صلاح هاشم يكتب من باريس لجريدة ” القاهرة ” هؤلاء علموني.سيدة سيد محمد مرزبان في تقرير الى نيكوس كازانتزاكيس
الكاتب والشاعر والفيلسوف اليوناني الكبير تيكوس كازانتزاكيس
( 1 )
تعلمت من أمي النوبية الحاجة سيدة ،بنت الحاج سيد محمد مرزبان، التي تطبعت بطابعها ، أن أحترم البشر، وأحب الخير لكل الناس، من عند عم محمود بائع اللبن، الذي كان يأتينا في حينا العريق “قلعة الكبش” في السيدة زينب، قادما على دراجته من أعماق مجاهل الجيزة، وهو يحمل لسكان منزلنا الحليب..
ومرورا بالحاج بيومي النجار ،الذي كان يلاحقنا نحن الصغار الأشقياء بالشتائم حين نعبر من امام دكانه ، حتى لو لم نكن قد اقترفنا جرما..
ولحد عم عوض، صاحب محل البقالة ، في أول “الدحديرة” المصعد الحجري الى حينا، الذي كنت اقصد دكانه كل صباح، لكي آت لمنزلنا بالخبز، وعلى أن ندفع حساب الخبز كل أول شهر عندما يتحصل أبي ” عم هاشم” على مرتبه، وعم عربي الترزي ، والاسطى حسين المكوجي، وعم حسن الحلاق..
وكانت أمي توقظني، وانا طالب في الجامعة ، من أحلاها نومة، وأنا اقف فوق مئئذنة مسجد احمد بن طولون ،وأستعد مثل عباس بن فرناس أو إيكاروس الأسطورة، للقفز والتحليق، فاذا بها تقطع على سعادتي بالحلم، لكي اقوم وأسلم على عم محمود بائع اللبن، الذي يقف عند الباب،و تطلب مني ان أعامله، بمقام جدي الحاج سيد محمد مرزبان مقريء القرآن الذي تخرج في الأزهر، وأنشأ أول ” كتّاب “في الحي..
من غير ماتبقي كريم.. ونبيل.. وشريف في افعالك، إيش تسوى غير حفنة تراب على الأرض يا آدم .. ؟
هكذا كانت أمي الحاجة سيدة سيد محمد مرزبان تردد، ولم أكن أعرف هذا الآدم الذي تخاطبه أمي في صلواتها..
وعندما غادرت مصر، وانطلقت في رحلتي الطويلة، وبعيدا جدا عن هنا، كانت دعوات أمي النوبية الحاجة سيدة سيد محمد مرزبان من قلعة الكبش، التي لم تتعلم القراءة والكتابة لا في ” كتّاب ” ولا مدرسة، تصحبني تحت بوابات العالم، فاذا بي – لدهشتي – أتبين جليا بعضا من ملامحها، في كل إمرأة عشقتها، وهي تسقيني من فمها الحليب..
( 2 )
كانت شمس الصباح الباكر يا كزانتزاكيس في حينا العريق ( قلعة الكبش ) قد أشرقت، وبدأت تدب حركة الحياة في شوارع وحواري وأزقة ، وعطفات الحي العتيق، وهو يطل من فوق هضبة ( جبل يشكر ) ، على الأحياء المجاورة. ويقال كما حكي لي جدي لأمي الحاج سيد محمد مرزبان، أن سيدنا نبي الله موسي ناجي من على ذلك الجبل ربه ، من فوق قمة الجبل، ونادي عليه..
طلب موسى – كما حكي لي جدي – من الرب، عدة أشياء، وأستجاب الرب لطلبه. نفذ له فقط عدة طلبات، وطلب من سيدنا موسى أن يحقق هو ذاته عدة طلبات أخري بنفسه..لذا فكرت وأنا صغير في لحظة تأمل، أن الرب لو حدث وإستجاب لكل دعواتنا وطلباتنا منه، لخربت الدنيا..
فقد كنت أدركت بمرور الوقت ، ومن خلال تجربتي الشخصية كطفل صغير وشقي جدا في حينا العريق، أن هناك طلبات انتقام من بعض العائلات في الحي ، لكي تحل اللعنة علينا ، نحن الأطفال الأشقياء في “قلعة الكبش” – دعوات مثل ربنا ينتقم منكم ياغجر – التي أنشأ فيها والى الخليفة على مصر أحمد بن طولون في القرن الثامن الميلادي مسجده العظيم – وعاصمة مصر الثانية ” القطائع ” بعد أن إحترقت العاصمة القديمة ” الفسطاط ” – وبمئذنته الفريدة ..
لمجرد فقط أننا كنا – في فترة الخمسينيات – نعيد تمثيل بعض مشاهد أفلام رعاة البقر “الكاوبوي”، التي كنا نشاهدها في قاعة ” سينما إيزيس ” – CINEMA ISIS– في شارع مراسينا، ولم تكن تعرض إلا الأفلام الأمريكية والأجنبية، وفيلمين في كل حفلة، وتبدأ أول حفلة في العاشرة والنصف صباحا، ، ومن ضمنها مشاهد اقتتال، و غارات حرب إبادة، تشنها كتائب من الجيش الأمريكي، على “الهنود الحمر” من سكان البلد الأصليين، وكنا نستخدم عندما نعيد تمثيل تلك المعارك، لفافات من الورق المحشوة بالتراب، كبديل لطلقات المدافع التي قدت من حديد، فكان بعض الصاعدين الى حينا من جهة الدحديرة، ومن ضمنهم أمهاتنا أحيانا يلعوننا ،ويدعون الى الله أن ينتقم منا، ونحن ،كنا نلعب فقط في الدحديرة – المصعد الحجري الصاعد الى حينا التاريخي العريق – و لم نقترف إثما..
طلبات إنتقام ، وسحل وقتل وحرق وإبادة، بسبب التقاعس، والخيبة ،وقلة الحيلة، والتخلف والجهل، للانتقام ليس فقط من شخص، أو حاكم بلد، بل الانتقام في مايشبه( التطهير العرقي )من شعوب باكملها، وطوائف وجماعات وديانات، وتطهير العالم، من إثمها ، وشرورها وإرهابها..وحسبي الله ونعم الوكيل ..
أجل حكي لي جدي لأمي (الحاج ) سيد محمد مرزبان. هؤلاء علموني، حكى لي كثيرا عن طلبات موسى من ربه في طفولتي،كما حكي لي كذلك أبي ( عم هاشم ) من منيا القمح شرقية، الذي علمني السباحة وعمدني في بحر النيل، لكنني لم أعد أتذكرها.. لم أعد أتذكر كل الطلبات، ولم أعد أتذكر كذلك ، بعض الطلبات التي إستجاب لها الرب، والطلبات التي لم يستجب لها، فلم تكن تلك الظروف والأحداث التي عشتها وخبرتها عند عودتي من باريس الي القاهرة، تسمح لي بالتفكير في أي شييء آخر،غير التفكير والتركيز في ذلك الشييء،الذي حضرت الى مصر من أجله ..
الا وهو – من جهة – البحث عن فيلم ” كلام العيون ” الذي كنت حققته كفيلم تخرج في جامعة فانسان – جامعة باريس 8 – في فرنسا، وكان صديقي محمد أمين مصور الفيلم، حمله معه ،عندما قرر “عودة نهائية” من منفاه في لندن، الى مصر..
ثم – ومن جهة ثانية – كتابة هذا التقرير الى الشاعر والمفكر والروائي اليوناني الكبير نيكوس كازانتزاكيس (1883- 1957) صاحب كتاب ” تقرير الى الجريكو ” وروايات ” زوربا اليوناني ” و “المسيح يصلب من جديد” و ” الإخوة الأعداء” التي ترجمها إسماعيل المهداوي المترجم المصري العظيم، ليكون بمثابة رسالة وسيرة ذاتية مختصرة ،أحكي فيها عن أمي النوبية الحاجة سيدة ،وأبي عم هاشم من منيا القمح شرقية، وجدي الحاج سيد محمد مرزبان الذي ترك لي في مكتبته “كتاب ” الفتوحات المكية ” لإبن عربي، وحينا العريق “قلعة الكبش” .شياخة السيدة زينب، وأنا أحمل أطفال قلعة الكبش فوق جبهتي وأطوف بهم العالم ، ويبدأ كتاب” تقرير الى نيكوس كازانتزاكيس. سيرة ذاتية مختصرة ” هكذا..
” إستيقظت أنا الحصان الشارد يا كزانتزاكيس على غير العادة مبكرا، وكانت شمس الصباح الحمراء الذهبية في حينا التاريخي العريق ( قلعة الكبش) قد أشرقت، ولم أنشغل بأكل أو شرب أو إفطار، لأكتب لك هذا التقرير..
وبدأت أجمع بعض القمصان، ، ورتبتها مع بنطلونين وكتابين، داخل حقيبة السفر.
ألتفتت الى ( الملكة الافريقية )، أمي الحاجة سيدة سيد محمد مرزبان، كما أحب أن أسميها.. وسألتني الملكة :
– أما زلت يا ولدي تزمع الرحيل ؟
قلت، وأنا أحاول أن أكتم عنها حزني في أعماقي، لفراقها، ومن يدري، ربما والى الأبد..
– أجل.
أخذت الملكة الافريقية نفسا عميقا ، وصمتت لبرهة، ثم عادت لتسأل وهي مترددة
– الى أين ؟
أجبتها بشكل حاسم، وقاطع ، مثل طعنة خنجر بغتة في الظهر، ومن دون أن التفت إليها
– بعيدا جدا عن هنا..
كانت صرخاته ياكازانتزاكيس،التي لم يلحظها أحد من سكان الحي من العجائز، مازالت تختلط في قصة ” الحصان الأبيض ” بنباح الكلاب، بينما كانت “طلبات الانتقام”من الأهالي، ترتفع من حينا و كل الأحياء المجاورة، وأنا أستمع الى أغنية قديمة، تتردد من مذياع قديم، وهي تتسلل قادمة من البعيد، من فوق قمة جبل يشكر، الى داخل الغرفة، وكأن “الملكة الافريقية” أمي الحاجة سيدة، هي التي كانت تغني لي، وتخاطبني أنا “الحصان الأبيض “الشارد بلسانها ، وكانت الأغنية تقول :
يامسافر لوحدك ..ليه تبعد عني .على نار الشوق أنا حاستنى..
وأصبر قلبي وأتمنى..
يامسافر لوحدك
ليه تبعد عني ؟
:::
يتبع
بقلم
صلاح هاشم
صلاح هاشم مصطفى قاص وكاتب مصري مقيم في باريس.فرنسا ، ومؤسس ” موقع سينما إيزيس ” عام 2005 في باريس
***
عن جريدة ” القاهرة ” العدد الصادر بتاريخ الثلاثاء 26 مارس 2024