صلاح هاشم يكتب من باريس لجريدة “القاهرة ” إعترافات “المواطن كان” جيل جاكوب” رجل الظل.السينما وحدها تجعلنا نحلق بروحين وجناحين.
سينما
” سوف تمضي الحياة مثل حلم ” لجيل جاكوب ( 2 من 3 )
السينما وحدها تجعلنا نحلق بروحين وجناحين.
عن وودي آلان و ” وردة القاهرة ” التي خرجت من ” دم الشاعر “.
بقلم
صلاح هاشم.باريس
يحكي الكاتب والناقد السينمائي الفرنسي الكبير جيل جاكوب ،الرئيس السابق لمهرجان ” كان”في هذه الحلقة الثانيةلعرضنا لكتابه المهم – LA VIE PASSERA COMME UN REVE – عن لقائه مع المخرج الأمريكي الكبير وودي آلان لأول مرة، فيقول أن المقربين منه كانوا يروجون دوما لشهرة وودي آلان كمخرج خجول، يرفض التكريمات والحفلات ، وأنه يفضل أن يعزف علي الكلارينت في ” مقهي كارليل ” في نيويورك ،علي حضور المهرجانات السينمائية التي تسعي جاهدة إلي عرض أفلامه وتكريمه، بل ويرفض حتي حضور حفل توزيع جوائز الأوسكار، لاستلام جائزة له ،بعدما قررأن ينشغل فقط بتأليف سيناريوهات أفلامه..
وأن يعيش حياته بمزاجه ،ويهيأ نفسه لفيلمه الجديد القادم فقط ، ولا ينشغل بأي شيء البتة،سوي الانغماس كلية في ما يفعل، إذ يبدو أن هذه هي الوسيلة الوحيدة – هكذا فكر جيل – التي يستطيع بها المرء أن ينسي الموت.ويتذكر جيل انه قبل عام 1984 لم يكن تحدث مع وودي آلان ، إلى أن التقاه مصادفة في فندق بلاتزا في باريس ( وعادة ما يهبط وودي في فندق ريتز ..) فتقدم إليه من دون سابق ميعاد ، وبادره قائلا : بونجور ياسيد وودي آلان. أنا جيل جاكوب. فرد وودي بسرعة، إن حسنا وماذا بعد!، وانتهي اللقاء عند ذلك..
لقطة من فيلم ” ورة القاهرة ” لوودي آلان بطولة ميا فارو
ويقول جيل، أن السينما تطورت بشكل طبيعي في مجال الحلم، غير أن صورة توم باكستر الذي خرج من الشاشة وهبط الي قاعة العرض في فيلم ” وردة القاهرة الأرجوانية ” لوودي آلان ، لكي يلتقي بمتفرجة حسناء تدعي سيسيليا، ولعبت دورها الممثلة الأمريكية ميا فارو في الفيلم وكانت تجلس في القاعة، ذكرته بمشهد شاعر كوكتو، وهو يعبر المرآة في فيلم ” دم الشاعر ” لجان كوكتو الأديب الفرنسي الكبير..
وأن تلك الصورة التي ابتدعها وودي آلان في فيلمه، تغذي فينا ذلك ” الوهم “، إذ يتحول البطل في الفيلم الذي يخرق الشاشة الي كيان إنساني حي من لحم ودم ، في الوقت الذي تتحول فيه ميا فارو البطلة من كائن حي، إلي كائن من إبداع المخيلة،ويتساءل جيل جاكوب: تري أين نحن من كل هذا ؟ هل يمكن أن تتحول أحلامنا ، إلى واقع ملموس ومحسوس، وهل هناك حقا خالقا لهذا الكون ؟. .
السينما وحدها تجعلنا نحلق بجناحين وروحين
لقد بدا لي أن روحي- يصرح جيل جاكوب في كتابه ، بعد مشاهدة فيلم وودي آلان الأثير ذاك – قد انشقت بالفعل إلي روحين، وان كل روح تعيش في صحبة الروح الأخرى المنفصلة عن أختها ، ونحيا في ذات الوقت، روح حياتي الواقعية وروح حياتي السينمائية ، و ها هما الاثنتان تسيران معا ويا للعجب في نفس الاتجاه..
وكان جيل جاكوب عرض في مهرجان ” كان ” كل الأفلام ” الجادة ” والفكاهية التي أخرجها وودي آلان من عام 1984 وحتي عام 1990 ( ما عدا عام 1988 فقط ) ومن دون أن يحضر وودي المهرجان، فلما التقي به أخيرا في فندق ريتز في باريس، تغلب جاكوب علي خجله ،وانطلق يحدث وودي عن إعجابه بأفلامه، وتفهمه لرغبته في عرض أفلامه علي هامش المسابقة الرسمية للمهرجان، وعدم اقتناعه بمبدأ المنافسة في قسم المسابقة الرسمية..
كما تحدثا عن المخرج السويدي إنجمالا برجمان، الذي يعشق وودي أفلامه، وتناولا موسيقي الجاز التي يعزفها في ذلك المقهي في نيويورك، وذكر وودي آلان أن شركة” أوريون الجديدة “التي تنتج أفلامه، صارت ترسلها للمشاركة في مهرجان ” برلين ” السينمائي..
وأنه سيحب كثيرا أن تكون عروض أفلامه الجديدة الأولي، في مهرجان ” كان ” من جديد ، ويتساءل جيل جاكوب، تري هل كانت هذه رغبة حقيقية لدي وودي، أم مجرد مجاملة منه، ثم أن جيل عرض علي آلان فكرة كتاب جاكوب الجديد بعنوان ” زوّار كان ” علي نسق فيلم ” زوّار المساء ” لمارسيل كارنيه- MARCEL CARNET – وتتلخص الفكرة في ضم مجموعة من كتابات أشهر المخرجين الذين ترددوا علي المهرجان بين دفتي كتاب..
وراح جيل يعرض علي آلان ، ما جادت به قريحة هؤلاء من كتابات للمخرجين،للياباني كيروساوا ،والألماني شولندورف، والبولندي كيلوفسكي ، والايطالي فيلليني ، والبرتغالي مانويل دو أوليفييرا وغيرهم ، وطلب من آلان ماذا يستطيع أن يقدم.فاقترح آلان أن يضم الكتاب بضع ” قصاصات “،عن مشروعات أفلام، يريد أن يخرجها ، و تخطر علي باله أثناء تجواله و إقامته في فنادق العالم الشهيرة ..من أول ” الجراند أوتيل ” في روما مثلا ، مرورا بفندق ” ريتز ” في باريس، وحتي فندق ” كلاريدج ” في انجلترا ، وأينما حل ،علي ان يكتبها وودي علي ورقة من أوراق الفندق المذكور، ويرسلها إلي جيل، فيضمها إلي كتابه، وعندئذ وبفضل آلان ، اكتملت فكرة الكتاب المشوشة،واتضحت في ذهن جيل جاكوب، ولأول مرة ، يا للعجب !.
المخرجون يتحدثون عن فن الميزانسين
فقد كانت فكرة تجميع نصوص مهداة ،لمخرجين ، في كتاب فقط، لا تكفي. وأدرك جيل فجأة إنها لن تكون فكرة ذات قيمة ، إلا إذا وجدت المحور الأساسي الذي تدور حوله، بحيث لا تظهر مجرد تجميع لكتابات متفرقة ، فماذا يمكن أن يكون ذلك المحور ياتري؟..
واو..اوريكا.. وجدتها.انه ثيمة الإخراج او ” الميزانسين ” ، هكذا فكر جيل. أجل يجب أن يكون موضوع الكتاب ، هو عملية ” الإخراج السينمائي ” ، وكيف يتمثلها هؤلاء المخرجين الكبار، و ماذا تعني لهم، وكيف تكون.والآن فقط يمكن وضع نصوص آلان وشلندورف في فصل بعنوان” كيف يولد الفيلم ؟ ” ثم توضع كتابات كيلوفسكي وأوليفييرا في فصل بعنوان ” عن التصوير والمونتاج ” ، وتوزع الكتابات الاخري في عدة فصول : فصل لعملية اختيار الممثلين الكاستينج ، وفصل آخر لإدارة الممثلين، وهلم جرا..
وبسرعة راح جيل يبحث عن ورقة من أوراق فندق ريتز ، ليدون عليها كل ذلك، وكان يظن بأنه لن ينسي كلمة واحدة من الكلمات التي نطق بها وودي آلان أمامه ، حين عبرت الغرفة فجأة ميا فارو زوجة وودي آلان، وحيته بهزة رأس. فإذا به جيل جاكوب ينسي الدنيا كلها وما عليها..ولم يعد يتذكر أي شيء، إلا وجهها الطفو لي الجميل الساحر ذاك ، الذي ذكره بدور سيسيليا الذي لعبته ميا فارو..في فيلم ” وردة القاهرة الأرجوانية”..
مهرجان ” كان ” يوظف نجوم هوليوود لخدمة ” سينما المؤلف “
وذات يوم رن جرس الهاتف في منزله، وإذا بأحدهم يقول هالو أنا وودي آلان ، فرد جيل بسرعة معتقدا أنها مجرد مزحة : هالو وأنا انجمار يرجمان، هاهاها..ثم أغلق الخط ، إلا أن وودي ألان عاود الاتصال، وأبلغ جيل انه سيحضر دورة مهرجان ” كان ” ليعرض فيلمه الجديد، وحضر بالفعل، لكن مع زوجة جديدة ، وقبل القيام بكل المهام التي طلبها منه جيل: حضور المؤتمر الصحفي بعد عرض الفيلم، وجولة التصوير المعتادة مع أبطال الفيلم، علي سطح قصر المهرجان، بجوار البحر ، تحت الشمس الإفريقية القادمة من الشرق..
وكان مجيء وودي آلان إلي المهرجان ، مكسبا يضاف الي مكاسب وانجازات جيل جاكوب، في استقطاب نجوم هوليوود الكبار – من الوزن الثقيل – من أمثال اليزابيث تايلور وشارون ستون ومادونا الي ساحة المهرجان، لكن ليس للدعاية والاستعراض، وخطف الأضواء، والتكريس للسينما الهوليودية التجارية ، والاستوديوهات ألكبري التي تعمل بـ ” نظام النجوم ” في أمريكا، وتهيمن علي أسواق العالم..
ولكن لدعم فكرته الأساسية، في الترويج من خلال المهرجان ونجومه ، لسينما ” الإبداع ” والخلق – CREATION– “سينما المؤلف ” – CINEMA D AUTEUR– التي توظف السينما الفن – للتعبير عن مشاكل عصرنا ، وتناقضات مجتمعاتنا الإنسانية، في أعمال المصري يوسف شاهين، والأمريكي فرانسيس فورد كوبولا – الذي يشارك بفيلمه “ميجالوبوليس” الجديد في مسابقة الدورة 77 لهذا العام 2024 – واليوناني انجلوبولوس، والتركي ايلماظ جوني، والبولندي اندريه فايدا ،والصربي أمير كوستوريكا ،والإيراني عباس كيارستمي ،والياباني اكيرا كيروساو، وكذلك الاستفادة من حضور النجوم ، لتسليط الضوء، علي اكتشافات المهرجان من المواهب السينمائية الجديدة في العالم..
وللحديث بقية..
صلاح هاشم.باريس
صلاح هاشم كاتب وناقد وباحث سينمائي مصري مقيم في باريس.فرنسا. عضو لجنة تحكيم مسابقة ” الكاميرا الذهبية ” في مهرجان ” كان ” السينمائي العالمي الدورة 42 لعام 1989
***
عن جريدة ” القاهرة ” العدد 2025 الصادر بتاريخ30 إبريل 2024