القانون والنيوليبرالية الرقمية والسرعة بقلم نبيل عبد الفتاح
الأنظمة القانونية الحداثية والمعاصرة، ارتبطت بالموروث التاريخى للقانون الرومانى ، ومثلت هذه التقاليد القانونية الأطر المرجعية والفلسفية للأنظمة القانونية للدولة الرأسمالية الليبرالية الأوروبية، والأمريكية، وتطورت مع نمو الرأسماليات الأوروبية فى الأنظمة القانونية الألمانية، واللاتينية – الفرنسية والبلجيكية، والإيطالية-، والنظام الانجلو ساكسونى والأمريكى.
فى النماذج الليبرالية الأوروبية والغربية، تطورت الأنساق القانونية ومعها الحريات العامة والفردية من خلال البرلمانات، والمنافسات الحزبية، وحركة النقابات العمالية والمهنية، وأيضا من خلال أدوار المجتمعات المدنية ومبادراتها فى عديد المجالات. من ثم كانت القوانين تعبيرا عن مصالح القوى الطبقية والاجتماعية المسيطرة، ثم تغيرت نسبيا بعض الإدراكات السياسية لمفهوم دولة القانون والحق، التى استوعبت ضرورة مراعاة مصالح بعض الفئات الاجتماعية والمهنية، لضمان الاستقرار الاجتماعى والسياسى للدولة، والنظام الليبرالى، خاصة مع تبلور مفهوم دولة الرفاهة الاجتماعية.
تأثرت القوانين تاريخيا بالتطورات التكنولوجية والاقتصادية، مع تطور الثورات الصناعية ومعها النظام الرأسمالى والتغيرات الاجتماعية والفردانية ومفهوما الحريات العامة والفردية وممارساتهما فى المجالين العام والفردى، والتزام سلطات الدولة الثلاث بهما، وفى ممارساتهما كل فى نطاقها، واحترامهم لها فى إطار توزيعات القوة فى بنيات الدولة الأمة. قامت السلطات القضائية بصون وحماية الحريات، وأرست المبادئ القضائية المبادئ العامة الضامنة والحامية لها فى مواجهة أى سلوك سياسى أو إدارى يجافى هذه المبادئ، التى أرساها القضاء المستقل، وجماعات القضاة فى ظل نظام الفصل بين السلطات – أيا كان فى النظم البرلمانية، وشبه الرئاسية والرئاسية -، وتوزيع القوة بين السلطات وتوازنها.
الفلسفة القانونية الوضعية ظلت مسيطرة، ولا تزال فى العقل القانونى، والثقافات القانونية الغربية، وطابعها الشكلانى فى صياغة السياسات التشريعية -القيم القانونية، والمصالح موضوع الحماية القانونية، وأطرها الموضوعية والإجرائية-، ومن ثم شكلت ولا تزال الثقافة والوعى القانونى لدى غالب المشرعين والقضاة، وقادة الأحزاب السياسية. ارتباط دولة القانون والحق بالنظام الليبرالى والرأسمالى وتطوراته المختلفة، أدى إلى تغير فى القوى المؤثرة على طبيعة المصالح موضوع الحماية القانونية فى الدول الأوروبية، والولايات المتحدة وكندا. لم تعد القوى المؤثرة تتمثل فقط فى الطبقة البورجوازية، وأحزابها وممثليها فى البرلمانات، أو بعض جماعات الضغط البرلمانية وخارجها – على المثال الأمريكى. مع الثورة الصناعية الثالث والرابعة، والعولمة ومابعدها، والنيوليبرالية الرأسمالية، باتت الشركات الرأسمالية الكونية فى مجال الإنتاج والخدمات، تشكل احد اهم القوى المؤثرة على مدخلات التشريعات، ومخرجاتها، من خلال تأثيرها على قادة الأحزاب السياسية الكبرى، ورؤساء الحكومات، والدول، وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما تجسد فى تقليص جزئى للسياسات الاجتماعية فى مجال الصحة، والتأمينات الاجتماعية – وإعانات البطالة، وإعادة التأهيل للعاطلين لوظائف أخرى- ثم فى فرض بعض مصالح وتوجهات هذه الشركات العملاقة على عمليات إعداد، ووضع القوانين، وإصدارها. مع ثورة الاستهلاك المفرط، وتشيىء الحياة الإنسانية، التى بدت وكأنها سلعة ضمن السلع فى السوق السياسية والاستهلاكية المتنامية، والسريعة، من ثم خضعت القوانين لضغوط، وتأثيرات الشركات الرأسمالية العملاقة لحماية مصالحها فى عالم السرعة الفائقة، خاصة مع الثورة الصناعية الثالثة، والرابعة، التى تغيرت معها أنظمة القيم الاجتماعية، وتزايدت مستويات العزلة الفردانية، وتفكك وتمزق الروابط الاجتماعية، على نحو أثر على أدوار ووظائف الأحزاب السياسية على اختلاف توجهاتها السياسية، والاقتصادية والاجتماعية فى تمثيل مصالح القوى الاجتماعية التى تمثل قواعدها الناخبة، وهو ما أدى إلى فجوات بين هذه الأحزاب -لاسيما التاريخية ما قبل وما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، وبين بعض قواعدها الاجتماعية وايضا نهاية السرديات السياسية والايديولوجية الكبرى. السرعة الفائقة سمت الثورة الصناعية الثالثة والرابعة، أدت إلى تعاظم قوة الرأسماليات الرقمية العملاقة فى التأثير على مفاهيم الدولة والسيادة والقومية، والقانون، والحريات، وتمددت بعض هذه القوة الرقمية فى مجال وضع السياسات من خلال اعتماد بعض السياسيين، والأحزاب فى توظيف الذكاء الاصطناعى فى إعداد القوانين، كعامل مساعد، لكن مع تعاظم الذكاء التوليدى سيؤثر ذلك على تمدد استخدامه فى وضع وإعداد بعض القوانين، ومناقشاتها فى البرلمانات، وفى الحكومات، والأحزاب السياسية، بل وعلى الأفراد، والجماعات الرقمية فى نقدها، أو مناقشة هذه القوانين على الحياة الرقمية، وضغوطها الفعلية على البرلمانات، والحكومات. بعض الحكومات سيلجأون فى أوروبا والولايات المتحدة إلى الذكاء التوليدى، فى رصد الوقائع المؤثرة فى الدعاوى المرفوعة أمامهم، وتحليلها، وتحديد عناصرها ووقائعها المؤثرة فى هذه النزاعات، بل وقد يمتد ذلك مستقبلًا إلى تسبيب الأحكام، وفى الرجوع إلى تاريخ المبادئ القانونية للمحاكم العليا – فى الأنظمة الانجلو ساكسونية، وفى نظام جهتى القضاء المدنى والادارى الفرنسى واللاتينى- واختيار المبادئ الملائمة لإصدار الأحكام مستقبلا. لا شك فى أن تنامى دور الذكاء التوليدى، سيؤدى إلى تنامى دوره فى مجال وضع القوانين، وتطبيقاتها، وفى بحث مدى فاعليتها فى ضبط السلوك الاجتماعى، وتنظيمه. عالم فى حالة تغير فائق السرعة، فى المفاهيم والأفكار، والقوانين، خاصة فى التغيرات التى يشهدها عالم الإناسة الروبوتية ومؤشرات مابعدها.
بقلم
نبيل عبد الفتاح

نبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر مصري تنويري ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية و الإستراتيجية




