نحن والغرب: الرؤى المتبادلة بقلم نبيل عبد الفتاح
نحن والغرب، أحد أبرز القضايا المركزية التى طرحها بعض الفكر العربى النهضوى، والمعاصر على سجالاته، وانشغالاته، وهمومه منذ مطالع النهضة العربية المغدورة، وحتى تراكمات التخلف التاريخى المركب وتفاقمها فى الحياة داخل المجتمعات العربية، وحول الدولة والسلطة، ونحن أمام تحولات استثنائية، ومشارف قطيعة مع تاريخنا وعالمنا كله، مع الثورة الصناعية الرابعة، وتطورها فائق السرعة.نحن وهم، هل لا تزال الرؤى المتبادلة ساكنة أم اعترتها تغيرات كبرى؟ هذا السؤال وغيره من الأسئلة التى تتناسل من أصلابه، وما وراءه وحوله، قد يبدو محملا بإرث من الإجابات المتعددة، ومعها بعض الثنائيات المتضادة، منذ صدمة الحداثة مع حملة نابليون بونابرت، ومع دولة محمد على وما بعده، ودولة المخزن فى المغرب، ونسبيا مع أول دستور تونسى فى العالم العربى 1861، فى عهد محمد الصادق باى.
إشكالية نحن وهم، والرؤى المتبادلة طرحت نسبيا مع التقدم الغربى، ومدافع نابليون، والتنظيم العسكرى، والمجمع العلمى، ونظام المحاكمة الجنائية –محاكمة سليمان الحلبى- وإلغاء السخرة، وسجلات المواليد والوفيات . ومع تداعيات الصدمة انفجر سؤال لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؟ الذى أطلقه فيما يعد شكيب أرسلان -، وتناسلت الثنائيات الضدية، الدين والتقدم والتخلف، والنص والعصر، والأصالة والمعاصرة، والتقليدية والحداثة. فى ظل هذه الثنائيات الضدية، تشكلت مدارس الفكر والعمل السياسى، من المدرسة شبه الليبرالية، والإسلامية السياسية، والسلفية، والماركسية وتأويلاتها ومنظماتها السرية، وحركة القومية العربية. الثنائيات الضدية، وأسئلتها العامة والسائلة، كانت تدور حول الأسئلة التى تبدو بسيطة، ومعها بعض الإجابات العامة التى تجاوب عن كل شىء، ولا تجاوب عن شىء ما!
لم تكن ثمة رؤى متبادلة، سوى تشكل صور نمطية من كل طرف تجاه الآخر، حيث تسيطر الرؤى الكولونيالية والاستشراقية، التى تحولت بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربى، إلى رؤى امبريالية، ونمط من خبراء المنطقة. من المنظور العربى، كان الاستشراق المرتبط بالكولونيالية ينمط العالم العربى، والإسلام، وقلة هى من حاولت فى دأب دراسة المنطقة، وتاريخها، وأديانها ومذاهبها على نحو ما فعلت المدرستان الألمانية والنمساوية.
كان الغرب ولا يزال يبدو واحدًا فى العقل العربى المسيطر مثل الغرب والإسلام فى بعض العقل الغربى الاستشراقى والسياسى، كان الغرب الواحد فى الإدراك العربى النخبوى، سائدا ولا يزال على الرغم من تعدده، وتعقد مجتمعاته وخصوصياتها وهوياتها، ونظمه الاجتماعية والسياسية، وأنماط إنتاجه وعلاقاته فى إطار الرأسمالية الغربية فائقة التطور، وتم اختصارنا فى الدين ومذاهبه على أهميته، أو فى الحفريات الأثرية . ثمة قلة من أميز العقول العربية هم من تابعوا فى أناة، وتعمق، مجريات التغير والتحول فى الغرب المتعدد من منظورات نقدية، وحاولت تفكيك أساطيره، وبعض أوهامه، ونزعت عنه سحره، ورهاب الخوف منه لدى النخب السياسية والفكرية العربية المفتونة به والملتاعة والخائفة من عقابه.
السياقات السياسية، والثقافية، والاجتماعية المتغيرة فرضت أسئلة جديدة مع انهيار حائط برلين ومعه انهيار الإمبراطورية السوفيتية، ثم صدمة الحادى عشر من سبتمبر ومابعد، والقاعدة، وداعش والسلفات الجهادية، وتحولات فى مواقع القوة الدولية، مع الإمبراطورية الأمريكية الإمبريالية، وسطوتها على دول حلف الأطلنطى «الناتو»، ثم صعود آسيا حول الصين، والهند وكوريا الجنوبية، وسنغافورة وماليزيا، وتحول الصراع الدولى من الشرق الأوسط إلى جنوب شرق آسيا قبل طوفان الأقصى. كل هذه التغييرات أدت إلى طرح أسئلة مغايرة لأسئلة محاولات النهضة العربية المجهضة. تغير السياقات، وصعود اليمين المتطرف والإسلاموفوبيا والمواقف الداعمة لسياسة الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين فى قطاع غزة، وتراجع أدوار فعالية وفاعلية الأحزاب والمؤسسات السياسية والحزبية نسبيا، والتمرد عليها من بعض الطبقات الوسطى فى فرنسا، وبلجيكا على سبيل المثال، كشفت عن تآكل الجاذبية التاريخية للغرب فى بعض نخب جنوب المتوسط.
الغرب متعدد، ومركب، ومعقد، وذو تواريخ متعددة وثقافات متغيرة، مع تحولات عالم المابعديات، والسرعة الفائقة، وثورة الاتصالات، التى أدت إلى تكريس مفهوم نهاية المثقف وأدواره، مع التخصصات الدقيقة، والأهم أثر ذلك على الفلسفات الغربية، وتطوراتها والفجوة بين مفاهيمها المعاصرة، وجذورها فى الفلسفات والفلاسفة السابقين، خاصة مع السرعة الفائقة، وأيضا مع دولة الاستهلاك المفرط، وحرية الاستهلاك الكثيفة التى احتوت معها بعضا من الحريات الأخرى، وكسرت دلالاتها فى أنظمة سياسية ليبرالية تمثيلية، وباتت تؤثر فى مسارات المصارف، والشركات الكونية النشاطات والإنتاج السلعى والخدمات.
تراجع الغرب الأوروبى، مع هيمنة الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة فى سياسات الإنتاج وعلاقاته، ونهاية مفهوم العمل التقليدى، وأثرها على فعالية الحريات العامة، والشخصية وتحولها إلى استهلاك مكثف وتمثيل واستعراضات، وهو ماأدى إلى تغير فى مفاهيم الأنسنة والإنسانية، لصالح حرية الاستهلاك واللذات السريعة، ومن ثم إلى تراجع نسبى فى الاهتمامات الغربية بالديمقراطية والحريات فى مجتمعات العالم الأخرى.
الغرب، أو المجتمعات الغربية المتغيرة، بدأت مع اليمين والشعبوية وعالم ما بعد الحقيقة، تحاول المفاصلة مع جنوب المتوسط واستبعاد بعض من حضوره الأقلوى على أراضيها، ومراقبة الحدود، وطرد موجات الهجرة غير الشرعية، ودعم الأنظمة التسلطية التى تواجه هذه الهجرة بقطع النظر عن مدى احترامها لحقوق الإنسان. لم تعد الوظائف التبشيرية لحقوق الإنسان والقيم الليبرالية، تمثل ذات الأهمية والثقل فى أثناء الحرب الباردة، وبعدها بقليل عقب تفكك الإمبراطورية السوفيتية. قلة من المفكرين العرب البارزين هم من تعاملوا مع الغرب المتعدد من خلال المتابعة العميقة لمجريات مجتمعاته وأنظمته وسياساته، ومعارفه، والأهم الانتقال من المركزية الأوروبية والغربية، والمفهوم الشائع عن الغرب الواحد الجامع لتعددياته إلى نقد المركزية الأوروبية، والغربية، ونظامها الرأسمالى الإمبريالي.
نحن أمام مشارف مرحلة فى التاريخ الإنسانى جد مختلفة عما سبقها تماما. من هنا تنفجر أسئلة مختلفة، ومعها مقاربات تحليلية مغايرة تماماً، من الاصطلاحات، والمفاهيم والنظريات، ومقارباتنا لهذا التحول الكبير. لم تعد هذه الإشكاليات المختلفة مقصورة على الغرب، وإنما تمتد لتواجه الوجود الإنسانى كله، وثقافاته المتعددة فى شمال العالم وجنوبه ومن ثم لن يكون عالم الإناسة الروبوتية مقصورا على أمريكا والشمال، وإنما هناك عالم آسيا الناهضة، وإبداعاتها التقنية الهائلة حول الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية والهند. ثمة ثقافات أخرى، وأديان ومذاهب وضعية وتاريخية عميقة الجذور علينا الانفتاح على هذه الأنظمة الدينية والمذهبية وثقافاتها، لنفهم من منظورات نقدية ما الذى يدور فى عالمنا المتحول.
الأهم هو الانفتاح على تيار التجديد فى الفكر الدينى الإسلامى، واللاهوتى الأرثوذكسى فى منابعه الصافية، حتى نستطيع أن نشارك فى إنتاج أسئلة جديدة، مع الغرب/ الفردى، ومع آسيا الناهضة. من هنا تبدو أهمية مقاربة البروفيسيور عبدالإله بلقريز والبروفيسيور محمد المعزوز، فى معرض الكتاب حول الرؤى المتبادلة بين نحن وهم، وهما من أبرز المفكرين العرب النقديين المعاصرين، ومن سلالة قلة القلة ممن أبدعوا معرفيا – كل فى تخصصه – وأثروا الثقافة العالمة، أو العليا ووسموها بالسمت النقدى فى مواجهة العقل النقلى الساكن فى لغته واصطلاحاته منذ مطالع النهضة العربية وإلى الآن، العقل النقلى فى تعدد منابعه الدينية وشبه الحداثية الذين انتجوا اللغة الخشبية، أو الكلام الساكت.
بقلم
نبيل عبد الفتاح
نبيل عبد الفتاح كاتب وباحث ومفكر مصري تنويري ومستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
***
عن جريدة ” الأهرام ” بتاريخ 30 يناير 2025 لباب ” مختارات سينما إيزيس “