النقد الأدبي محكوم عليه بالجمود مالم يغادر أسوار الجامعة.حوار مع د.يسري عبد الله أجراه ياسر الشيمي
إستهلال :
في هذا الحوار الذي أجراه الصحفي المتميز ياسر الشيمي مع د.يسري عبد الله الناقد والأديب والأستاذ الجامعي المصري الكبير ونعيد نشره هنا في باب ” مختارات سينما إيزيس ” ،نتعرف على قضايا عديدة: شواغل النقد والفكر والإبداع، والسياسات الثقافية ،وقيم النقد والإستنارة، ودور المثقف الآن،
ومايمكن أن يحدث للنقد الأدبي، إذا لم سغادر أسوار الجامعة، ليدخل في معترك النضال اليومي، من أجل التغيير، وتطوير بلدنا، وهو يساهم ويشارك ، في خلق ” ذائفة نقدية جديدة، ويستنشق نسيم الحرية، والحق والخير والجمال
شكرا حبيبنا وناقدنا الأدبي المصري الكبير د. يسري عبد الله ، على هذا الحوار الثمين المهم الرائع ، الذي يفتح سكة ، في الهواء الطلق، خارج أسوار الجامعة، لكل المشاءين الكبار..
صلاح هاشم
كاتب وناقد ومخرج سينمائي مصري مقيم في باريس قرنسا.مؤسس ورئيس تحرير موقع ” سينما إيزيس الجديدة “
***
حين يتأمل الناقد العالم بعينٍ مفتوحة على الجمال، وعقل لا يعرف السكون، تصبح الكلمة حفّارة في طبقات الوعي، لا تبحث عن الزينة بل عن جوهر الأشياء، وفي المشهد الثقافي المصري، حيث تتقاطع سلطة التراث مع أسئلة الحداثة، وتتنازع الأصوات بين صدى الماضي وضجيج الحاضر، ينهض النقد بوصفه الحارس الأخير للمعنى، والدليل الذي يشق الممرات إلى ما وراء اللغة.
لكن، هل بقي النقد الأدبي حبيس أسواره الأكاديمية؟ أم أنه وجد سبيله إلى الواقع، مسلحا بجرأة الفكر وبصيرة الفن؟
مع الدكتور يسري عبد الله، الناقد والمفكر الذي لا يكتفي بأن يقرأ النص، بل يصغي إلى صمته، نحاول أن نعيد رسم خريطة النقد، ليس كفن مغلق، بل كممارسة تتصل بالسياسة والثقافة والحرية، وتشير دائما إلى ما لم يُكتب بعد.
كيف يمكن خروج النقد الأدبي من حدوده الأكاديمية المنغلقة ليعبر عن الواقع الاجتماعي والثقافي في مصر؟
ثمة مشكلة حقيقية لدينا، تتمثل في أننا نتعامل مع الخطاب النقدي بوصفه كتلة واحدة، أو أنه يحمل مستوى أحاديا، مع أنه توجد مستويات متعددة للخطاب النقدي تبدأ بكونه تمييزا ما بين الجيد والرديء، ثم تتبلور في كونه كشفا منهجيا عن جماليات النص الأدبي، وصولا إلى كونه إبداعا موازيا للنص، ووعي معرفي وجمالي بالعالم.
إن خروج النقد الأكاديمي من أسوار الجامعة يستلزم انفتاحا حقيقيا على الواقع الثقافي، وممارسة جمالية ومعرفية تنظر إلى النقد بوصفه رؤية للعالم.
د.يسري عبد الله
التراث ليس صنما.. والمستقبل لا يُكتب بنسخ الماضي
النقد الأدبي بمصر ينشغل بالتراث العربي القديم.. كيف يكون -في رأيك – إطارا ، لتناول قضايا ما بعد الحداثة، والهوية المعاصرة؟
هناك ما يعرف بالتخصص الدقيق، فالنقد العربي القديم له دارسوه، مثلما يوجد دارسون مجيدون للنقد الحديث، ومحاولة تمثل بعض الإطارات النظرية القديمة وفرض رؤاها على النص الجديد كارثة حقيقية، ولا ينفي هذا إمكانية الوصل ما بين القديم والحديث، من دون تلفيق أو افتعال، وهذا ما يفعله القليلون لدينا بدأب شديد.
أترى تأثيرا للتيارات الحديثة والعالمية على النقد الأدبي حاليا في مصر؟
بالطبع، النظرية النقدية بالأساس نظرية عالمية، متعددة التيارات، والمذاهب، وليست كتلة واحدة، فهناك النقد الإنجليزي، والنقد الفرنسي، والنقاد الروس، والألمان، والإيطاليون. وهكذا. هنا تتجاور أصوات متعددة من قبيل: جورج لوكاتش، أرنست فيشر، لوسيان جولدمان، تيري إيجلتون، رولان بارت، تيودور أدورنو، إمبرتو إيكو، فرانسوا ليوتار، وغيرهم. فالتصورات الفلسفية والمعرفية والجمالية متعددة، وتتسم بالتنوع الخلاق، وهو ما يعزز من ديمقراطية الخطاب النقدي.
والأهم هو أن ننظر إلى الإسهام العربي في مجمل النظرية النقدية، وهو إسهام لم يزل يحتاج إلى المزيد من العمل، والدرس النقدي، ومقاربة النصوص من الداخل، والتماس مع ذلك العصب العاري داخلها.
برأيك ما مدى تقبل النقد الأدبي لزحف التجريب في الأدب وأساليب الكتابة غير التقليدية؟
التجريب روح الكتابة، وأعتقد أن المشكلة لدينا في التوظيف المغلوط للمصطلح، ولا تنس أن لدينا أزمة حقيقية ومتجددة باستمرار في المصطلح النقدي. التجريب يسير مع الكتابة حيثما سارت، وما كان تجريبيا بالأمس لم يعد تجريبيا اليوم، فالتجريب فعل إبداعي مستمر.
لاحظ معي أن فكرة الإبداع ذاتها تعني الإنشاء على غير مثال سابق، ولذا فالتجريب وسيلة لكتابة نص فريد، ومختلف، لكن المهم مدى الوعي بتراث الفن، واستيعابه، والبناء عليه، ومجاوزته استنادا على أرض صلبة يقف عليها المبدع، ليتخطاها، وينحو صوب وجهة فنية جديدة.
أيعتبر نقد الأدب المصري مدخلا لفهم السياسات الثقافية في مصر؟
هذا ما يجب أن يكون، فالخطاب النقدي ليس خطابا تقنيا فحسب، إنه تعبير معرفي وفلسفي وجمالي عن إمكانات ما يسمى بالعقل النقدي، القائم على المساءلة، والمراجعة المستمرة، وهذا ما نحتاجه في خلق سياسات ثقافية ناضجة، وحيوية تعيد الاعتبار للقوة الناعمة المصرية، وتعزز من النفوذ الثقافي المصري، في ظل لحظة مفصلية على المستوى الثقافي تتعدد فيها مراكز إنتاج الثقافة العربية، وتتنوع. والعقل النقدي قادر على صياغة استراتيجية ثقافية شاملة، تتجاوز الرطان إلى التطبيق.
كيف يؤثر الفكر النقدي على حريات التعبير في الأدب؟
الفكر النقدي يتكيء على توسيع البراح المعرفي والجمالي، وخلق بيئة خصبة من الأفكار والتصورات، وإنشاء سياق غني بالأسئلة الفلسفية والفنية.
النظرية النقدية عالمية.. لكننا نحتاج لإسهام عربي أكثر جرأة وعمقا.
الكتابة الأدبية في مصر دخلت عصرا جديدا مع التكنولوجيا الرقمية أم أنها مازالت تدور في إطارها القديم؟
طيلة الوقت كانت الكتابة ابنة للتنوع والاختلاف، وهذا يعني أنها غنية بالتحولات المختلفة، ولا شك أن جانبا من هذه التحولات يحيا حالا من الجدل مع العالم الرقمي الجديد، والثورة التكنولوجية الهائلة.
أما إذا كنت تريد أن تشير إلى أثر الذكاء الاصطناعي في التحولات المشار إليها، فيجب أن ندرك أن الإبداع فعل إنساني بالأساس.
هل يعكس النقد الأدبي مواقف السلطة الثقافية أم أنه حقل مفتوح للحرية الفكرية؟
النقد والحرية صنوان أساسيان، ونحن بحاجة حقيقية إلى استعادة مفهوم الناقد المفكر، القادر على صياغة خطابات جديدة، والعارف بتحولات النظرية الأدبية، والذي يحمل ذلك الوعي اليقظ والممكن بالعالم، وسياقاته السياسية والثقافية، والمنطلق من كونه يمتلك سلاحين أساسيين: الجدارة والنزاهة، وكلاهما لا غنى عنه بالنسبة للناقد الحصيف الذي يبدو مثل الرائد الذي لا يكذب أهله.
التجريب ليس ترفا.. بل روح الكتابة ومبرر وجودها.
إلى أي مدى يمكن اعتبار النقد في مصر مجرد أداة لتمجيد الأدب المهيمن أو يتخذ من الكُتاب الأكثر شهرة أو الأكثر مبيعا هدفا لتقييم الأدب؟
لا يمكن على الإطلاق أن نطلق أي تعميمات مجانية على الحالة النقدية في مصر، أو المشهد النقدي العام، لأنه ليس كتلة واحدة.
صحيح أن هناك نقادا يتأثرون بمفاهيم الرواج، وظاهرة البيست سيلر، لكن ثمة نقاد آخرون يظلون أوفياء للكتابة الحقيقية.
وفي هذا المقام أيضا لا يمكن اعتبار كل النصوص التي تدخل في نطاق البيست سيلر رديئة، لأن هذا يعد إجحافا كبيرا، الفن هو الفن، ومقاربته يجب أن تتم دائما من دون تصورات جاهزة أو مسبقة أو معدة سلفا.
كيف تتعامل الحركة النقدية في مصر مع تطور الأدب النسوي والفكر النقدي المرتبط به؟
الأدب النسوي أحد أهم الموجات الجمالية في الواقع الأدبي المعاصر، والحركة النقدية بها عطب شديد، لأننا باختصار أمام آحاد من النقاد الاستثنائيين، وغياب لما يعرف بالحركة النقدية الشاملة.
أترى أن النقد الأدبي في مصر قادر على التأثير بشكل فعّال على صناعة الأدب في العالم العربي كله، أم أنه يظل محدودا في نطاق محلي؟
على الرغم من بعض الانتقادات التي قد نوجهها للمشهد النقدي الراهن، إلا أن هذا لا يعني موت النقد لدينا، ولا تنس أن الممارسة النقدية التطبيقية على الأقل لدينا لم تزل متوهجة، نحن في البدء وفي الختام أحفاد طه حسين، وهو كبيرنا الذي علمنا التفكير النقدي.
حين كنت في زيارة علمية في المغرب، وفي الجلسة الافتتاحية للمؤتمر امتلأت القاعة الكبرى في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة عبدالمالك السعدي في مدينة تطوان، بأساتذة وباحثين وكتاب وطلاب، وبدأ الصديق البلاغي والناقد الدكتور محمد مشبال فى تقديمي ووجدت نفسي أستشعر المسئولية ذاتها التي لازمتني منذ وجهت لي الدعوة، وجاءتني النصوص الإبداعية للكتاب المغاربة قبلها بشهور بعيدة، فمشبال يتكلم ويسهب في تقديمي وأنا تدور في رأسي صور عن نقاد عظام في الحقيقة لطالما رفدوا النقد العربي بإسهامات جادة وحقيقية، وفي (بيت الحكمة) بوسط تطوان كان هناك لقاء مفتوح معي عن السرد الروائي والقصصي في تطوان، بدا كل شيء مثاليا، وإنسانيا فى آن، عشرات الكتاب والمثقفين المغاربة تزخر بهم القاعة، معهم أيضا عشرات الباحثين والطلاب، في مشهد دال يعيد الاعتبار لجملة من القيم الفكرية والإبداعية، ووجدت نفسي حين شرع الدكتور الإمام العزوزي قائلا: نرحب بالناقد يسري عبدالله من جمهورية مصر العربية، استشعرت رجفة أذهلتني، وأنا الرجل الذي اعتاد المنصات، فألفته وألفها، إلا أن ذكر وطننا العظيم أحالني إلى باحث عن مرفأ للأمان، فكان استحضار طه حسين وكل الأساتذة العظام الذين علمونا، وهم كثر، ومن هنا انطلقت في حديث ممتع وممتد لثلاث ساعات تقريبا.
وأنا هنا قد ضربت مثالا ببلد وهو المغرب الشقيق لديه إسهام نقدي شديد الخصوصية والأهمية في النقد العربي المعاصر. النقد المصري وبثقة شديدة لم يزل بخير.
أما زال الناقد الأدبي في مصر يتابع ويوجه رسالة الإبداع أم أن دوره اختفى كما يرى البعض وفقا لمقولة «موت الناقد»؟
لا يمكن التعميم على الإطلاق، فالتعميم ضد المنهج العلمي، هناك منتديات ثقافية فاعلة يقيمها نقاد مؤثرون في خريطة المشهد الثقافي المصري والعربي، ويشاركون فيها، وهي أكبر دليل على أن دور الناقد لم يزل حاضرا بقوة، وسيظل، فالعملية الإبداعية بشكل عام، والفن له أجنحة متعددة من بينها الخطاب النقدي، ولا تنس الكتابات النقدية الجادة، والكتب الفكرية والنقدية التي يصنعها نقاد ومفكرون مميزون.
هل يتفاعل النقد الأدبي في مصر مع الأدب الشعبي كما كان في الماضي أم أنه أصبح لا يلقى قبولا في الدوائر الأكاديمية؟
هناك متخصصون متميزون في الأدب الشعبي، ونحن لدينا تاريخ من الممارسة النقدية في هذا السياق ينهض عليه أجيال متعددة، كل منها يسلم الراية إلى الجيل الذي يليه، ومدرسة آداب القاهرة في الأدب الشعبي لها إسهامات مهمة في هذا السياق.
أيظل النقد الأدبي في مصر أسيرا لمفاهيم «الجمال الأدبي» التقليدية، أم أن هناك سعيا لإعادة تعريف «الجمال» في الأدب وفقا للمتغيرات الثقافية والاجتماعية؟
النظرية النقدية ابنة التحولات اللانهائية، وفي ظل عالم من السيولة الممتدة، لا يمكن للمفاهيم أيا ما كانت أن تقف عند نقطة بعينها، ربما يحتاج النقد الأدبي لدينا إلى الانفتاح على المفاهيم الأكثر حداثة في علم الجمال.
كيف ترى مستقبل الكتابة الأدبية في مصر.. وهل يمكن وجود نجيب محفوظ جديد؟
هذا سؤال مهم، ولأهميته فقد صنعنا في منتدى “أوراق” بصحيفة الدستور، محورا ارتكز على التساؤل عن مستقبل الرواية العربية، وكذا نفعل مع القصة القصيرة.
يجب أن ندرك أنه لا سقوف في الكتابة، ونجيب محفوظ هو المطور الأهم في الرواية العربية، والمؤسس الحقيقي لكثير من تحولاتها الفنية والتقنية، بل والموضوعاتية، لكن هذا لا يعني غياب الآخرين، أو عدم إمكانية تجاوز السقف، لأنني كما أشرت منذ قليل، لا سقوف في الكتابة، ومصر بها أجيال رفدت الكتابة الإبداعية بنتاج مهم وفاعل، وهي بلد ولود إبداعيا، ومتجدد مثل نهر متدفق.
ما مدى تأثير التكثيف اللغوي والاقتصاد في الوصف على عمق المعنى في القصة القصيرة مقارنة بالأشكال السردية الأطول مثل الرواية؟.. وهل يمكن اعتبار التكثيف قيدًا إبداعيًا أم محفزًا على الإبداع؟
لكل فن خصوصيته الجمالية التي تميزه، مع الأخذ في الاعتبار أن ثمة تداخلات قد حدثت بين الأنواع الأدبية المختلفة، فالقصة قد تستعير بعضا من جماليات الرواية، أو الشعر، أو السينما، وهكذا قد تفعل الرواية. والتكثيف في القصة القصيرة لا يمكن أن يعد قيدا على الإبداع، طالما كان ابنا للمنطق الجمالي للنص، واختيارا جوهريا من المبدع ذاته.
في ظل التحولات الرقمية وسرعة إيقاع الحياة المعاصرة، هل تعتقد أن القصة القصيرة قادرة على الاحتفاظ بدورها كأداة فنية مؤثرة في وجدان القارئ؟
الكتابة الأدبية تعانق التكنولوجيا.. لكن جوهرها إنساني لا آلي.
كل فن ينتج جمالياته الخاصة، وقدرته اللانهائية على التأثير في المتلقي، وفي ظل هذا الإيقاع الحياتي اللاهث ربما تعد القصة من أنسب الأشكال الفنية تواؤما مع روح العصر الجديد.
كيف يمكن للكتاب المعاصرين إعادة توظيف عناصر القصة القصيرة لجذب انتباه القراء في العصر الرقمي؟
إطلاق طاقات الخيال الإبداعي حجر الزاوية في هذا السياق، وعدم الركون إلى النظرة الثابتة إلى العالم، فالإبداع استجابة جمالية لواقع متغير باستمرار.
في ظل هيمنة المحتوى البصري على الخيال الجمعي، كيف يمكن للرواية أن تحافظ على قدرتها في تحفيز خيال القارئ؟ وهل يعد ذلك تحديا إبداعيا للروائيين المعاصرين أم فرصة لاستلهام أساليب جديدة في السرد؟
إن شحوب الخيال أقسى ما يواجهنا، والارتكان إلى ما أسميه دائما ( السرديات الجاهزة)، أتذكر دائما الفيلسوف والمفكر الفرنسي فرانسوا ليوتار، وهو يشير إلى ذلك الأدب الطليعي، ليس بالمعنى الأيديولوجي بالطبع، لكن بالمعنى الفني الذي يزاوج فيه الكاتب بين الأصيل والفريد، والأصيل هنا المبني على ذاته، وكلاهما ينتجان ذلك المعنى الجليل للأدب.
عن جريدة ” الوطن ” بتاريخ 12 يونيو 2025