلقى والواقف والجالس والمعلق ، والعارى من نساء ورجال ، حتى الأطفال كانوا يجسدون بأجنحتهم أشكال الملائكة، وأحيانًا يعلقون ففى حبال تتدلى من السقف، فيجسدوا خيال الفنان ، كما يريد ، وهذه الإمكانيات الضخمة فى إستخدام الإضاءة الطبيعية والصناعية من زوايا متعددة ، وأيضًا من المشاهد الهامة فى الفيلم، التى تبرز روعة الحوار ،ذلك المشهد الذى دار داخل محاكم التفتيش بين الكاهن” جيفارا”، والرسام “الجريكو”
حيث دار ذلك الحوار الذى يعتبر محور الصراع الحقيقى فى الفيلم، بين النور والظلام ،وبين الخير والشر ، فقد سأله الكاهن، لماذا ترسم الناس كالقديسين ؟ فأجاب الجريكو، إن رسمها ساعدنى عن التعبير عن القوى الإلهية، فنحن نؤمن فى كريت، أن الحياة ترسلها الآلهة ..فأنا أحول الناس إلى قديسين، لتسير أرواحهم فى النور ..لأن النور قادر على هزيمة الموت .
فسأله الكاهن : هل رأيت الملائكة بتلك الأجنحة الكبيرة ؟
فقال : لا
الكاهن : ولكنك ترسمها، والناس سوف تعرف كيف تبدو الملائكة
فأجاب الجريكو : أليس الله هو الخالق الوحيد ..إننى أمنح العالم ألوانًا جديدة، وضوء جديد …فأمر الكاهن بحرقه، فقال الجريكو : ” إنك لا تستطيع أن تحرقنى، لأننى كنت أحترق طوال حياتى، فى النور ..إننى أرثى لك ياصديقى، فأنت لست مخطئًا عندما تخاف “.
أيمكن للظلمة أن تدين النور ..!!
ونفس الأشخاص الذين نادوا بإعدامه عند دخوله قاعة المحاكمة، هم أيضًا نفس الأشخاص الذين هتفوا أيضا بحياته ، يعيش الجريكو،عندما خرج للحرية والنور
د/أحلام فكرى
د. أحلام فكري فنانة تشكيلية مصرية
admin رئيسية, شخصيات ومذاهب, كل جديد 0
admin رئيسية, شخصيات ومذاهب, كل جديد, مختارات سينما ازيس 0
admin رئيسية, شخصيات ومذاهب, كل جديد 0
رحل عن عالمنا، فجر اليوم، السبت، الكاتب والسيناريست المصري الكبير وحيد حامد، عن عمر يناهز الـ 77 عاماً، عقب نقله إلى العناية المركزة في إحدى المستشفيات؛ إثر أزمة صحية تسببت في دخوله المستشفى، يوم الخميس الماضي .ومن المنتظر أن يٌشيع جثمانه إلى مثواه الأخير، بعد ظهر اليوم ، من مسجد الشرطة في مدينة الشيخ زايد..