هيتشكوك في باريس. أنا والطيور أبطال لكل أفلامي بقلم صلاح هاشم
من أجمل الأفلام التي شاهدتها حديثا ، من نوع أفلام ” السيرة الذاتية ” التي تحكي عن حياة المشاهير،كما في فيلم ” أوبنهايمر” لكريستوف نولان، الذي يحكي عن مخترع القنبلة الذرية، فيلم ” هيتشكوك ” بطولة الممثل البريطاني الكبيرأنطوني هوبكنز، واخراج ساشا جيرفيه، الذي لا يقدم ” سيرة ذاتية ” لـ “ملك أفلام الرعب” المخرج البريطاني ألفريد هيتشكوك، ليحكي فحسب عن طفولته وحياته..
بل لكي يحكي أيضاعن تلك الفترة التي أخرج فيها هيتشكوك تحفته السينمائية ” نفوس معقدة ” –PSYCHO -عام 1960 بالأبيض والاسود، وتمرده وسخطه على هوليوود..
وكانت الحكاية التي يرويها الفيلم، ظهرت في كتاب عن سفّاح أمريكي، وعلاقته بأمه، والطريقة المرعبة التي كان يتخلص بها من ضحاياه..
فتلقفها مخرجنا الكبير على الفوروأشترى حقوق تحويلها الى عمل سينمائي، إلا أن شركة “بارامونت” التي وقع معها عقدا لإخراج كل أفلامه،لم توافق لعدة اعتبارات أخلاقية ورقابية، فقرر هيتشكوك أن ينتجه على نفقته الخاصة، ورهن بيته وكل ممتلكاته للحصول على قرض، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يقامر ويغامر فيها هيتشكوك بحياته، ويحقق رغبته في الانعتاق من أسر وقيود وضغوطات شركات الانتاج الامريكية الكبرى في هوليوود، التي تحتفظ دوما لنفسها بما يطلق عليه بالفاينال كت FINAL CUT أو القطع الأخير- أو نهاية الفيلم -والتحكم في مونتاجه. ويواجه هيتشكوك أثناء انتاج فيلمه ” نفوس معقدة ” PSYCHO عدة تحديات من قبل بارامونت ذاتها ،التي وافقت فقط على توزيع الفيلم، ورغبتها في أن تتدخل حتى في عملية اخراج الفيلم الجديد، كما يواجه تحدي الرقابة، التي لم تتركه لحاله وكانت تعترض على انتاج فيلم تظهر فيه “دورة مياه. حمام ” لأول مرة في تاريخ السينما الامريكية، وهذا لا يجوز، ولن يستطيع هيتشكوك مهما فعل تمرير فيلمه..
غير ان المشكلة الاساسية في الفيلم ،كانت تتعلق بالنجمة السينمائية التي سوف تضطلع ببطولته ،وكانت هذه هي المرة الأولى أيضا في تاريخ السينما الامريكية التي تموت فيها بطلة الفيلم، بعد ربع ساعة من بداية الفيلم، وتختفى !..ولم يكن من الممكن، أن توافق نجمة على بطولة فيلم كهذا، تظهر فيه لعدة دقائق فقط في بداية الفيلم، ثم تتبخر في الهواء.غير أن هيتشكوك نجح في إقناع ممثلة شقراء كبيرة هي “جانيت لي” بالدور..
كما يكشف الفيلم أيضا عن علاقة هيتشكوك بالنساء، مثل علاقته بزوجته التي عملت مساعدة له في كل الأفلام التي أخرجها في حياته ، وبخاصة في مايتعلق بسيناريوهات ومونتاج أفلامه..
فقد كانت ” ألما العزيزة ” زوجته كما كان يحب أن يطلق عليها ، تتدخل للتدقيق في سيناريوهاته وتعديلها أو كتابتها من جديد اذا لزم الأمر، وتصحيحها بحس وذوق سينمائي رهيفين، كانت تساعد هيتشكوك في غرفة المونتاج،بارائها الصائبة الحاسمة ..
وتظهر في الفيلم غيرته الشديدة المرضيّة على ” ألما ” ، حين سعى البعض من المخرجين الى الاستفادة من خبراتها ، فيعنفها ويقسو عليها ولتذهب الى الجحيم حياتهما الزوجية ، وبكل تلك الأسرار، أسرار حياة هيتشكوك الخاصة جدا، والتي كانت تعد ” لغزا ” محيرا في الوسط السينمائي. كما يكشف عن علاقته أو بالأحري عقدته – COMPLEX– تجاه الشقراوات اللواتي اضطلعن ببطولة أفلامه، مثل كيم نوفاك وجريس كيلي وجانيت لي ، وكان هيتشكوك يتلذذ في أفلامه بتعذيبهن.
ويكرس فيلم هيتشكوك مساحة كبيرة لحضور ألما زوجته في حياته الشخصية والعملية، فلولا أنها خدمت معه في أفلامه، وتحملت عذابات شخصية هيتشكوك المركبة المعقدة، لما كانت أفلامه حققت تلك الشهرة العالمية التي حققتها، والتي جعلت من هيتشكوك بطلا لكل أفلامه..إذ لايهم ، ولأول مرة في تاريخ السينما العالمية، لايهم أسم وعنوان الفيلم، بل المهم هو أن هيتشكوك هو مخرجه، و كان يكفي ذلك فقط ، لأن تتدفق الجماهير بالملايين في العالم، وتقف في طوابير طويلة على الرصيف، وتنتظر دورها أمام شباك التذاكر لمشاهدة الفيلم ، وقبل أن توضع يافطة ” كامل العدد ” على الشباك، وتروح تنعي حظها السيء العكر، لأنها وصلت متأخرة..
كما كنا نحن الأطفال الأشقياء الصغار في حينا العريق ” قلعة الكبش “،عندما نري ملصقات أفلامه – للكبار فقط – ولن يسمح لنا بمشاهدة ” نفوس معقدة ” في سينما إيزيس، نسارع للذهاب الى سينما ” إيديال ” – سيئة السمعة -في العباسية، حيث كانت إدارة السينما أكثر تسامحا، وتسمح لنا بالدخول، رغم معرفتنا بأنه من المحتمل أن نجد عند الخروج من القاعة، عربة شرطة تنتظر الخارجين من المشتبه فيهم من الصيع والحرامية والقاصرين الصغارمن أمثالنا، لتنقلهم الى أقرب نقطة بوليس..
هيتشكوك ينتقم من هوليوود
ولذلك يمكن إعتبار فيلم ” هيتشكوك “، الى جانب المتعة التي تتحقق من خلال “التلصص” على وقائع حياته، والتعرف على همومه وهواجسه وكوابيسه أثناء اخراج فيلم ” نفوس معقدة ” ..
إعتباره بمثابة ” تحية ” وتكريم لتلك السيدة ” ألما ” زوجته، التي كرست جل حياتها لخدمته ،وتفانت في حبه ، وصبرت على أذيته ، وتكتمت على أسراره، ورضت بأن تقف طويلا في الظل..
وتتألق في دور الما الممثلة البريطانية القديرة هيلين ميرين، وتشمخ بتمثيلها، ومن أجمل مشاهد الفيلم، ذلك المشهد الذي نرى فيه هيتشكوك يتجسس على ردود فعل النظارة من الجمهور، أثناء مشاهدة فيلم ” نفوس معقدة “بطولة انطوني بيركنز وجانيت لي داخل احدي القاعات، وهو يبتهج بصراخهم من فرط الرعب ، وهم يشاهدون مشهد ذبح البطلة في حمّام غرفتها بالفندق، وطعنات سكين حاد تنهال عليها،و حيث يختلط دمها بمياه الدوش، ويسيل في بالوعة البانيو، مع موسيقي مرعبة، تصاحب ذلك المشهد ” الايقونة”، الذي يعد درسا في فن المونتاج عند هيتشكوك، وهو يحيل الى مشهد ” سالالم أدوديسا ” في فيلم ” المدرعة بوتمكين ” لسيرج ايزنشتاين وربما تأثر هيتشكوك به..
وهنا يتقمص هيتشكوك داخل القاعة شخصية السفاح، وهو يشاهد ردود فعل الجمهور في القاعة، فيروح يطعن الهواء بسكين خفي، وكأنه يقوم بدور انطوني بيركنز في الفيلم ، ويهبط بسكينه على “هوليوود” الضحية ، وكأنه ينتقم لنفسه أخيرا من شركات انتاجها ،التي أرادت أن تحرمه من حريته ..
ينتقم من هيئة الرقابة الامريكية التقليدية ، والمجتمع الامريكي المنافق المحافظ ، وكل من تآمر ضد هيتشكوك، إن في الخفاء أو العلن، حتى لا يبلغ مراده ، ويحقق فيلمه ” نفوس معقدة ” كما يريد، فليموتوا بغيظهم إذن ولتنتصر إرادة المعلم ..
فيلم ” هيتشكوك ” يوثق لفترة مهمة، في حياة مخرجنا الكبير، ويجعلنا بعد الاستمتاع بمشاهدة الفيلم ،نقبل أكثرعلى اقتناء أفلامه الروائع، وبخاصة رائعته ” نفوس معقدة ” ولانمل أبدا من مشاهدتها من جديد..
وهو يقينا بعد إنجازا قيما، يضاف الى انجازات الفيلم الجميل، على مستوى الصنعة، وتضافر وتكامل عناصرالفيلم الفنية من تمثيل ومونتاج وتصوير وإخراج، مما يجعله نموذجا لأفلام ” السيرة الذاتية ” الجميلة، ونصرا لمجد ” الحواتية ” الكبار.
بقلم
صلاح هاشم
صلاح هاشم مصطفى ناقد سينمائي وقاص وكاتب مصري مقيم في باريس.فرنسا.رئيس تحرير موقع سينما إيزيس
***
عن جريدة ” القاهرة ” لـ ” مختارات سينما إيزيس “