الحرية بين الإستهلاك الفعلي والرقمي بقلم نبيل عبد الفتاح

أحد أبرز معالم الثورة الصناعيةالرابعة، والذكاء الاصطناعى، تحول الحياة الفعلية فى أحد أبرز وجوهها إلى الرقمية والتأثر بما يجرى فى فضاءاتها التواصلية فى القضايا العامة والسجال حولها، وفى طرح قضايا الذات، وجروحها، والألم الذى يجتاحها، ومشكلاتها. تبدو الذات الجريحة فى الواقع الفعلى محاصرة بعديد من القيود حول تعبيرها عن حضورها الوجودى، وعزلتها، وتفكك بعض روابطها الاجتماعية، وانغماسها فى عالم الاستهلاك المكثف الذى بات يمثل منفى نسبيا للذات فى تطلعاتها للاستهلاك السريع للسلع والخدمات، ويزداد الألم والنفى للذات من عدم قدرة بعض من مليارات البشر، على تلبية دوافعهم هى ورغباتهم فى استهلاك الجديد والمتنامى والسريع من السلع المتجددة، ومعها الخدمات التى تقدمها الشركات الكونية الضخمة، والمسيطرة على عالم النيوليبرالية الرأسمالية فى الدول الأكثر تقدما، والمتوسطة، والدول المعسورة التابعة فى جنوب العالم.
نفى النيوليبرالية الرأسمالية المتوحشة للذات المحاصرة بثورة الاستهلاك الفائق، وتأثر الليبرالية السياسية بقوة الشركات الكونية، وعلى بعض من الحريات العامة والفردية أدى إلى تزايد الفجوات، وعدم الثقة بين الفرد والجماعات الناخبة، وبين المؤسسات الديمقراطية الغربية، وتحول المؤسسات السياسية إلى اعتماد بعضها على الدعم والتمويل من بعض كبار المليارديرات على نحو ما نشهد فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وللحزبين الكبيرين الجمهورى والديمقراطى، فى انتخابات الكونجرس، وأيضا فى بعض الدول الأوروبية الغربية. من ثم تداخلت وأثرت مصالح هذه الشركات الرأسمالية النيوليبرالية على السياسة، والسياسيين والأحزاب، بل وتجلت قوة بعض هذه الشركات على تطويع الواقع السياسى، والطبقات السياسية الحاكمة والمعارضة، وأيضا على تأثيرها على توجهات بعض الجماعات الناخبة، والأفراد. تأثرت التوجهات السياسية بقوة بحرية الاستهلاك السريع والمتنامى والمتغير للفرد/ الناخب، الذى تمركزت حريته على الاستهلاك المفرط ان استطاع إليه سبيلا ولو بالاقتراض، والذى تمركزت حريته على عالم السلع والخدمات والتشيؤ، وتحوله إلى حالة سياسية سلعية فى الحياة السياسية، وآلياتها. ساهمت الثورة الرقمية والذكاء التوليدى، فى بعض من تحرير رأى الفرد الفعلى/ الرقمى من قيود الواقع السياسى، من خلال انفجارات بعض من الذوات والجموع المنفية نسبيا فى عالم الاستهلاك المكثف والمسلعة سياسيا واجتماعيا إلى الفضاءات الافتراضية، لكى تعبر عن آرائها فى السياسات، والقرارات، ووقائع الحياة اليومية من خلال منشوراتها، وصورها، وفيديوهاتها الطلقة الوجيزة جدا على وسائل التواصل الاجتماعى. تبدو الصور أحد أهم تعبيرات الذات شبه المنفية على الواقع الفعلى، عن حضورها فى الحياة، بل وجودها ذاته. تحولت الذات من الفاعلية والوجود الفعلى كإرادة وفعل، وتأثير من الواقع الفعلى، وتمثيلاته واستعراضاته إلى الوجود الافتراضى عبر الصور والفيديوهات الوجيزة جدًا. الصورة والفيديو ليس فقط أداة لكسب المال عبر التفضيلات الرقمية، من الشركات الرأسمالية الرقمية الكونية، وإنما أيضا لبعض من مليارات البشر للتعبير عن الأنا المحاصرة نسبيا فى واقع متحول، وملتبس. ويبدو مستقبله يتسم ببعض من الغموض فى التحول نحو ما بعد الإنسانية. يتم توظيف الذكاء الصناعى فى اغتراب الذات الفعلية المحاصرة، من خلال طرح الأسئلة عليه، واستخدام إجاباته فى كل المجالات على أنها، هى إجابات الفرد الرقمى/ الفعلى، وثقافته وذكائه، بقطع النظر عن مفارقة ذلك لعقله، ووجدانه، وتفكيره.
لا يقتصر بعض الاغتراب الرقمى والفعلى على الصور، والفيديوهات، وإنما فى استخدام الذكاء التوليدى فى الفنون والأدب، والسينما، والفن التشكيلى، سواء أكان الفرد يعمل فى هذه المجالات كمبدع، أو كاتب، أو ممثل فقط، وإنما امتد ذلك إلى تأليف الذكاء التوليدى لبعض القصص القصيرة، والروايات، والشعر، وفى التصوير التشكيلى. هنا يبدو الذكاء التوليدى صانع هذه الأعمال الفنية، والفرد الذى يستخدمها كليا، أو جزئيا غائبا كفعل إبداعى، ويتحول إلى ذات بديلة، ومغايرة. تحولت الصور والفيديوهات على الحياة الرقمية إلى حالة عامة، لاسيما لدى الفنانين والفنانات، والمطربين والمطربات والممثلين، والممثلات، خاصة مصريا وعربيا، تعبيرًا عن حضورهم الرقمى، بل والوجودى، بديلا عن إبداعهم الفعلى نظرًا لأن بعضهم تجاوزته السينما، والموسيقى والمسرح والأذواق الفنية المتغيرة للأجيال الجديدة، ونمط الاستهلاك والتمثل الفنى لدى هذه الأجيال، ونمط تفضيلاتها فائق السرعة، والذى يؤدى إلى إزاحة الأجيال الأكبر سنا، وأيضا لمن قاموا بعدد قليل من الأعمال، وتجاوزتهم شركات الإنتاج السينمائية، أو الحفلات العامة. من ثم أصبح وجودهم الرقمى هو دلالة استمراريتهم على الحياة الرقمية لا الفعلية. هذا العالم الافتراضى، والذكاء التوليدى بات متخما بالترهات، وثقافة الكذب والتفاهات، والأحكام الأخلاقية والقيمية المرسلة، ومعها الانطباعات السريعة. غالب الأفراد الرقميين/ الفعليين يطرحون آراء فى زعامات تاريخية، أو مراحل أو تاريخ البلاد من القديم إلى الحديث والمعاصر، دونما معرفة تاريخية، وإنما محض آراء مرسلة لا قيمة تاريخية أو علمية لها، وإنما من خلال الأحكام العامة الأخلاقية مثل تقييم بعضهم الإيجابى أو السلبى لأسرة محمد على، وإسماعيل باشا، والمرحلة شبه الليبرالية، أو الموقف من زعامة عبدالناصر وسياساته. أحكام مرسلة ورغائبية وقيمية خارج التاريخ .
بات التاريخ موضوعا للعب السياسى للأفراد، والجماعات الرقمية، وبات موضوعا للهو، والسخرية، والكوميديا، ولا يقتصر ذلك على بعض العاديين، وإنما امتد إلى بعض المثقفين والأكاديميين، والوزراء السابقين، والمعارضين . بات التاريخ ووقائعه ورموزه وشخصياته موضوعا لمسرح رقمى وتلفازى يبدو فى بعض وجوهه عبثيا لا علاقة له بالواقع التاريخى. هذا المسرح الساخر والعبثى الرقمى، يمثل شكلا من أشكال الاغتراب الوجودى، وسعى بعضهم إلى تمجيد بعض الرموز، أو الوقائع التاريخية، وتمثلها فى سبيل الظهور والحضور الرقمى، والتلفازى، من خلالها، أو من خلال روايات ذاتية عن بعض ما شكلته من كوارث، أو أزمات وطنية. باتت الحياة الرقمية تعبيرا فى بعض وجوهها عن حالة من الفوضى العقلية، الالتباسات، والأهم حققت بعض من الحرية والفوضى معا، لكنها حرية مراقبة من الشركات الرأسمالية الرقمية النيوليبرالية، وبرامجها فى المراقبة، وتوظيف البيانات الضخمة وبيعها، ولبرامج المراقبة السياسية والاستخباراتية، التى تبيعها بعض الشركات الرقمية – وبعضها إسرائيلية وغيرها.
بقلم
نبيل عبد الفتاخ

نبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر تنويري مصري ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
***
عن جريدة الأهرام بتاريخ 28 أغسطس 2025























